الضمائر - 3

م. محمد يحيى كعدان


نتابع مقالنا في الضمائر عن الإشارة:
الصيغة " ذا ":
يقول أبو القاسم المرادي: " ذا.. لفظ له أربعة أقسام:
الأوّل: أنْ تكون اسم إشارة. فتقول ذا للقريب، وذاك للمتوسط، وذلك للبعيد. ومن لم يَر التوسط جعل ذاك للبعيد أيضاً. وتدخل هاء التنبيه على المجرّد كثيراً، وعلى المقرون بالكاف وحدها قليلاً. ولا تدخل على المقرون باللام.
واختلف النحاة في ذا الذي هو اسم إشارة. فقال قوم، منهم السيرافي: هو ثنائيُّ الوضع، وألفه أصل، غير منقلبة عن شيء كـَ ما. قال الكوفيون: ألفه زائدة. ووافقهم السهيلي. وقال البصريون: هو ثلاثي الوضع، وألفه منقلبة عن أصل. ثم اختلفوا؛ فقيل: عن ياء، والمحذوف ياء، فالعين واللام ياءان. وقيل: عن واو، والمحذوف ياء، فهو من باب: طَوَيْتُ. واختلفوا في المحذوف؛ فقيل: اللام، وهو الأظهر، لأنها طرف. وقيل: العين.
واختلفوا في وزنه؛ فقيل: فَعَل بالتحريك، وهو الأظهر. وقيل: فَعْل بالإسكان.
واستدل البصريون، على أنه ثلاثي الوضع، برد المحذوف منه، في التصغير، حيث قالوا ذَيَّا والأصل ذَيَيَّا. ولبسط الكلام على اسم الإشارة موضع غير هذا.
الثاني: أنّ يكون موصولاً بمعنى الذي وفروعه. ولا يكون كذلك إلاّ بشرطين: أحدهما أنْ يكون بعد ما أو مَن الاستفهاميتين. وقيل: لا تكون موصولة بعد مَن. والآخر أنْ يكون غير مُلغى. وسيأتي بيان معنى الإلغاء. ومِنْ ورود ذا موصولة قول لبيد:
      ألا تَسألانِ المَرءَ: ماذا يُحاوِلُ ***** أنَحْبٌ فَيُقْضَى، أم ضَلالٌ وباطلُ؟  
أي: ما الذي يحاول. فما مبتدأ، وذا مع صلته خبره، ونَحْب بدل من ما.
الثالث: أنْ يكون ملغى. ومعنى الإلغاء هنا أنْ تُركَّب ذا مع ما، فيصير المجموع اسماً واحداً. وله حينئذٍ معنيان: أحدهما، وهو الأشهر، أنْ يكون اسم استفهام. والدليل على أنهما تركَّبا قولهم: عمّاذا تسأل؟ بإثبات الألف، لتوسطها. ويتعيّن ذلك، في قول جرير:
    يا خُزْرَ تَغلِبَ، ماذا بالُ نِسوَتِكُمْ ***** لا يَسْتَفِقْنَ، إلى الدَّيْرَيْنِ، تَحْنانا 
وقول الآخر:
         وأبلِغْ أبا سَعْدٍ، إذا ما لَقِيتَهُ ***** نَذِيراً، وماذا يَنفَعَنَّ نَذِيرُ؟ 
ولا يجوز أنْ تكون ذا موصولة، في البيتين، لأن العرب لا تقول: ما الذي بالُك. ولا يُؤكَّدُ الفعل الواقع صلة، بالنون. وتترجح دعوى التركيب في  }مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَناً{  البقرة 245، والحديد 11. وثانيهما أنْ يكون المجموع اسماً واحداً موصولاً، أو نكرة موصوفة. وعليه بيت الكتاب:
           دَعِي ماذا عَلِمْتِ، سأتَّقِيهِ ***** ولكنْ، بالمُغَيَّبِ ، نَبِّئِيني 
ومنع الفارسي كونها في البيت موصولة. قال: لأنّا لم نجد في الموصولات ما هو مركّب، ووجدنا في الأجناس ما هو مركّب.
تنبيه.. قد اتضح، بما تقدم أنّ ماذا تحتمل أربعة أوجه: أحدها أنْ تكون ما استفهامية وذا اسم إشارة. وثانيها أنْ تكون ما استفهامية وذا اسمٌ موصولٌ. وثالثها أنْ يكون المجموع اسماً واحداً للاستفهام. ورابعها أنْ يكون المجموع اسماً واحداً خبريّاً. ويُعرَب في كل موضع على ما يليق به.
الرابع: أنْ يكون ذا بمعنى: صاحب. وإنما يكون كذلك حالة النصب، نحو: رأيتُ ذا مال. وبعض طيء يعرب ذو الطائية إعراب الذي بمعنى صاحب. فيقول: جاء ذو قامَ، ورأيت ذا قامَ، ومررت بذي قامَ.
واعلم أنّ أقسام ذا المذكورة كلها أسماء باتفاق، إلاّ المُلْغَى، فإنّ صاحب رصف المباني ذهب إلى أنه حرف. قال: وإنما حكمْنا بأنّ ذا حرف، لأنها قد توجد ما الاستفهامية وحدها دونها، ومعناها الاستفهام، وتوجد معها أيضاً، وهي معها بذلك المعنى. فحكمْنا أنها وصلة لها. ولأجل هذا الخلاف ذكرت ذا ههنا.".       

أقول: لنتأمل الصيغة التالية كمثال: ذا عمرو.
الألف تعني أنّ الصيغة عمرو متآلفة مع المتكلم والمستمع، أي هو (عمرو) موجود معهما ومعروف الشكل والصفة لهما. وعند الصياغة بالحرف ذال ذي القيم ( ذ 00111 )، يغيب هذا العنصر وتقتصر معرفة شكله وصفته على المستمع فقط.
أي عند الصياغة بالصيغة (ذا)، نتحدث عن عنصر غائب، معروف الشكل والصفة للمستمع فقط (ذ)، لعنصرٍ متآلف مع المتكلم والمستمع معاً (ا).
نلاحظ أنّ ذا، لا تفيد الإشارة إلى عنصر حاضر، لأنها تتحدث عن عنصر غائب. بل تفيد تذكير المستمع بعنصر غائب معروف تماماً له (شكلاً وصفة). 
أما التحدث عن عنصر حاضر فتتم بإضافة الفاء ذات القيم ( 01111 ) (وجود القيمة 1 مكان العنصر الثاني)، نقول: فذا عمرو.
أو بإضافة الهاء ذات القيم ( 11011 ) ، نقول: هذا عمرو. لكن الهاء تختلف في المعنى عن الفاء، لغياب المستمع في الهاء، بينما يغيب المتكلم في الفاء، وهذا واضح من قيمهما.
الآن لنتأمل الصيغة التالية: عرفت ذا الكتاب. تعني: عرفت، العنصر الغائب المعروف شكلاً وصفة للمستمع، لعنصرٍ متآلف مع المتكلم والمستمع، هو الكتاب.
إذا أردنا أنْ نُعبِّر عن العنصر الغائب المعروف شكلاً وصفة للمتكلم عوضاً عن المستمع، نستخدم الحرف ( م 10011 )، نقول عندها: عرفت ما الكتاب.
إذا كان ( ذ 00111 ) ذكرى لدى المستمع، حيث تستخدم (ذ) في كل صيغ التذّكّر والعناصر القابلة للغياب: ذِكر، ذاكرة، ذكاء، ذكرى، ذهن، ذهب ...إلخ. فإنه بالمقابل ( م 10011 ) هو أصل لدى المتكلم (يعرف شكله وصفته رغم غيابه باستقلال عن المستمع)، حيث تستخدم (م) في كل صيغ الأصول المولِّدة للصيغ: الأم، ماء، مكبس، مفتاح، مصنع، ....إلخ.  
لتكن الصيغة: مكان شاهق الارتفاع ذا الجبل. نعني بذلك: مكان شاهق الارتفاع، ونذكر العنصر الغائب المعروف شكلاً وصفة للمستمع، لعنصر متآلف مع المتكلم والمستمع، وهو الجبل. مثلها قولنا: البطل في أفعالة ذا عمرو، ومثلها: رأيت ذا مالٍ.

نلاحظ أنّ " ذا " هي عكس " إذ ". ولا تخرج في معناها عمّا ذكرنا.
الصيغة " إذ ":
يقول المرادي: " إذ.. لفظ مشترك يكون اسماً وحرفاً. وجملة أقسامه ستة:
الأول: أنْ يكون ظرفاً لما مضى من الزمان. نحو: قمتُ إذ قام زيد. ولا خلاف في اسمية هذا القسم. والدليل على اسمية إذ هذه، من أوجهٍ: أحدها الإخبار بها مع مباشرة الفعل، نحو: مجيئك إذ جاء زيد. وثانيها إبدالها من الاسم، نحو: رأيتك أمسِ إذ جئت. وثالثها تنوينها في غير ترنُّم، نحو: يومئذٍ. ورابعها الإضافة إليها بلا تأويل، نحو: } بَعدَ إذْ هَدَيْتَنا { أل عمران 8.
وهي مبنية لافتقارها إلى ما بعدها من الجمل، أو لما عُوِّضَ منها، وهو التنوين في: يومئذٍ، وحينئذٍ، ونحوهما. وإنما كُسرت الذال في ذلك لالتقاء الساكنين. وذهب الأخفش إلى أنها كسرة إعراب، قال: لأن إذ إنما بُنيت لإضافتها إلى الجملة. فلما حُذفت الجملة، عاد إليها الإعراب، فَجُرَّت بالإضافة.
ورُدَّ بأوجه: أحدها أنّ سبب بنائها ليس هو الإضافة إلى الجملة. وإنما هو افتقارها إلى الجملة. والافتقار عند حذف الجملة أبلغ. فالبناء حينئذ أوْلى. وثانيها أنّ بعض العرب يفتح الذال تخفيفاً، فيقول: حينئذاً. وثالثها أنّ الكسر يوجد دون إضافة، كقول الشاعر:
          نَهيتُكَ، عن طِلابِكَ أمَّ عَمرٍو ***** بعافيةٍ، وأنتَ، إذٍ، صَحيحُ
قلتُ: أجاب الأخفش عن هذا، بأنه أراد: حينئذٍ، فحذف حيناً وأبقى الجر. وفيه بعدٌ.
واعلم أنّ إذ تُضاف إلى الجملتين: الاسمية والفعلية. ولا تضاف إلى جملة شرطية إلاّ في ضرورة. ويقبح أنْ يليها اسم بعده فعل ماض، نحو: كان ذلك إذ زيد قام. لما فيه من فصل بين المتناسبين. ولذلك حسن: إذ زيد يقوم.
تنبيه.. إذ المذكورة لازمة للظرفية، إلاّ أنْ يضاف إليها زمان، نحو: يومئذٍ، وحينئذٍ. ولا تتصرف بغير ذلك، فلا تكون فاعلة، ولا مبتدأ. 
وأجاز الأخفش والزجّاج، وتبعهما كثير من المعربين، أنْ تقع مفعولاً به، وذكروا ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى } واذكُرُوا إذْ أنتُم قَلِيلٌ { الأنفال 26، فإذ في هذه الآية ونحوها مفعول به. ومَن لم ير ذلك جعل المفعول محذوفاً، وإذ ظرفٌ عاملُهُ ذلك المحذوف. والتقدير: واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ، أو: واذكروا حالكم إذ. ونحو ذلك.
الثاني: أنْ يكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، بمعنى إذا. ذهب إلى ذلك قوم من المتأخرين، منهم ابن مالك. واستدلوا بقول الله تعالى } فسوفَ يَعلَمُونَ إذِ الأغْلالُ في أعناقِهِم { غافر 69-70، وبآيات أُخر.
وذهب أكثر المحققين إلى أنّ إذ لا تقع موقع إذا، ولا إذا موقع إذ. وهو الذي صححه المغاربة، وأجابوا عن هذه الآية ونحوها، بأن الأمور المستقبلة، لما كانت في إخبار الله تعالى مُتيقَّنَةً مقطوعاً بها، عُبِّر عنها بلفظ الماضي. وبهذا أجاب الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما.
الثالث: أنْ تكون للتعليل، نحو قوله تعالى } ولنْ يَنْفَعَكُمُ اليَومَ إذْ ظَلَمتُمْ { الزخرف 39، } وإذْ لم يَهْتَدُوا بِهِ فسيَقُولُونَ { الأحقاف 11. ومنه قول الفرزدق:
      فأصبَحُوا قد أعادَ اللهُ نِعمتَهُمْ ***** إذْ هُم قُريشٌ، وإذْ ما مِثلَهُم بَشَرُ 
واختُلف في إذ هذه، فذهب بعض المتأخرين إلى أنها تجرّدت عن الظرفية، وتمحّضت للتعليل. ونُسب إلى سيبويه. وصرح ابن مالك، في بعض نسخ التسهيل بحرفيتها. وذهب قوم منهم الشلوبين، إلى أنها لا تخرج عن الظرفية. قال بعضهم: وهو الصحيح. 
الرابع: أنْ تكون للمفاجأة. ولا تكون للمفاجأة إلاّ بعد بينا وبينما. قال سيبويه: بينا أنا كذا إذ جاء زيد، فهذا لما توافقه وتهجم عليه.
واختُلف في إذ هذه. فقيل: هي باقية على ظرفيتها الزمانية. وقيل: هي ظرف مكان، كما قال بعضهم ذلك في إذا الفجائية. وقال ابن مالك: المختار عندي الحكم بحرفيتها. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة.
فإنْ قلتَ: إذا جُعلت ظرفاً فما العامل فيها؟ قلتُ: قال ابن جني: الناصب لها هو الفعل الذي بعدها، وليست مضافة إليه. والناصب لبينا وبينما فعل يقدر مما بعد إذْ. وقال الشلوبين: العامل في بينا ما يُفهم من سياق الكلام، وإذْ بدل من بينا، أي: حين أنا كذلك، إذ جاء زيد، وافقتُ مجيء زيد.
والفصيح ألاّ يُؤتى بإذْ بعد بينا وبينما. والإتيان بها بعدهما عربيّ، خلافاً لمن أنكره.
الخامس: أنْ تكون شرطية، فيجزم بها. ولا تكون كذلك إلاّ مقرونة بما، لأنها إذا تجرّدت لزمتها الإضافة إلى ما يليها. والإضافة من خصائص الأسماء. فكانت منافية للجزم. فلما قُصد جعلها جازمة رُكِّبت مع ما، لتكفّها عن الإضافة، وتُهيِّئها لما لم يكن لها من معنى وعمل. ولكونها تركّبت مع ما، عدّها بعضهم في الحروف الرباعية.
واختلف النحويون فيها. فذهب سيبويه إلى أنها حرف شرط كإنْ الشرطية. 
وذهب المبرّد، وابن السّرّاج، وأبو علي، ومن وافقهم، إلى أنها باقية على اسميتها، وأن مدلولها من الزمان صار مستقبلاً، بعد أن كان ماضياً. قال ابن مالك: والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأنها قبل التركيب حُكم باسميتها، لدلالتها على وقت ماض، دون شيء آخر يُدّعى أنها دالّة عليه، ولمساواتها الأسماء، في قبول بعض علامات الاسمية، كالتنوين، والإضافة إليها، والوقوع موقع مفعول فيه، ومفعول به. وأما بعد التركيب فمدلولها، المجتَمَعُ عليه، المجازاةُ. وهو من معاني الحروف. ومَن ادّعى أنّ لها مدلولاً آخر، زائداً على ذلك، فلا حجة له. وهي مع ذلك غير قابلة لشيء، من العلامات التي كانت قابلة لها قبل التركيب. فوجب انتفاء اسميتها، وثبوت حرفيتها.
تنبيه.. خصّ بعضهم الجزم بإذْما بالشعر. وجعلها كإذْ. والصحيح أنّ الجزم بها جائز في الاختيار.
السادس: أنْ تكون زائدة. ذهب إلى ذلك أبو عبيدة، وابن قتيبة. وجعلا من ذلك قوله تعالى } وإذْ قالَ رَبُّكَ للمَلائكةِ { البقرة 30، ومواضع أُخر في القرآن. ومذهبهما في ذلك ضعيف. وكانا يُضعَّفان في علم النحو.
وزاد بعضهم لإذْ قسماً سابعاً. وهو أنْ تكون بمعنى قد. وجعل إذْ في قوله تعالى } وإذْ قالَ رَبُّكَ {، بمعنى قد. وليس هذا القول بشيء. والله أعلم.".

أقول: لنتأمل الصيغة التالية كمثال: إذْ جاء زيد. 
إنّ تعريف الحرف (ذ) القيم ( 00111 )، تعني معرفة المستمع فقط بشكل وصفة عنصر غائب. (إن الصيغة " ذ(زيد)" تفيد تذكير المستمع بشكل وصفة العنصر الغائب " زيد "). منه، هناك عنصر ثان (موضوع) غائب، هو: جاء زيد، هذا العنصر معروف الشكل والصفة للمستمع، وذلك حسب الصياغة بالحرف (ذ).
لكن عند الصياغة بالألف ذات القيم ( 11111 )، فإنّ الصيغة المذكورة: ذ (جاء زيد)، تتآلف مع المتكلم والمستمع.
أي أنّ الصيغة " إذ "، تفيد في إحداث التعارف والتآلف، بين المتكلم والمستمع، وعنصرٍ غائب معروف شكلاً وصفة للمستمع فقط. 
أي: " إذ " تآلف مع ذكرى، بينما " ذا " ذكرى لتآلف.