لغات ولهجات - 1

د. محمد سعيد حسب النبي

 عالج كثير من الباحثين قضية اختلاف اللغات وانتشارها وكذلك اللهجات وتشعبها وصراعها، وأشار هؤلاء إلى أن بعض اللغات تتاح له فرص مواتية، فتنتشر في مناطق واسعة من الأرض، ويتكلم بها عدد كبير من الأمم الإنسانية، كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى، وللإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية والألمانية في العصور الحديثة. ومنها ما تسد أمامه المسالك، فيُقضى عليه أن يظل حبيساً على منطقة ضيقة من الأرض وقلة قليلة من الناس؛ كما حدث لبعض القبائل وفق ما أشار إليه علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع؛ فلقد أشار إلى لغة الإينو والبسكية والليتونية. ومنها ما يكون حاله وسطاً بين هذا وذاك فلا تتسع مناطقه كل السعة ولا تضيق كل الضيق، كما هو شأن الحبشية والفارسية.

ولانتشار اللغات أسباب كثيرة يرجع أهمها إلى بعض العوامل منها: أن تشتبك اللغة في صراع مع لغة أو لغات أخرى، وتقضي نواميس هذا الصراع اللغوي إلى أن يكتب النصر للغة من اللغات، فتحتل مناطق اللغة أو اللغات المقهورة، فيتسع بذلك مدى انتشارها، وتدخل أمم جديدة في عداد الناطقين بها. كما حدث للاتينية في العصور القديمة إذ تغلبت على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد الجول (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى والأليريا –كما ذكر وافي في كتابه اللغة والمجتمع- فأصبحت لغة الحديث والكتابة في منطقة واسعة من القسم الجنوبي الغربي من أوروبا، بعد أن كانت قديمة مقصورة على منطقة ضيقة في وسط إيطاليا، وكما حدث للغة العربية إذ تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية، حتى بلغ الآن عدد الناطقين بها مئات الملايين ينتمون إلى أمم عدة. بعد أن كانوا قديماً لا يتجاوزون بضعة آلاف يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب. وكما حدث للألمانية إذ طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوروبا الوسطى (ألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا...) وقضت على لهجاتها الأولى، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لأكثر من مائة مليون من سكان أوروبا، بعد أن كانت قديماً مقصورة على بعض المقاطعات الألمانية.  
ومن عوامل الانتشار أيضاً انتشار أفراد شعب ما على أثر هجرة أو استعمار في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، فيتكون من سلالاتهم بهذه المناطق أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى انتشار لغتهم، وتتعدد الجماعات الناطقة بها ويكثر أفرادها، والأمثلة على ذلك كثيرة في العصور الحديثة كما أشار وافي؛ فقد نجم عن استعمار الإنجليز السكسون لأمريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا أن انتشرت الإنجليزية في هذه المناطق المبعثرة، فبلغ عدد الناطقين مئات الملايين موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديماً محصورة في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية، ونجم عن الاستعمار الإسباني أن أصبحت الإسبانية لغة بلاد المكسيك وجزر الفلبين وجميع دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية ما عدا البرازيل؛ فبلغ عدد الناطقين بها مئات الملايين ينتمون إلى أمم عدة بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من أوروبا. ونجم عن الاستعمار البرتغالي أن أصبحت البرتغالية لغة لسكان البرازيل وسكان المستعمرات البرتغالية بأفريقيا وجزر المحيط الهندي، وبلغ عدد الناطقين بها ملايين ينتمون إلى أمم عدة بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في بلاد البرتغال نفسها. وقد نجم عن استعمار الفرنسيين لبعض مناطق كندا أن أصبحت الفرنسية لغة في بعض هذه المناطق.
ومن العوامل التي أسهمت أيضاً في انتشار اللغة أن أتيح لجماعة ما أسباب مواتية للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية، فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة المطردة، وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى وتتعدد الأقاليم والمناطق، فيتسع تبعاً لذلك نظاق لغتها ومدى انتشارها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية، فبفضل هذا العامل بلغ عدد الناطقين باليابانية ما يزيد عن مائة وثلاثين مليون نسمة، كما بلغ عدد الناطقين بالفرنسية ما يزيد عن سبعين مليون نسمة، وعدد الناطقين بالإيطالية أكثر من ستين مليون نسمة.