لغات ولهجات - 5

د. محمد سعيد حسب النبي

سبقت الإشارة في صراع اللغات واللهجات إلى وجود فوراق كبيرة بين أهل منطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان؛ ولذلك فإن التأثر يكون عميقاً لدرجة تصل أحياناً إلى القضاء على اللهجة المغلوبة. ويحدث ذلك في حالتين:
الأولى: أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى؛ ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، شريطة أن لا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وأدباً، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث كما أشار وافي في كتابة اللغة والمجتمع. فلهجة باريس قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس، وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الأسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية، ولهجة قريش قبل الإسلام مع اللهجات المضرية الأخرى.
والحالة الثانية: أن تفوق إحدى المنطقتين المنطقة الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى، وفي ذلك يشير وافي إلى أن اللهجة السكسونية بألمانيا أخذت تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الإلمانية الحديثة وقبل أن تظهر غلبة برلين، وأخذت التوسكانية بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الإيطالية الحديثة، وقبل أن يظهر سلطان روما، وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من نتاج أدبي لا يذكر بجانب نتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع.
وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعاً لمبلغ قرب اللهجتين إحداهما من الأخرى ومبلغ ثقافة المنطقة المغوبة، فيطول أمده ويشتد عنفه كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين أو قلت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة. فلهجة مدريد –كما أشار وافي- لم تقو بعد على التغلب على كثير من اللهجات الأسبانية الأخرى، ولا تزال تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات. ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها. وفي القسم الفرنسي من سويسرا لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في بعض المناطق (فاليه، فريبورج..)، على حين أنه قد تم انقراض  هذه اللهجات أو كاد في مناطق أخرى (نيوشاتل، جنيف..)، وذلك لأن هذه المناطق أرقى ثقافة وعلماً من المناطق الأخرى وأقدم منها عهداً بالمدارس. ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقو بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا ولا يزال يلقى منها مقاومة عنيفة، لكثرة الفروق التي تفصلها عنه.
وهكذا يسير تغلب لغة على أخرى على السنن نفسها التي تسير عليها تغلب اللغات المختلفة بعضها على بعض والذي سبق وأوردناه في مقالات سابقة. ففي المرحلة الأولى تقذف اللهجة الغالبة اللهجة الأخرى بطائفة كبيرة من مفرداتها فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقاومته، ولكن اللهجة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة بمخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات، فينطق أهلها بألفاظهم الأصلية وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقاً لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم، حتى إنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفاً قريبة منها من حروف لهجتهم. وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللهجة المغلوبة أصوات اللهجة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات؛ فينطق أهل اللهجة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من المخارج نفسها وبالطريقة نفسها التي يسير عليها  النطق في اللهجة الغالبة، فيزداد  بذلك انحلال اللهجة المغلوبة ويؤذن بأفول نجمها. ولكنها تظل طول هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية (Morphology، Syntax) وفي مقاومة قواعد اللهجة الغالبة، إن كانت تختلف عنها في القواعد. فيركب أهلها جملهم ويصرفون كلماتهم وفق أساليبهم الأولى. وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئاً فشيئاً، فتأخذ قواعد اللهجة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم لها الظفر ، فيتم بذلك الإجهاز على اللهجة المغلوبة. غير أنها كثيراً ما تترك في ألسنة أهلها بعض آثار  من قواعدها القديمة.