اللغة العربية وصاحب إعراب القرآن الشيخ الكرباسي - رحمه الله

د. باقر الكرباسي

 

منذ القدم والإنسان في صراع دائم مع الخلود والتغيير الذي يتجلى في محاولات التسجيل، تسجيل التاريخ والحياة والعلوم والمعرفة بما يسهم في تخليده ووجوده ويسهم في حضوره الإنساني، والأمة العربية أمة بيان والعمل فيها مقترن بالتعبير والقول، فللغة في حياتها شأن كبير وقيمة أعظم من قيمتها في حياة أية أمة من الأمم، واللغات مرآة الشعوب فهي التي تعكس درجة حضارتهم وتطورهم ونموهم وهي تدل على هويتهم وذاتهم وبها عزهم ومجدهم، والأمة يتحدد كيانها  وتصبح أمة مستقلة عن غيرها بلغتها وتاريخها وتراثها ولذلك فقد عُني كلّ قومٍ بلغتهم الأم عناية كبيرة، واللغة ظاهرة من أهم الظواهر الاجتماعية ووسيلة من أنجع وسائل الرقي الحضاري فهي الأداة الطيعة لأفراد المجتمع للإفصاح عمّا في أذهانهم، ففي مفرداتها سجل لأخلاق أهلها وعاداتهم ونشاطهم الأدبي والفكري، وقضية اللغة العربية تمسّنا جميعاً اذ لا يمكن بناء مجتمع معرفي عربي أصيل أو القيام بتنمية بشرية جديّة من دون أن تلعب اللغة العربية دوراً محورياً في جميع مناحي حياتنا ومجالاتها، انّها لغة حيّة وهي أداة تفكيرنا والوسيلة التي نعرض بها ألوان أحاسيسنا ومشاعرنا وهي أعز ما نملك وما ندخر، اذ أنَّ لهذه اللغة المشرّفة بالقرآن الكريم سحراً يستأثر القلوب ويمتلك الأسماع وأنها لكذلك في كل العصور والأزمان، ومن أجل ذلك كانت مأوى أفئدة الدراسين، وفي النجف الأشرف المدينة التي عاش فيها الشيخ الراحل كان أبناؤها يتنفسون الشعر كالهواء، ويتحدثون بعلوم الفقه والمنطق والفلسفة والنحو والأدب والسياسة، كان الجو في هذه المدينة يزخر بالعلم والدرس الحوزوي، الناس فيها يفتحون أعينهم صباحاً ويذهبون إلى أعمالهم كبقية المدن الأخرى ولكنّ النجف تمتاز على المدن الأخرى بأنَّ طلبة للعلم يرتدون العمة يتحركون مسرعين إلى درسهم، يتنقلون من مسجد إلى آخر ومن حلقة إلى أخرى، ينهلون من شيوخهم ما ينهلون من العلوم، أزقتها، شوارعها، مكتباتها الغنية بالكتب والمخطوطات كلّها كان يشار لها بالبنان، تخرج فيها مئات العلماء في العلوم كافة ومازالت تعطي .

كلية التربية الاساسية / جامعة الكوفة / العراق .

في مثل هذا الجو المفعم بالعلم والدرس والمعرفة ولد الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي عام 1927م فوجَدَ أمامه شيخاً يتوسط كتباً يقرأ بها ويكتب مرةً ويدرّس مرة أخرى، فما كان منه إلّا أن يحذو حذو شيخه ووالدِهِ المتبحر المجتهد الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي (رحمه الله) فلبس العمة واصبح طالب علم يتنقل من شيخ إلى آخر ومن حلقة إلى أخرى يأخذ درساً في النحو عند خالِهِ المرحوم الشيخ عبد الله الشرقي والذي كان له الفضل الكبير في توجه الشيخ الكرباسي إلى اللغة العربية دون غيرها من العلوم، وكنت اسمع يردّد معه : 
فلا خيرَ في قومٍ تموت لغاتُهم                ولا روحَ في قومٍ بدون لغاتِ
وبما أنَّ الشيخ الفقيد درسَ على شيوخ وأساتيذ الحوزة العلمية في ذلك الوقت متدرجاً حتى وصوله إلى البحث الخارج، لكنَّ شغفه باللغة العربية ونحوها جعله وفيّاً لها ومحافظاً عليها من اللحن والخطأ، فكان يعدّها من أهم مظاهر الإرث الحضاري والتراكم الإبداعي والارتقاء الفكري في تاريخ البشرية سواء في دقة أنظمتها التعبيرية أم في صياغة أبنيتها أم في تنوع دلالات تراكيبها أم في قدرتها على التوليد والنماء والاتساع في المعاني، وكان يؤكد دائماً على عراقة لغتنا العربية وأنها تستحق كل الإهتمام من جميع المسلمين عرباً وغير عرب ولابد من تعلمها بشكلها الصحيح وحمايتها من الأخطار وهو ما نصبو إليه وندعو له، وكان يؤكد الشيخ الكرباسي رحمه الله على أن فهم القرآن الكريم لا يتحقق إلّا بالتمكن من اللغة العربية وقواعدها أصلاً ونمطاً وما يرتبط بها ومن أهم القواعد هو النحو من هذا المنطلق عمل شيخنا الراحل خمس عشرة سنة على إعراب القرآن الكريم إعراباً مفصلاً كاملاً يفهمه الجميع المتخصص والطالب، وهذه هي مزية إعرابه إذ وضع رأيه الإعرابي والذي خالف فيه احياناً علماء العربية الأوائل واعدّه السِفر الخالد له، وتوالت مؤلفاته اللغوية والنحوية وهو ماضٍ على درسه الحوزوي ولمدة ستة عقودٍ حفلت به اللغة العربية وحفل بها ..
لغةٌ إذا وقعت على أسماعنا                    كانت لنا برداً على الأكبادِ
ستظل رابطة تؤلف بيننا                        فهي الرجاءُ لناطقٍ بالضادِ 
رحل الشيخ الكرباسي وبرحيله فقدت العربية رائداً من روادها الأفذاذ ،  رحل الشيخ الكرباسي وفي قلبه حسرة لما آلت عليه لغة العرب، ماذا أقول في انسانٍ أحبَّ الناسَ جميعاً وأحبّوه، حزنت نفسي عليك ولم أك وحدي حزيناً، الجميع شاركوني                               بالحزن، لازال صوتك يهزني من أعماق نفسي ويرن في أذني لأنك تكسب الأشياء أشياءها، تربوي ومؤلف ومحقق ولغوي ونحوي وقبل كل ذلك انساناً مؤمناً حريصاً محباً للخير مبعداً للضغينة، قلمك لا ينفذ مداده تحب الرفعة للجميع ... 
وقال أحد الشعراء في رثائك :
وَمَضَتْ سنينُكَ ترتدي الإبداعا
وَمَضَيْتَ أَنتَ رسالةً ووداعا

وتركتَ تلكَ الضادِ أمّاً ثاكلاً
وَجَعلْتَ بينَ الناقدينَ صِراعا

عشرونَ سِفرٍ ما ألذَّ ثراءها
يا واهباً سُفَنَ الكلامِ شِراعا

ها هُم تلاميذٌ لديكَ تأسروا
في فَيضِ مَعرفةٍ يُعد رِضاعا
  
يا كوكباً زانَ السماءَ رصانةَ
يا مُعربَ النورِ المبينِ مطاعا

يا مَن كشفتَ اللحنَ خلفَ غَمامةٍ
بَيضاء كانت للمدى إبداعا