لغات ولهجات - 4

د. محمد سعيد حسب النبي


سبقت الإشارة في أكثر من مقال إلى اختلاف اللهجات في الأمة الواحدة يكون تبعاً لاختلاف أقاليمها وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف وما يمتاز به من خصائص. وقد جرت عادة علماء اللغة أن يطلقوا على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات المحلية. وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً وفقاً للمساحة التي يشغلها كل منها؛ فمنها ما يشغل جزءاً كبيراً من أجزاء الدولة، ومنها ما تضيق فلا تشمل إلا بضع قرى متقاربة، ومنها ما يكون وسطاً بين هذه وتلك. وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألوا جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات.

أما محاربة عوامل الابتداع في داخل منطقتها فتتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوى الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها. فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع قوى كهذا مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها. وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير.
وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال. ويظهر هذا في هجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لهم، وما يستجلب ذلك من عناصر أجنبية عنهم. ولكن قلة عدد من ينفذ من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها، وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم. كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثر لهجة البلد بلهجاتهم فحسب؛ بل من شأنه كذلك أن يحملهم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها.
غير أنه قد يتاح أحياناً للهجة محلية فرص الاحتكاك الدائم بلهجة أخرى، وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراع أهلي لا يختلف كثيراً في ظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بين لغتين مختلفتين كما أوردنا في مقالات سابقة.
وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين: فأحياناً لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ، وأحياناً تتأثر إحداهما بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال: فأحياناً يكون يسيراً لا ينال إلا بعض المظاهر، وأحياناً يكون عميقاً ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة. فيكون يسيراً إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان. ويبدو هذا في تأثر لهجة القرى بلهجة المدينة التي تجاورها، ففي هذه الحالة يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف. أما إذا كانت الفوراق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي؛ فإن التأثر يكون عميقاً لدرجة تصل أحياناً إلى القضاء على اللهجة المغلوبة.