مراحل النقدالأدبي و التحدیث فیه بمصر

د. معراج الدين الندوي

 

النقد هو استعداد انسانی ومیل  فطری فی أساسه، فما من شخص طبیعی إلا وله تصورات وآراء متنوعۃ تبدو معجبۃ أو متحفظۃ أو رافضۃ لمشاهد مختلفۃ وأفكار ونظریات یبدیها الآخرون. ومن هذه النوازع الفطریۃ بدأت فكرۃ النقد ولكنه یحتاج إلی موهبۃ خاصۃ، وإلی ثقافۃ منوعۃ ومنظمۃ، وهكذا یمكن أن نقول ان كل أدب إبداعی یصاحبه نقد وأنه علی قدر نشاط الإبداع الأدبی وتنوع أشكاله ودرجته من الجودۃ یكون النقد، ویمكننا أن نراقب هذا التوازی فی بدایات النقد القدیم دون صعوبۃ، فقد ظهر أرسطو ناقداً وألف كتابه ”الشعر" عن فن المسرح زمن ازدهار المسرح الإغریقی فی القرن الخامس قبل المیلاد، وفی النقد الأدبی العربی آثار المتنبی حول شعره حركۃ نقدیۃ ضخمۃ سواء لإبراز تفوق موهبته أم لإظهار إحالاته وسرقاته وأخطائه، أم لإجزاء الموازنات والوساطۃ بین ماتفوق فیه وما هو منذ ذلك.
لقد جری عرف الباحثین بأن العصر الحدیث یبدأ مع نزول الحملۃ الفرنسیۃ فی مصر (1798م) اعتماداً علی أن هذه الحملۃ حققت الاتصال بین أوربا والشرق العربی، هذا الاتصال الذی ترك آثاراً عمیقۃ فی الحیاۃ الثقافیۃ والإجتماعیۃ، والعلمیۃ والسیاسیۃ فی مصر وإن یكن من الواضح لكل أن هذا الامتداد الزمنی الذی تجاوز القرنین لم یكن كله مؤثرا فی العلوم الإنسانیۃ، وربما فی النقد الأدبی خاصۃ، الذی تأخر أخذه بأصول المناهج  الغربیۃ ربما إلی أوائل القرن العشرین، وكذلك تختلف مراحل التأثر وصوره واتجاهاته، اذ كان تأثیر الثقافۃ الفرنسیۃ غالباً فی مرحلۃ، والإنجلیزیۃ فی مرحلۃ أخری. إن محمدعلی أرسل البعثات المصریۃ لدراسۃ العلوم الحدیثۃ إلی فرنسا، وكان رفاعۃ الطهطاوی بمثابۃ ”مقدمۃ“ للتعریف بالحضارۃ الغربیۃ وتبعه علی مبارك، وظل التأثیر الفرنسی غالباً فی مصر. 
إن العصر الحدیث إذا رجعنا إن التقسیمات الغربیۃ، قدیبدأ من عصر النهضۃ الأوربیۃ، فی القرن الخامس عشر أو السادس عشر، وقد أعید فیه بناء الكلاسیكیۃ بما عرف بالكلاسیكیۃ الجدیدۃ وأعقبتها الرومانسیۃ  ثم الواقعیۃ، فالرمزیۃ أما النقد الأدبی فقد تأخرت فیه حركۃ الحداثۃ حتی بدایات النصف الثانی من القرن ا لعشرین فإن میلاد النقد العربی الحدیث یعود فی الأساس وكما أشار إلی ذلك الدكتور یوسف نجم إلی ثلاثۃ أعمال وهی علی التوالی:
مقدمۃ إلیاذۃ هومیروس، لسلیمان البستانی وتاریخ علم الآداب عند الإفرنج والعرب  و فكتور هوجو، لروحی الخالدی ومنهل الوراد فی علم الانتقاد، لقسطاكی الحمصی.2
ومع أن أغلب هذه الكتب تندرج فی باب الأدب المقارن، فإنها تعد وثائق هامۃ فی تاریخ النقد العربی الحدیث نظرا لما تطرحه من تصورات ومفاهیم حول الأدب.
النقد القدیم فی القرن التاسع عشر:
كانت صور النقد الأدبی فی مصر فی مطلع القرن التاسع عشر المیلادی تبدوفی تلك المناقاشات اللفظیۃ التی كانت تجری فی دروس الأزهر ومعاهده، ولم تكن النظرۃ للكلام خلال هذه المناقاشات سوی نظرۃ نحویۃ أو لغویۃ و هكذا كان یقاس الأدب عندهم، لاسیما عندما یقفون علی نادرۃ من ذلك أو عقدۃ فیه، فانهم حینئذ یزدادون به معلقاً واعجاباً وكان مثلهم الأعلی فی مقیاسهم الأدبی كله هو الشعر الجاهلی وشعر صدر الإسلام.
ورغم النهضۃ التی تمیزبها عصر محمد علی فی أوائل القرن، فانه لانصرافه للناحیۃ العلمیۃ دون الأدبیۃ، كان الأسلوب الأدبی فی عصره ضعیفاً ركیكاً تمثله ”الوقائع المصریۃ“ ویمثله ”تاریخ الجبرتی“ وغیرها، كما أن النقد الأدبی ظل علی حاله اللغویۃ تلك. ولم یتجاوز فی موضوعه تقریظ الكتب وإطراء الأدباء، والمبالغۃ فی ذلك جمیعه.
ثم جاء عصر اسماعیل بعد ركود عصری عباس وسعید، فاشتد الإتصال بالغرب، واشتدت العنایۃ بالأدب العربی، كما اشتد التأثر فیه بالأدب الأجنبی، وكان أثر ذلك واضحاً فی الأسالیب الكتابیۃ، إذ عنیت بالفكرۃ وبالأسلوب ا لسهل والقصد فی الألفاظ كما أنها بعدت عن التكلف والصنعۃ البدیعیۃ والمبالغۃ والمقدمات الطویلۃ والخیال السخیف. و وجد فی أخریات عهد اسماعیل وفی عهد توفیق من یحاول من الكتاب رسم طریقۃ جدیدۃ فی الأسلوب لیتحتذیها الأدباء وكان من أولئك الرواد أدیب اسحق وعبدالله ندیم، فمما قاله أدیب إسحق:
”رأیت أن أصرف العنایۃ إلی تهذیب العبارۃ وتقریب الإشارۃ، لتقریب المعنی فی الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام وانتقاء اللفظ الرشیق للمعنی الرقیق متجنباً من الكلام ما كان غریباً وحشیاً، ومبتذلا سوقیا، فإن التهافت  علی الغریب عجز، وفساد التركیب بالخروج عن دائرۃ الإنشاء داء اذا سری فی القراء والمطالعین أدی إلی فساد عام، وأغلق علی الطلبۃ معانی كتب العلم، والتنازل إلی ألفاظ العامۃ یقضی بامانۃ اللغۃ وإضاعۃ محاسنها، وإن فی لغۃ القوم لدلیلاً علی حالهم".3
وهكذا یمكن لنا أن نقول صریحاً إن حیاۃ النقد الأدبی فی مصر ظلت  خامدۃ فی العصور الأخیرۃ حتی حصل احتكاكها فی العصر الحدیث بالغرب، فإذا بنا نشهد فی عصر اسماعیل بدایۃ لحیاته من جدید، ولكنه كان لفظیاً لغویاً فی جملته معمماً للأحكام معتمداً للبیت الواحد دون سائر العقیدۃ ودون سائر الشاعر فإذا ببیته أشجع بیت قالته العرب أو أغزل بیت أو أحكمه أونحو ذلك ولكن هذا النقد كان علی أی حلل یحمل اتجاها جدیداً ودعوۃ جدیدۃ لتحرر الأسالیب، وكان كل ذلك بمثابۃ التمهید لظهور نقد حدیث یقوم علی أسس ومقاییس تختلف عن الأسس والمقاییس القدیمۃ.
ولعل الشیخ حسیناً المرصفی بكتابه الشهیر ”الوسیلۃ الأدبیۃ" خیر من یمثل لنا ذلك النقد اللغوی فی أواخر القرن التاسع عشر تمثیلاً صحیحاً، فإنا نقول كذلك إن الشیخ حمزۃ فتح الله كان أیضاً یمثل لنا بكتابه ”المواهب الفتحیۃ" الاتجاهات النقدیۃ المختلفۃ فی أخریات ذلك القرن. یعرض بعض التوجیهات والآراء العامۃ فی المقارنات والنقد التی سبقه إلیها االنقاد القدماء، والتی یقرها هو، ویدعو للأخذبها، والحرص علیها، فهی علی ذلك تمثل اتجاهه فی النقد وتلقی ضوء اً علی الاتجاهات القدیمۃ التی ظلت مسیطرۃ علی النقد حتی آخر القرن الماضی. 
ومن صور النقد القدیم فی أخریات القرن التاسع عشر ماكتبه الأستاذ محمد المویلحی فی نقد أحمد شوقی، عندما أصدر شوقی الطبعۃ الأولی من دیوانه عام 1898م وقد بدأ الأستاذ محمد المویلحی یكتب نقده فی جریدۃ ”مصباح الشرق“ فنقد جزء اً قلیلا من الدیوان،كما نقد مقدمته،ولكنه لم یتابع هذا النقد لأسباب ما. 
والآن نرید أن ننتهی عند الشیخ سید بن علی المرصفی الذی یمثل النقد اللغوی القدیم فی آخر القرن الماضی ومطلع القرن العشرین، وقد كان مذهبه فی النقد یبدو فی دروسه لتلامیذه بالأزهر، كان یفسر لهم حماسۃ أبی تمام وكامل المبرد وأمالی أبی علی ا لقالی. كان ینحو فی هذا التفسیر مذهب اللغویین واالنقاد، من قدماء المسلمين فی البصرۃ و الكوفۃ وبغداد مع میل شدید النقد،وانصراف شدید عن النحو والصرف وما ألف الأزهریون من علوم البلاغۃ. 4 
ولنا أن نقول هذه الدراسۃ الموجزۃ إن النقد الأدبی خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرین كان نقداً لغویاً فیه ذاتیۃ كما فیه موضوعیۃ مع تقدیر الحكم الذوق، ومیل للاسطرار.
وهناك نجد عوامل عدۃ تضافرت علی توجیه النقد وجهۃ أخری غیر تلك التی نعرفها، وكانت الحملۃ الفرنسیۃ علی مصرفی أخریات القرن الثامن عشر فی مقدمۃ تلك العوامل، التی ظلت متضافرۃ متعاونۃ، وظل النقد بینھا متخذاً ذلك المذھب القدیم، إلی ان انقضی القرن التاسع عشر، وبدت تظھر بوادر مذھب جدید أو حدیث فی النقد الأدبی.
العوامل المؤثر ۃفی تطور النقد الأدبی الحدیث فی مصر:
وقد كانت حالۃ مصر كغیرها من البلاد العربیۃ فی أوائل القرن الثالث عشر الهجری و أواخر القرن الثامن عشر المیلادی. غایۃ ماوصلت إلیه من الفساد والاضمحلال فی كل مرافق الحیاۃ سیاسیاً وعلمیاً، واجتماعیاً إذ استبد بها الأمراء الممالیك، وتنازعوا علی مواردها وأمورها من غیر عطف علی أهلها فی حیاتهم القاسیۃ وأما من الناحیۃ العلمیۃ والإجتماعیۃ، فقد عم الجهل، وفسدت الأخلاق، ضعفت النفوس والحق حتی فی الأزهر، رغم أنه كان قبلۃ الطلاب، فإن علمائه قد فترنشاطهم، وفسد إنتاجهم، وتدلوا عما كانوا علیه من مكانۃ تعتز بها مصر. 5؎
هذه الحالۃ التی تردت إلیها مصر، وجعلت أوربا تجدد علیه غاراتها، ولكن لابشكل الحروب الصلیبیۃ الممقوتۃ فقط لأن الحملة الفرنسية في الواقع كانت حملة صليبية على مركز من أهم مراكزالعالم الإسلامي و قبلة العلماء و المثقفين المسلمين،و إن كانت الحملة جاءت بدعوۃ نشرمتاجرها، وبث علومها، وآدابها، وهذا مادعا نابلیون لیقوم بحملته تلك علی مصر والشام سنۃ 1798م فكانت هذه الحملۃ أول ناشر لعلم أوربا وأدبها فی اللغۃ العربیۃ، ومن هنا نستطیع أن نتلمس بدائة أثر هذه الحملۃ فی تطور النقد الأدبی العربي الحدیث فی مصر.
 علی أن الحق التاریخی  یقتضینا، مع هذا أن نشیر هنا إلی المعالم العلمیۃ والأدبیۃ التی لابست هذه الحملۃ، وفتحت عیون المصریین وعقولهم المغلقۃ علی حضارۃ جدیدۃ أعدت نفوسهم لقبول هذا  الجدید.
أقام الفرنسیون دوراً للبحوث الریاضیۃ والنقش والتصویر، وأسسوا مكتبۃ عامۃ فرنسیۃ وعربیۃ تردد علیها طوائف مصریۃ، ومن أهم المعالم العلمیۃ والمنشئآت ”المجمع العلمی المصری" الذی أنشئ سنۃ 1798م علی نظام المجمع العلمی الفرنسی، وكانت أغراض هذا المجمع نشر المدنیۃ وبعث العلوم والمعارف بمصر، والقیام ببحوث طبعیۃ وتاریخیۃ وصناعیۃ ونشرها فی مجلۃ المجمع.
وهكذا كان اختلاط هؤلاء الفرنسیین بالمصریین فی هذه الفترۃ من أهم الوسائل لهذا البعث الحضاری الحدیث فی مصر ولاشك أن سیكون له أثر و لو من بعید  فی تطور النقد الأدبی العربي الحدیث فیها، ولقد وصف إلیاس أبوشبكۃ هذه النهضۃ الأدبیۃ.
”ویقیننا أنه لولا تلك الحركۃ السنیۃ التی انبثقت من أفواه فولتیر وروسو ومیرابو ودانتون وكمیل دیمولان وسان جوست وروبسییر وغیرهم لبقی الشرق هاجعاً فی خموله الإقطاعی سواء فی السیاسیۃ أو فی الأدب"6؎
ولم یكن اتصال المصریین بالأجانب مقصوراً علی الفرنسیین وحدهم،وان كانوا هم الكثرۃ الساحقۃ فی هذا المیدان فقد كانت بمصر جالیات أجنبیۃ شتی منها الیونانی، والإیطالی، والأرمنی  وغیرهم تعیش مع المصریین فی المدن والقری، و تعرض نماذج من الحیاۃ العقلیۃ، والخلقیۃ، والإقتصادیۃ، وان لم یبلغ أثر هؤلاء مبلغ زملائهم الذین طغوا علی الحیاۃ فی مصر منذ الحملۃ الفرنسیۃ والإحتلال الإنجلیزی.
فخلاصۃ ا لقول ان اتصال المصریین بالأجانب اتصالاً اجتماعیاً، ونفسیاً، واقتصادیا،ثقافيا، كانت له آثاره فی ظهور الأولین علی حیوات شتی أعدتهم اعداداً عقلیاً ونفسیاً لتقبل الجدید، ولاشك ان النقد الأدبی الحدیث لقی من هذه النفوس فیما بعد أرضاً خصیبۃ، واتجاهاً الی التجدید فی هذا المجال الأدبی. ولانقول ان هذا الإتصال حل محل الترجمۃ أو تعلم اللغات الأوروبیۃ أو البعوث الی أوربا ونحوها، فتلك وسائل أخری مهدلها ذلك الإتصال الذی أجملنا القول فیه.
معاهد التعلیم وأثرها فی النقد:
لما خرج الفرنسیون من مصر، وأغلقت المدرستان اللتان أنشؤوهما ابان حكمهم لمصر، وانتهت بخروجهم جمیع جهودهم العلمیۃ الأخری، ولم یكن فی مصر وقتئذ من دور العلم ومعاهده غیـر الكتاتیب، والمعاهد الدینیۃ.
أما الكتاتیب فقد كان منبثۃ فی كل مكان، وكان یتعلم فیها الصبیۃ مبادئ القراء ۃ والكتابۃ، وشیئاً یسیراً من الحساب، ویحفظون فیها ما یتیسر من القرآن الكریم. ولم یكن لتلك الكتاتیب أی غناء فی خلق ثقافۃما فی مصر لأن مستواها العلمی كان ضعیفاً ولأن التعلیم فیها غیر ناضج، بل هو أدنی للسذاجۃ وأقرب الیها من أی شئ آخر.كما أن المعاهد  الدینیۃ التی كانت قائمۃ فی القاهرۃ وفی بعض المدن، انما كانت تعنی بالعلوم الدینیۃ واللغویۃ والعقلیۃ، ولاتحفل بالعلوم الحدیثۃ، اللهم الا بقدر ضئیل اقتضته ضرورات الدین كعلم الفلك والهيئة، وكانت لاتوجد علوم الغرب وفنونه فی تلك المعاهد، هذا بالإضافۃ الی أن علماء الأزهر ومعاهده اقتصروا فی تألیفهم علی النقل ووضع الشروح أو شروح الشرح والحواشی والتقاریر  والتعلیقات، والإحتفال بالتحقیقات اللفظیۃ والاعتراضات المختلفۃ، ونحو ذلك مما لایمكن أن یكون أساساً لنهضۃ علمیۃ صحیحۃ. 
وكما ذلك یفسرلنا وجود تلك النزعۃ اللغویۃ فی النقد الأدبی فی ذلك  الوقت، حین كان االنقاد لایحفلون من الأدب الا بالمحسنات البدیعیۃ ولایقیمون وزناً الا للزخارف اللفظیۃ.
هذه صورۃ مبسطۃ لما كانت علیه حال الثقافۃ فی مصر عند ما آل الحكم فیها لمحمد علی أما الأسلوب الكتابی، فقد انحط حتی قرب من العامیۃ، وكان الكتاب یتوخون فیه تنمیق العبارات بالسجع الركیك والمحسنات البدیعیۃ، وتقهقر الأدب حتی تضاءلت مكانۃ الشعراء وأًصبحت كلمۃ”شاعر“ تطلق علی جماعۃ یجلسون فی القهوات ویلقون علی مسامع الجماهیر أمثال قصۃ أبی زید الهلالی وعنترۃ وینشدونها علی نغمات الربابۃ. وكانت أمثال تلك القصص هی الآثار الأدبیۃ الوحیدۃ التی كانت فی متناول الجمهور.7؎
وعلیه  فلوتلمسنا فی هذه الصورۃ اتجاها للنقد الأدبی فلن نجد منه  إلا ذلك النقد اللغوی الذی احتضنه الأزهر والمعاهد الدینیۃ. علی أن هذا النقد نفسه لم یكن یبدو إلا فی تلك المناقشات اللفظیۃ التی كان یسوق الیها تدریس الكتب العربیۃ المختلفۃ ولعل أكبر مجال له كان فیما نجده من مناقشات طغت علی كتب البلاغۃ خاصۃ، وعلی جوما كان یلقی فیها من درس.
أما الكتاتیب فقد تركها محمد علی تسیر فی الطریق  التی انتهجتها، فلم یبسط علیها سلطانه ولم یبذل لها توجیهاً أو ارشاداً وظلت حالها هكذا فی كل العهود التی تلت عهد محمد علی، ولم یتحقق الإصلاح الحقیقی لهذه الكتاتیب إلا فی أوائل القرن التاسع عشر المیلادی، وعلی أنقاضها نشأ نظام التعلیم الأولی القائم إلی هذه  الأیام.8 ؎
وأما الأزهر، والمعاهد الدینیۃ الأخری، فقد تركها محمد علی أیضاً تسیر فی طریقه الأولی اذ أن رجال الأزهر لم توقظهم آثار الحملۃ الفرنسیۃ، كما أیفظت غیرهم، ولم یأخذوا علی أنفسهم مسایرۃ النهضۃ الحدیثۃ، فتخلفوا عنها،  وظلوافی تلك الغفلۃ إلی عصر اسماعیل، وكانوا خلال كل هذه الفترۃ یمقتون المدنیۃ الأوربیۃ  الدخیلۃ علی مصر، ویمقتون علومها.أن نظرۃ الأزهریین للأدب، رغم ماطرأ علی الأزهر من تجدید كانت نظرۃ مشبوبۃ بالكثیر من الازدراء وعدم التقدیر، وقد وصف الدكتور طه حسین حیاۃ الأدب فی الأزهر:
”وقد رأیت الأزهر فی أیام الصبا والشباب یؤمن بأن النحو والصرف وهذا السخف اللفظی یسمونه ا لبلاغۃ هی لب اللغۃ وجوهرها وأن غیرها أعراض  وقشور. وكان الأدب بالطبع من الأعراض والقشور، وكنت من الذین یختلفون إلی دروس الأستاذ سید المرصفی، رحمه الله، وكنا جمیعاً موضع النقد والسخریۃ والاستهزاء لأننا كنا نهمل اللب والجوهر والسخریۃ والاستهزاء لأننا كنا نهمل اللب والجوهر ونحفل بالأعراض والقشور، ومن المحقق أن شیوخنا كانوا یحتقرون دیوان الحماسۃ، وكامل المبرد، ویحتقرون الأستاذ الذی كان یدرسهما والطلاب الذین كانوا یستمعون له، ویمنحونهم شیئاً من العطف والإشفاق یمازجه البغض والخوف والازدراء، لأنهم یؤثرون آثار أبی تمام والمبرد علی آثار البنان والصبان. و لما  غضب الشیخ حسونۃ، رحمه الله علی أستاذ الأدب وطلابه لأنهم اتهموا عنده بالابداع ألغی درس الكامل للمبرد، وكلف الأستاذ أن یقرأ لطلابه كتاب المغنی لابن هشام. والأزهریون جمیعاً یذكرون أن الأستاذ الإمام محمدعبده لقی كثیراً من الجهد، واحتمل كثیراً من المشقۃ، وأوذی فی نفسه ودینه، لأنه أدخل العلوم ا لحدیثۃ فی الأزهر. وكان الأدب العربی من هذه العلوم الحدیثۃ فی ذلك الوقت، فاعجب لقوم كانوا یرون درس الأدب بدعۃ  فی الدین، ویتهمون الذین یدرسو نه بالفسوق والإلحاد، ولم یكن ذلك بعید العهد، وإنما كان فی أول هذا القرن ادركناه واصطلینا ناره“.9؎
لایمكن لنا بعد ذلك نرجوا أن یزدهر النقد الأدبی فی هذه البيئة التی تحمل علی الأدب وتغض من مكانته، وتهون من شأن رجاله لذلك لم یعش فیها إلا النوع القدیم من النقد.
وخلاصۃ القول ان النقد اللغوی ظل مسیطراً علی معاهد العلم طوال ا لقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرین، غیر أن معاهد التعلیم المدنی الحدیث أوجدت ثقافۃ جدیدۃ فی مصر أعدتها لتتجه اتجاهات جدیدۃ متنوعۃ فی العلوم والآداب والفنون وقد استفاد النقد الأدبی كثیراً من هذا  التمهید الثقافی، حتی ظهرت بوادر النقد الأدبی الحدیث بما انتهجته فی ذلك الجامعۃ المصریۃ، فأخرجت أمثال طه حسین والأستاذ أحمد أمين ممن نهجوا منهج أساتذتهم المستشرقین، وظهرت بوادر ذلك أیضاً بما دعا إلیه التمكن من اللغات الأجنبیۃ لاسیما اللغۃ الإنجلیزیۃ، فظهر أمثال العقاد، و عبدالقادر المازنی وعبدالرحمن شكری.
البعثات العلمیۃ وأثرها فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
أخذ عدد كبیر من أثریاء القوم المصريين ومن كبار الموظفین والأعیان یرسلون أبناء هم للدراسۃ بأوربا علی نفقتهم الخاصۃ، مما یدل علی الإیمان المتزاید بقیمۃ البعوث العلمیۃ، وأثرها فی نقل الحضارۃ الغربیۃ. 
 ولسنا نعنی بذلك أن الأدب أو النقد بدأ كل منهما یتجه فی أول الأمر اتجاهاً جدیدا، أو یتخذ شكلا غیر شكله السابق، ولكذا نعنی أن اولئك المبعوثین قد عاشوا فی بیئات غیربیئتهم الأولی واتصلوا بالحضارۃ الأوربیۃ اتصالاً مباشراً واندمجوا فی المجتمع الغربی اندماجاً  من شأنه أن یقوی الصلات الثقافیۃ، ویوسع من أفق هؤلاء المبعوثین ومداركهم، فتأثروا بعوامل تلك البیئة الجدیدۃ من حضارۃ وثقافۃ، وعلوم غیر التی ألفوها. ففتق ذلك كله أذهانهم، وهیأنفوسهم لاعادۃ النظر  فی حیاتهم السابقۃ، وعلومهم القدیمۃ، وأدبهم القدیم أیضا، لاسیما أن هؤلاء المبعوثین قد أتیحت لهم جمیعاً فرصۃ دراسۃ اللغات الأجنبیۃ، كما أتیح لبعضهم دراسۃ آدابها، وهذا من شأنه أن یجعلهم یطلبون من الأدب العربی فنوناً وألواناً أخری تلائم ذوقهم الجدید وتغذو عقولهم ومشاعرهم المتجددۃ ومثل هذا الشعور بالحاجۃ إلی أدب جدید یعد خطوۃ أولیۃ فی حیاۃ النقد الأدبی الحدیث.
ولقد استفادت مصر من جهود هؤلاء المبعوثین عن طریق  الترجمۃ أو التألیف أو التوجیه العلمی فی نقل ا لثقافۃ الغربیۃ والحضارۃ الأوربیۃ. ولعل أبرز جهود تمسّ الأدب العربی بخاصۃ فی الطور الأدبی للنهضۃ هی تلك التی قام رفاعۃ الطهطاوی وعلی مبارك. ولقد أتیحت لكل منهما فرصۃ العمل فی المیدانین العلمی والأدبی وكان لرفاعۃ الطهطاوی فضل كبیر فی نشر العلوم بحثه الحكومۃ، علی طبع طائفۃ من أمهات الكتب العربیۃ علی نفقتها كتفسیر الفخر الرازی ومعاهد التنصیص، وخزانۃ الأدب، ومقامات الحریری، وغیر ذلك .10 ؎
 وأما زمیله علی مبارك الذی أوفد لفرنسا فی بعثۃ سنۃ1260ھ فقد كانت له بعد عودته لمصر یدطولی فی خدمۃ اللغۃ العربیۃ، فهو الذی أسس دارالعلوم لتقوم علی خدمۃ اللغۃ العربیۃ وتنهض بها. وهو الذی أسس دار الكتب لتسهل الاطلاع علی الراغبین والطموحین، ولتشجع علی القراء ۃ والتثقیف، ولتمهد للبحث والتنقیب.11 ؎
 ویعد إنشائه لمجلۃ ”روضۃ المدارس" من أجل أعماله خدمۃ للغۃ العربیۃ والأدب، اذ كانت هذه المجلۃ مما نفخ فی روح النهضۃ اللغویۃ والأدبیۃ فی هذه البلاد، وكان هو رفاعۃ الطهطاوی ممن كانوا یجیلوا فیها أقلامهم الثرۃ الفیاضۃ. والحق أن علی مبارك ورفاعۃ الطهطاوی وعبدالله فكری كانوا هم عماد النهضۃ العلمیۃ فی مصر آنذاك.12 ؎
كان لهم جمیعاً الفضل فی محاولۃ إحیاءاللغۃ، وجعلها مسائرۃ للعلم الحدیث، بنقلهم إلیها عشرات الكتب الجلیلۃ فی العلوم المختلفۃ و إدخالهم كثیراً من المصطلحات، وتألیفهم فی شتی نواحی العلم، مما أحدث فی اللغۃ انقلاباً عظیماً، واكتسبت به ثروۃ طائلۃ من سعۃ الأغراض والمعانی، والألفاظ العلمیۃ، والأسالیب الأجنبیۃ، وطرق البرهنۃ والإستنباط، وترتیب الأفكار، والدقۃ فی الأداء.
وقد كان أثر البعثات اكثر وضوحاً فی النقد الأدبی عندما أعید ارسالها فی أول  هذا القرن، فأرسل أمثال أحمد ضیف وطه حسین وزكی مبارك، أولئك الذین عادوا متأثرین بمذاهب النقد الغربیۃ واتجاهاته، فطفقوا یدعون لها، مع ماوقفوا علیه منها قبل رحیلهم عن مصر.
فان البعثات العلمیۃ فی عهدها الأول قویت من أواصر الصلۃ الثقافیۃ بین مصر و أوربا، كما أن مابذله المبعوثون من جهود حینما كانوا یتلقون العلم خارج بلادهم، وحینما عادوا لیعملوا فی شتی المیادین، كان من شأنه أن یجعل مصر تخطو خطوات واسعۃ فی تلك المیادین، وتناو ل حظاً لا بأس به من العلم والمعرفۃ والحضارۃ، وكان من شأن ذلك كله أن یهیئ العقول  لتنظر إلی الأدب وإلی نقده بمنظار جدید، وأن تمهد لذلك النقد الأدبی بأن تعدله اللبنات الأولی التی سیقدم     یوماً ما علی تجمیعها من هنا و هناك ثم یبدأ فی البناء واضعاً لبنۃ فوق لبنۃ. وقد لاحطنا أن مجرد الإطلاع علی الآداب الأوربیۃ والأقل فی أن یجد هؤلاء المبعوثون فی أدبهم العربی ما ینهض لتلك الآداب، أو یقارب ذلك هذا الاطلاع نفسه وما أعقبه من شعور، ثم ما تلاه فیما بعد من دعوۃ لمثل تلك الآداب یعد النواۃ الأولی لهذا النقد الأدبی الحدیث الذی یقوم علی مقاییس أدبیۃ جدیدۃ لم یألفها الأدب العربی القدیم وإنما یرقیها الأدب العربی الحدیث.
الترجمۃ والتألیف وأثرهما فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
كانت حركۃ الترجمۃ بمصر فی أیام الحملۃ الفرنسیۃ هی أول عهد هذه البلاد بالترجمۃ فی العصر الحدیث، ویمكننا القول بأن أعمال الترجمۃ فی عهد نابلیون كان لها شأن فی إحیاء الترجمۃ بوجه عام، وإن كانت مصر لم تستفد منها فی ناحیتها العلمیۃ والأدبیۃ، وربما كانت حركۃ الترجمۃ هذه لاتعدو أن تكون تنبیهاً لأذهان المصریین لما یمكن أن تؤدیه الترجمۃ لهم فی نقل تراث الغرب فی العلوم والفنون والآداب.
لم یكن إذن غریباً أن نری عهد محمد علی حافلاً بالترجمۃ والتعریب وأن نری محمد علی یولی هذه المسألۃ جل عنایته، فاستعان بالمترجمين فی الدیوان العالی لیقوموا له بترجمۃ التقاریر، والكتب الخاصۃ بأحوال مصر السیاسیۃ والإجتماعیۃ، وترجمۃ  مایهمه من الصحف الأجنبیۃ. وكان من حرص محمد علی     الإسراع بنقل تراث الغرب العلمی لمصر أنه كان یكلف تلامیذ هذه البعثات بترجمۃ الكتب المهمۃ قبل عودتهم من الخارج 13؎  مع مواصلتهم لدراساتهم التی أوفدوا من أجلها. وذكر قدری باشا أن تلامیذ رفاعۃ الطهطاوی عربوا نحو ألف كتاب أو رسالۃ فی مختلف العلوم والفنون، وأن جمیع الذین نبغوا فی الترجمۃ كانت لهم مؤلفات قیمۃ. 14؎
وقد قامت الصحافۃ بدورها أیضاً فی انعاش الترجمۃ، فكانت ”الوقائع المصریۃ“ تصدر باللغتین التركیۃ والعربیۃ، وكانت كل صفحۃ من صفحاتها الأربع تصدر بنهرین، نهرها الأول للتركیۃ، ونهرها الثانی للغۃ العربیۃ، ولكن كانت اللغۃ العربیۃ فیها ركیكۃ ضعیفۃ مليئة بكثیر من الألفاظ والتعابیر التركیۃ.
وهناك جریدۃ أخری فرنسیۃ صدرت فی عصر محمد علی هی ”المونیتوا جبسیان" وكان لها أثرها أیضاً فی الترجمۃ، اذ كانت تقتبس أخبارها المحلیۃ كلها تقریباً من ”الوقائع المصریۃ“ .15 ؎
ولذا فإنا نقول ان ماحدث من ترجمۃ فی عهد محمد علی، إنما كان أحد العوامل الثقافیۃ التمهیدیۃ، لتنال مصر حظها كذلك من الناحیۃ الأدبیۃ والنقدیۃ، بعقول تفتحت علی هذه الثقافۃ الحدیثۃ وظلت تبذل مجهوداً عظیماً لتبلغ منها غایتها. 
ومهما یكن من شئ فإن الترجمۃ سواء أ كانت علمیۃ أم أدبیۃ، فقد أفادت الأدب العربی الحدیث فی ألفاظه ومعانیه وأغراضه وأسالیبه حیث قد زادت الثروۃ اللغویۃ، بما وضع أو عرب من مصطلحات فی الطب والقانون والآداب وغیرها كما أنه تأثر بما ترجم من علوم الغرب وآدابه اتسعت الأغراض وتعود الكتاب قصد العبارۃ، فدقت المعانی، وارتقت الأخیلۃ وبعدت الأسالیب عن الصنعۃ والزخرف، وانصرفت عن التمهید بالمقدمات الطویلۃ، وتخلصت من التقلید، ومالت العبارۃ للسهولۃ والوضوح، ثم كانت بعدذلك هذه الكتب المترجمۃ من الموارد الفكریۃ التی وسعت مسارح التألیف والتصنیف وأنشأت طوائف شتی من الأدباء فی مذاهب الوصف و دراسۃ الأطوار النفسیۃ وقصص الواقع والتاریخ.16 ؎
وقد جنی النقد الأدبی الحدیث ثمرۃ هذا الإتجاه فی الأدب، بأن كان هذا الإتجاه عاملاً خطیراً یمهد لظهور اتجاه مثله فی النقد الأدبی بل كانت المترجمات فی الحقیقۃ من الأسس الهامۃ لنشأۃ النقد الأدبی الحدیث فی مصر، فهی لیست إلا صوراً أدبیۃ جدیدۃ ذات مقاییس و أوضاع طریفۃ یصح لأن تحتذی فی إنشاء الأدب العربی الحدیث، انها نقد عملی وتوجیه سدید.
ولاشك فی أن النقد الأدبی الحدیث استفاد كثیرا من الكتب العلمیۃ التی ألفت  او ترجمت منذ بدأت حركۃ التألیف والترجمۃ اذ كانت هذه الكتب والمترجمات عاملاً ثقافیاً فعالاً أعان علی تطور نقد جدید فیما بعد. كما أن الكتب الأدبیۃ التی ألفت كانت عاملاً مباشراً فی توجیه النقد الأدبی الحدیث تلك الوجهۃ التی بدت بوادرها فی مستهل القرن العشرین.
الطباعۃ والصحافۃ وأثرهما فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
كانت مصر آخر بلاد الشرق الأدنی معرفۃ بالمطبعۃ وهی لم تعرف ذلك الّاحین وفدت علیها الحملۃ الفرنسیۃ فجاء ت معها بمطابع لاتینیۃ ویونانیۃ، وعربیۃ، ولقد اهتمت مطابع نابلیون بلإذاعۃ أوامر الفاتحین ومنشوراتهم، بطبع الكتب المؤلفۃ والمترجمۃ لعلماء الحملۃ وأدبائها ثم أصدرت صحیفتین فرنسیتین وأخری عربیۃ.17 ؎
وبقیت مصر بعد خروج الفرنسیین بلا مطابع، حتی قام محمد علی بتأسیس مطبعۃ بولاق فی سنۃ اكتوبر 1819- 1820م وكانت تصدر عنها المطبوعات الرسمیۃ وغیرها كماكانت تطبع حاجات الجیش من قوانین وتعلیمات، ثم صارت تطبع الی جانب ذلك ماتحتاج إلیه المدارس من كتب ونحوها، كما أنها أخیراً صارت تطبع كتباً خاصۃ علی نفقۃ أصحابها.
وهكذا اتسع عملها، و واصلت نشاطها، وقامت إلی جانب مطبعۃ بولاق مطابع أخری صغیرۃ زادت علی الزمن حتی بلغت تسعاً، منها مطبعۃ القلعۃ الخاصۃ بجرنال الخدیو فإن هذه الطباعۃ التی بدأت حیاتها فی عصر محمد علی، وظلت مطردۃ إلی الیوم، كان لها أثرها فی نشر الثقافۃ، وبعث الآداب القدیمۃ، والنهوض بالحیاۃ الأدبیۃ الحدیثۃ، مما أعان جمیعه علی تطور نقد أدبی حدیث كانت الطباعۃ مرۃ أخری أول من أخذ بیده، ویسرله السبیل للتطور والذیوع والإنتشار.
وكانت الصحافۃ ثمرۃ من ثمرات الطبعۃ، فنشأت فی أرض مصر صحافتان، إحداهما رسمیۃ، والأخری شعبیۃ، وهذه الأخیرۃ لم تظهر الّا فی عصر اسماعیل.
وأقدم الصحف المصریۃ ”جرنال الخدیو" الذی أصدره محمد علی سنۃ 1822م فكانت فائدته محدودۃ، وظل كذلك إلی أن صدرت”الوقائع المصریۃ" فی سنة 1828م فصار عندئذ یصدر للوالی وحده. أما ”الوقائع المصریۃ“  فهی ثانیۃ صحیفۃ مصریۃ، بل أقدم صحیفۃ بالمعنی المفهوم للصحیفۃ لیس فی مصر وحدها بل فی الشرق العربی كله.18 ؎
وهناك صحیفۃ رسمیۃ أخری لهامكانۃ ثقافیۃ وأدبیۃ، تلك هی”روضۃ المدارس" التی أنشأها علی مبارك فی سنۃ 1870م واستمر صدورها ثمانی سنوات.  وكان الغرض من إنشائها النهوض باللغۃ العربیۃ، وإحیاء آدابها، ونشر المعارف الحدیثۃ، كما كانت تشجع النابغین منهم بنشر بحوثهم وإنتاجهم المختلف، مثل ما كانت تفعل بشعر اسماعیل صبری فی شبابه، ومن ذلك یتبین أن مدرسۃ الشعر الحدیث قد بدأت باكورتها تظهره فی تلك المجلۃ.19 ؎  وهكذا كان لهذه الصحافۃ الرسمیۃ أثرها فی ترقیۃ الفكر و تثقیفه، وفی دفع الأنهضۃ الأدبیۃ والعلمیۃ للأمام، وكانت جمیعها تعین علی تطور العقلیۃ المصریۃ الحدیثۃ، ویهمنا بعد ذلك أن نری إلی أی مدی كان أثر هذه العقلیۃ الجدیدۃ، فی تطور النقد الأدبی الحدیث. وإذا نظرنابعد ذلك إلی أثر الصحافۃ فی اللغۃ والأدب والنقد وجدناها أحیت اللغۃ وساعدت علی نهضتها، وعلی شیوع كلماتها الفصیحۃ، وقربت بین لغۃ العلم والأدب وبین لغۃ التخاطب الدارجۃ. 
ظهر من خلال هذه الفترۃ الصحافیۃ أعلامُ الأدب واللغۃ مثل أحمد شوقی وحافظ إبراهیم وغیرهما من الشعراء والناشرین، وتبع ذلك ما تبعه من ساجلات أدبیۃ كانت هی البذور الأولی للنقد الأدبی الحدیث الذی اتخذ مذهباً غیر مذهبه القدیم.
الإستشراق وأثره فی تطور النقد الأدبی الحدیث:
عرفت مصر الإستشراق أول ماعرفته فی هذا العصر الحدیث، عندما جاء نابلیون فی حملته، ومعه مجموعۃ كبیرۃ من المستشرقین لیمكنوا له من الإتصال والعلاقۃ بالمصریین و لیعینوه علی دراسۃ أحوال مصر المختلفۃ ولكن أهل مصر لم ینتفعوا بآثار هؤلاء المستشرقین مما ترجموه أو ألفوه إلا انتفاعهم بالقلیل منه بعد جلاء الفرنسیین بزمن طویل، كذلك عرفت مصر المستشرقین عندما أوفدت أبنائها لأوربا لیحصلوا علی العلوم هناك، فكان أن التقوا بهم فی بلادهم، واتصلوا بهم فی الجامعات وخارجها، وكان الشیخ رفاعۃ الطهطاوی من أول من نشط فی الإتصال بهم، وحرص علیه، فاستفاد منهم كثیراً وظل الإتصال العلمی قائماً بین طلاب البعثات والأساتذۃ المستشرقین،ولاشك فی أن هؤلاء الطلاب جنوا الكثیر من هذا الإتصال فیمایفید العلم والأدب.واتصلت مصر بالمستشرقین أیضاً فیما قرأه أبنائها، ممانشره أو ألفه هؤلاء المستشرقون باللغۃ العربیۃ، لو مترجما لها، أو مكتوبا فی لغته بعد أن أتقنوا اللغات الأجنبیۃ.
ومجهود المستشرقین فیما یتصل بالحضارۃ العربیۃ والإسلامیۃ مجهود لاینكر وأدل علیه من تألیفهم لدائرۃ المعارف الإسلامیۃ باللغۃ الإنجلیزیۃ،وأما الأدب الذی یعنینا هنا أكثـر فمما نشروه فیه كتابی "كلیلۃ ودمنۃ" و"مقامات الحریری"، نشرهما المستشرق الفرنسی سلفتستری دی ساسی، وكتاب ”وفیات الأعیان" لابن خلكان نشره المستشرق الألمانی، وستنفیلد، وكتاب"تاریخ الآداب العربیۃ"الذی وضعه بروكلمان الألمانی، كتاب "تاریخ آداب اللغۃ العربیۃ"ألفه جورجی زیدان كذلك نقلوا الكثیـر من اللغۃ والأدب إلی اللاتینیۃ والفرنسیۃ والإنجلیزیۃ والألمانیۃ.
وهذا الذی ذكرناه ماهو إلا بعض ماقاموا به من خدمات للشرق، كان لها أثرها الكبیر فی حضارته الحدیثۃ.وعرفت مصر فضل المستشرقین هذا، فاستدعتهم للتدریس فی الجامعۃ المصریۃ عند أول نشأتها، وكان من أولئك الذین استدعتهم المستشرق الإیطالی جویدی وقد انتدبته أستاذاً بهاسنۃ 1908م ومنهم نلینو الإیطالی الذی كان یدعی منذ سنۃ 1909م لإلقاء بعض المحاضرات، وكذالك "فییت الفرنسی" وقد انتدبته استاذاً سنۃ 1912م. وكانوا جمیعا یلقون محاضراتهم باللغۃ العربیۃ.20 ؎
  وقدأفادت الجامعۃ المصریۃ من هؤلاء المستشرقین فی تدریبهم للغۃ العربیۃ وآدابها، لمانهجوه من طرق جدیدۃ فی البحث ودراسۃ الآداب، تلك الدراسۃ التی بنیت علی الاستقراء والتمحیص والموازنۃ، والعلل والأسباب،واعتمدت علی النقد المنطقی، والإستنباط الدقیق، و المقدمات الصحیحۃ، والنتائج الراجحۃ، وقامت علی الدراسۃ التاریخیۃ والشخصیۃ والفنیۃ، حتی یستطیع الناقد تفسیر كل الأدب وتعلیله وحتی یستطیع الحكم علیه بعد ذلك حكماً صحیحاً. 
وها قد أصبح الأدباء المصریون ینهجون نهج المستشرقین فی دراسۃ الأدب ونقده، ویؤلفون المؤلفات علی مذهبهم ویعدون مثلهم البحوث، بل ان مابلغه بعضهم من زعامۃ فی الأدب ماكان إلابتأثرهم للمستشرقین. وأول هؤلاء جمیعهم الدكتور طه حسین،فهو ثمرۃ من ثمرات المستشرقین، درس علیهم فی الجامعۃ المصریۃ وتأثربهم، وهجر منهجه القدیم فی دراسۃ الأدب والنقد، ذلك المنهج الذی عرفه من أستاذه سیدحسن المرصفی فی أروقۃ الأزهر، ثم هو یضع كتاب ”ذكری أبی العلاء“ الذی نال به الدكتوراۃ من الجامعۃ المصریۃ ناهجاً فیه منهج أساتذته المستشرقین فی الدراسات الأدبیۃ، بل هو سلك ذلك فی كل ماكتب بعد فی الأدب ویذهب لأبعد من ذلك فیتأثر بآرائهم الخاصۃ تأثراً كبیراً.
والحق أن المستشرقین أتقنوا طرق البحث ودراسۃ الآداب عندما درسو آدابهم الخاصۃ، فلما اتصلوا بالشرق، واتصلوا بآدابه طبقوا علیه مناهجهم فأوجدوا فیها درساً جدیداً للأدب وأوجدوا فیها نقداً جدیدا. وكانوا یعقدون المؤتمرات لیتباحثوا فیما وصلوا إلیه من نتائج فی بحوثهم وكذلك أنشئت معاهد للدراسات الشرقیۃ فی بعض تلك البلاد الأجنبیۃ ویتبین ممامضی أن ماقام به المستشرقون مما نشروه أوترجموه أو ألفوه فی اللغۃ العربیۃ وآدابها، كان أحد العوامل المهمۃ فی إتصال مصر بالفكر الأوربی. ولقد أشاعوا فی الأدب العربی منهجهم النقدی، الأوربی واستفادت منهم الدراسات الأدبیۃ بعامۃ، وقد تأثر نقاد الأدب العربی بمذهب المستشرقین راضین أو كارهین فی هذا الصدد، نشیر، إلی أهم تلامیذهم الدكتور طه حسین كان أهمهم مناهضۃ لكل جمود فكری فی بلده ودعوته إلی دراسۃ التراث العربی دراسۃ علمیۃ  نقدیۃ كما فعل مع الشعر الجاهلی حینما شك فی ثوابته وأصوله انطلاقاً من تشیعه بالمنهج الدیكارتی الذی یدفع الباحث إلی أن یتجرد من كل شئ كان یعلمه من قبل، وأن یستقبل بحثه خالی الذهن مما قیل فیه خلوا تاما.21 ؎   هذا، ومادام النقد العربی الحدیث قد خضع لعوامل كثیرۃ علی مستوی ممارساته، فان فترۃ الخمسینات تعد مرحلۃ ترسیخ النقد الواقعی الإشتراكی فی الحقل الثقافی العربی بعد أن عرف حضوراً متعدد المفاهیم فیما بین الحربین وذلك فی كتابات تمهیدیۃ لفرح أنطون ”الحیاۃ فی الأدب“  شبلی شمیل ”فكرۃ النشوء والإرتقاء“ وسلامۃ موسی "الإشتراكیۃ" ثم فی كتابات تطبیقیۃ لكل من مفید، سلیم خیاطه، ورئیف خوری وعمر فاخوری وغیرهم.
علی أنه فی بدایۃ الثمانینات، ثم اكتشاف مجالات النقد الحدیث الذی لم یتوقف إلی حد الآن عن تحقیق طفرات بعیدۃ خصوصاً فی مجال البحث الجامعی، وكذا علی مستوی القراءۃ والكتابۃ. من هنا، نستطیع القول أن النقد الأدبی العربی عرف أوجه الحقیقی فی المغرب العربی الذی كان سباقا إلی التعرف علی المناهج النقدیۃ المعاصرۃ. حیث حرص بعض الأساتذۃ فی الجامعات علی التعریف بأصولها وأهدافها وطرق اختبارها. وهذا ماأدی بالدارسین إلی العنایۃ بها وترجمۃ دراسات وكتب متخصصۃ تسلط الأضواء علی عوالم مثل الألسنیۃ و الشعریۃ والأسلوبیۃ والتأویلیۃ والسردیات الخ
ونستطیع أن نقول بعد ذلك إن االنقاد المحدثین ذهبوا فی النقد الأدبی مذهبین رئیسیین، تبعاً لثقافۃ كل فریق منهما، سواء أكانت ثقافۃ  عربیۃ أم ثقافۃ غربیۃ،  ونقول أیضاً إن الثقافۃ الثانیۃ هی التی أخذت تسیطر علی الاتجاهات النقدیۃ، وإن االنقاد غدوا فی الربع الأول من هذا القرن یمثلون هذین المذهبین أو هاتین المدرستین! المدرسۃ القدیمۃ التی تعنی بالنقد اللغوی و المدرسۃ الحدیثۃ التی تعنی بالتجربۃ الشعریۃ والصیاغۃ الفنیۃ . وسنتناول فی الصفحات القادمۃ اتجاهات الآراء النقدية للأستاذ أحمد أمين كی تتضح من آرائه و آثاره النقدیۃ والمحاكمات الفكریۃ شخصیاته المؤثرۃ علی مجال النقد الأدبی العربی الحدیث.


الهوامش
 1  رئيس التحرير لمجلة التلميذ الصادرة عن مركزالثقافة الندوية بسرينجر كشمير الهند 
2   كتاب الأدب العربي في آثار الدارسين صـ 318
3 في الأدب الحديث جـ 1 صـ 85 
4 في الأدب الجاهلي صـ 7  
5 مقدمة الشوقيات صـ 3
6 روابط الفكر و الروح بين العرب والفرنجة ،صـ 63
7 تاريخ الحركة القومية، جـ 1صـ 47
8 تاريخ التعليم في مصر جـ 3 ، صـ 34 
9 مستقبل الثقافة في مصر ، صـ248
10 صر محمد على ،لـ عبد الرحمن الرافعي صـ 521 
11 عصر اسماعيل لـ عبد الرحمن الرافعي جـ 1 صـ 247
12 زعماء الإصلاح في العصر الحديث لأحمد أمين صـ201
13 تقويم النيل وعصر محمد على لـ أمين سامي صـ 580 
 14 تاريخ الحركة القومية بمصر لـ جاك تاجر صـ 15  
 15 حركة الترجمة بمصر، لـ جاك تاجر صـ 15 
 16 أثر العرب في الحضارة الأوربية ،لـ عباس محمود العقاد،صـ 162
17 تاريخ الوقائع المصرية ، لـ إبراهيم عبده صـ 15 
 18 تاريخ الوقائع المصرية ، لـ إبراهيم عبده صـ15 
19 أعلام الصحافة العربية لـ إبراهيم عبده صـ 33
20 نشأة النقد الأدبي الحديث،لـ عزالدين الأمين صـ 101
21 في الأدب الجاهلي لـ طه حسين صـ 68
 

المراجع والمصادر
الأستاذأحمد أمیـن
ضحی الاسلام، مكتبۃالنھضۃالمصریۃبالقاھرۃ 1955م۔
الأستاذأحمد أمیـن
قاموس العادات والتقالید والتعابیر المصریۃ، مكتبۃ النھضۃ المصریۃ،1947م۔
  الأستاذأحمد أمین
فیض الخاطر (الأجزاء العشرۃ)مكتبۃ النھضۃالمصریۃ بالقاھرۃ1949م.
  الأستاذأحمد أمین
النقد الأدبی ، مكتبۃ النھضۃالمصریۃ بالقاھرۃ 1952م. 
   الأستاذأحمد أمین
دیوان حافظ ابراھیم،دار الكتب المصریۃ 1937 بالقاھرۃ.
الدكتور أحمد ھیكل
تطور الأدب العربی الحدیث فی مصر، دارالمعارف بالقاھرۃ.
إبراهیم عبده
أعلام الصحافۃ العربیۃ،مكتبۃالآداب1957م
أحمد الشائب
أصول النقد الأدبی،مكتبۃ النھضۃ المصریۃ، 1946م.
أمین سعید
تاریخ مصر السیاسی من الحملۃ الفرنسیۃ الی انھاء المملكۃ،دار إحیاء الكتب العربیۃ بالقاھرۃ 1959م.
أحمد حسن الزیات
تاریخ الأدب العربی،مطبعۃ الاعتماد بالقاھرۃ 1948م. 
أحمد بدوی طبانۃ
التیارات المعاصرۃ فی النقد الأدبی،مكتبۃ النھضۃالمصریۃ بالقاھرۃ.
 
أحمد بدوی طبانۃ
دراسات فی نقد الأدبی العربی،مكتبۃ الانجلو،ب مصر1959م.
جرجی زیدان  
تاریخ آداب اللغۃ العربیۃ، دارمكتبۃالحیاۃ، بیروت 1967م.
  جرجی زیدان
بناۃ النھضۃ العربیۃ،دارالھلال بالقاھرۃ1969م
رمزی مفتاح
رسائل النقد،مطبعۃ الاخاء بمصر،
سید قطب الشھید
النقد الأدبی أصوله ومناهجه ،دار الفكر العربی بالقاھرۃ 1954م.
سھیرالقلماوی
محاضرات فی النقد الأدبی،دار المعرفۃ 1958م.
شوقی ضیف
النقد ،دار المعارف بالقاھرۃ 1977م.
شوقی ضیف
مع العقاد،دار المعارف بالقاھرۃ.
الدكتورطه حسین
فصول فی الأدب العربی
  الدكتور طه حسین
فی الأدب الجاھلی،دارالمعارف بمصر1927م
الدكتور طه حسین
مستقبل الثقافۃ فی مصر،مطبعۃالمعارف1944م
الدكتور عبداللطیف حمزه
مستقبل الصحافۃ فی مصر
   عمرالدسوقی
فی الأدب الحدیث،ج۱،دار الكتاب العربی،بیروت1966 م.
عمرطوسون  
  البعثات العلمیۃ
عزالدین الأمین
نشأۃ النقد الأدبی الحدیث
عباس محمود العقاد
شعراء مصر و بیئاتھم فی الجیل الماضی مكتبۃ النھضۃالمصریۃ بالقاھرۃ1950م  
  محمد الرابع الحسنی الندوی
الأدب العربی بین عرض ونقد،مكتبۃ ندوۃ العلماء،لكھناو1965م
   محمد مندور
فی الأدب والنقد،لجنۃ التألیف والترجمۃ1944م.
   محمد مندور
محاضرات فی الأدب ومذاھبه،معھد الدراسات العربیۃ العالمیۃ بمصر 1955م.