دار الحكمة ببغداد ودورها في تعريب العلوم وازدهار اللغة العربية

د. أحمد عبد الحميد عبد الحق

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ، وبعد ..

فقد شغلت قضية تعريب العلوم ذهن المثقفين والأكاديميين العرب في العصر الحديث ، وما زال الرأي الغالب ـ للأسف ـ يرى عدم قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم الحديثة ، ويصر على تدريس تلك العلوم للطلاب في المعاهد العلمية والجامعات باللغات الأجنبية ، مع إن التاريخ يشهد ببراعة وقدرة اللغة العربية على استيعاب أي علم من العلوم ، وتقديم الألفاظ والأساليب المناسبة لأي فكرة تنقل من اللغات الأخرى ،ودون أن يحس القارئ للنص المترجم بأي فارق على الإطلاق ، بل أكاد أجزم أن النص الأعجمي لو أحسن ترجمته وتعريبه قد يجد فيه القارئ من الذوق والمتعة ما لا يجده عند قراءته لهذا النص في لغته الأم ،والدليل على ذلك القصص القرآني ، فرغم أن أكثره مصاغ على ألسنة أقوام قد تتعدى لغاتهم المائة لغة إلا أن القارئ لا يحس بذلك ، وقد يقرأ القارئ بعض سور القرآن الكريم فيجد فيها أحداثا تاريخية مختلفة الزمان والمكان واللسان تصاغ بلسان عربي مبين وبسياق فريد ،بحيث ينسى تماما أن تلك القصص لأناس غير عرب (1)..

وقد يقول قائل : إن هذا نسق إلهي معجز فأقول : نعم ،ولكنه في نفس الوقت دليل على أن اللغة العربية بها من القوالب ما يستطيع استيعاب أي نص مترجم دون أدنى إخلال بالمعنى المراد  ..

وقد خاضت اللغة العربية تجربة ترجمة وتعريب العلوم الإنسانية والطبيعية من اللغات الأخرى إليها بداية من القرن الثاني الهجري ، وأثبتت براعة فائقة في استيعاب أي نص ينقل من لغة أخرى ، وقد ظهر ذلك من خلال حركة التعريب التي تمت في مكتبة دار الحكمة ببغداد ، تلك المؤسسة العلمية التي أنشأها الخليفة العباسي هارون الرشيد ، وتم فيها تعريب الجزء الأكبر من العلوم الرياضية والفلكية والطبية والهندسية والجغرافية والفلسفية والكيميائية التي عرفتها الأمم السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقلها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية ..

ولم يجد الدراسون لتلك الكتب بعد ترجمتها أي مشقة ، ولم يتعثر عليهم فهم شيء منها فيحتاجون لمراجعته في النص الأصلي ،وغدا الكتاب المعرب يغني تماما عن الكتاب الأصلي ، بل قد يجد فيه الدارس من الفائدة ما لا يجده في الكتاب الأصلي بفضل ما أدخله عليه المترجمون من إيضاحات وشروح واستدراكات ، حتى إن الناقل الغربي فيما بعد كان يؤثر النص العربي على غيره ، ويؤيد ذلك قول جورج سارتون : "وقد بلغت الآثار العربية ( يقصد الكتب المترجمة من اليونانية ) من الجدارة مبلغ أن أذلت التراجم الأخرى" (2).

وقد بدأت فكرة تلك الدار بمكتبة خاصة بالرشيد أنشأها في قصره ، فلما ضاقت بما فيها من كتب , وعجزت عن احتواء القراء المترددين عليها شرع في تطويرها , فنقلها من القصر وأفردها بمبنى خاص بها , يصلح لاستيعاب أكبر عدد من الكتب , ويكون مفتوحا أمام كل الدارسين وطلاب العلم (3).

وكان هذا المبنى مكونا من عدة قاعات , قاعة للاطلاع , وقاعة للمدارسة , وقاعة لنسخ الكتب الجديدة وتجليدها , وقاعة للترويح عن النفس وللاستراحة , ومسجدا للصلاة , ومكانا يبيت فيه الغرباء , تتوفر فيه مقومات الحياة من طعام وشراب وغيره , ومخزنا للكتب , نظمت فيه بحيث صار لكل فن من الفنون العلمية مكان خاص به , وتوضع فيه مرتبة في دواليب , يحمل كل دولاب عنوانا لما فيه من كتب وأرقامها , ثم جعل لكل فن فهرست خاص به , يشمل عناوين وأرقام الكتب وتعريفا بكل كتاب ومؤلفه , وعدد أجزائه وصفحاته , واللغة التي كتب بها , وإشارة إلى أجزائه المفقودة إن كان فقد منه شيء(4) .

ثم زودها الرشيد بعد ذلك بما تحتاج إليه من أثاث ومرافق , وأحبار وأوراق للدارسين , وعين لها المشرفين على إدارتها والعمال القائمين على خدمة ورعاية زائريها(5) .

ثم أحضر لها كبار العلماء في فنون العلم المختلفة , عربا وعجما , وأجزل لهم العطاء , وفتح لهم باب المناقشات الحرة فيها , وإقامة المناظرات العلمية , وتصنيف الكتب, وشجع الطلاب على التردد عليها من شتى الأرجاء  ، ورصد لهم المكافآت , وأجرى عليهم الأرزاق والعطايا .

وصار يجلب إليها كل كتاب يسمع عنه , بل وشجع التجار الذين كانوا يرحلون إلى بلاد فارس والروم والهند على اشتراء ما يقع تحت أيديهم من كتب أيا كان نوعها, وحض باقي الناس على المساهمة في ذلك حتى قيل : إنه كان في بعض الأوقات يقبل الجزية ممن تجب عليهم كتبا  (6).

كما أحضر لها مئات النساخ والشراح والمترجمين من شتى اللغات ؛ لتعريب ونقل الكتب من لغتها الأصلية (7).

وواصل ابنه المأمون بعده الاهتمام بتلك المكتبة , حتى غدت من أعظم المكتبات في العالم , وكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من العلوم القديمة المخزونة المورثة عن اليونان (8) فلما أجابه بالموافقة جهز بعثة علمية , وزودها بنفر من المترجمين , وجعل على رأسها   المشرف على تلك المكتبة  حنين بن إسحاق(9) وتجولت هذه البعثة في كثير من الأماكن المختلفة التي يظن أن فيها مخازن للكتب اليونانية القديمة , وعادت إليه بطرائف الكتب , وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب والفلك ،وغير ذلك من العلوم .

كما راسل المأمون باقي الملوك في عصره يسألهم أن يسمحوا لبعثاته بالبحث والتنقيب عن الكتب في المخازن القديمة ..

واجتمع له بذلك ثروة هائلة من الكتب القيمة , فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين, للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية ,  وعين مسئولا لكل لغة يشرف على من يترجمون تراثها , وأجرى عليهم الرواتب العظيمة.

وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء لعشرات ممن كانوا يقومون بالترجمة من اللغات الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية , وكان بعضهم يقوم بترجمة الأصل إلى لغته هو , ثم يقوم مترجم آخر بنقله إلى العربية وغيرها , كما كان يفعل يوحنا بن ماسويه الذي كان ينقل الكتاب إلى السريانية ثم يكلف غيره بنقله إلى العربية (10) مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته وتجليده .

وبتلك الترجمة صارت اللغة العربية وعاء لكل العلوم المتاحة وقتها، وشهدت أزهى عصور ازدهارها ، وغدت اللغة الرسمية لتعلم الرياضة والفلك والطب والكيمياء والهندسة والفلسفة والتنجيم ، وأصبح كل من يريد التبحر في أي فن من الفنون عليه أن يتقن اللغة العربية ليسهل له الاستفادة من الكتب المكتوبة بها ..

وقد زاد من قيمة ما فعله المعربون أنهم لم يقفوا عند حد الترجمة فقط  , وإنما قاموا بالتعليق على الكتب المترجمة ، وتفسير ما فيها من نظريات , ونقلها إلى حيز التطبيق , وإكمال ما فيها من نقص , وتصويب ما فيها من خطأ , حيث كان عملهم يشبه ما يسمى بالتحقيق الآن , كما يفهم من تعليقات ابن النديم على بعض تلك الكتب(11).

ويبدو أن المأمون لم يكتف بذلك وإنما أنشأ فرعا من تلك الدار خاصا بالتعريب ، وعين فيه العلماء لتهذيب الكتب المترجمة ، وتوجيه أسماء المعرفة من الأعلام والأجناس على ما يناسب المنطق العربي (12) وصار هذا الفرع يزخر بآلاف الكتب المترجمة التي أقبل الناس على قراءتها ودراستها في شغف ،كوّن لديهم ثقافة لم يجد جورج سارتون وصفا لها غير قوله : " لقد انتشرت كأنما هي نار في برية ، من بغداد شرقا إلى الهند ، ومن بلاد ما وراء النهر إلى آخر طرف من أطراف الدنيا المعروفة " (13).

وقد لعبت تلك الكتب المعربة بالإضافة إلى ما خطه علماء المسلمين من إبداعاتهم دورا كبيرا في حدوث نهضة علمية في سائر المجالات عند المسلمين الأوائل ومن تتلمذ على أيديهم من أبناء الأمم الأخرى  , نهضة لم يشهد لها التاريخ مثيلا قبل العصر الحديث , هذا في الوقت الذي كانت أوربا (كما يقول سارتون) في حال مزرية من البداوة والتخلف.

ويسرت السبل لنبوغ كثير من العلماء العرب الذين صاروا أصحاب الريادة في علوم شتى ارتبط اسمهم بها إلى الآن مثل :

الخوارزمي ( محمد بن موسى ) الذي يعد المبتكر الحقيقي لعلم الجبر بصورته الحديثة , وكان قد انقطع للدراسة في تلك الدار منذ تأسيسها  (14) والرازي ( أبو بكر محمد بن زكريا ) الطبيب الشهير الذي برع في كثير من العلوم , وصنف قرابة131كتابا نصفها في الطب (15) .

وابن سينا ( أبو علي بن الحسين ) الطبيب الشهير أيضا الذي صنف ما يزيد عن مائة كتاب في فنون العلم المختلفة بالعربية والفارسية (16).

والبيروني ( أبو الريحان أحمد بن محمد ) الذي اشتهر بمعرفته الواسعة في علم الهيئة والنجوم (17) وجابر بن حيان الذي يعد إمام علم الكيمياء , حتى إن القدماء كانوا يخصونها به قديما ,  فيسمونها علم جابر (18) والبتاني (محمد بن جابر بن سنان الحراني ) الذي اشتهر في مجال الأرصاد الجوية, وكان أوحد عصره في هذا الفن كما قال عنه الذهبي (19) وأقام لنفسه مرصادا  خاصا به ، باشر عليه أعماله , واستطاع بهذا المرصاد أن يحسب طول السنة الشمسية , حسابا لا يختلف كثيرا عما ذكره العلماء حديثا, وتنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر بدرجة من الدقة المتناهية   .

وابن النفيس(علي بن أبي الحرم القرشي )والذي قال عنه صاحب كتاب شذرات الذهب انتهت إليه معرفة الطب في عصره , وكان يتمتع بذكاء مفرط وذهن خارق (20) وقال عنه السبكي : " لم يكن على وجه الأرض مثله في الطب, وكان في العلاج أعظم من ابن سينا  (21) والإدريسي الجغرافي الشهير الذي زود المعرفة الإنسانية بحقائق جغرافية لا تختلف كثيرا عما هو متعارف عليه الآن , وغيرهم من العلماء الذين نهلوا من معين دار الحكمة هذه أو من الكتب التي ترجمت بها .

وبالإضافة إلى ذلك فقد قدم المعربون بتلك المكتبة خدمة جليلة للبشرية جمعاء بنقلهم لتراث الأمم السابقة الذي كان مهددا بالزوال والاندثار, ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة وغيرها من المصنفات القديمة التي تزخر المكتبات بنسخ منها الآن , حيث كان يحرم الاطلاع على تلك المصنفات في كثير من البلدان التي جُلبت منها, وكان يحرق ما يعثر عليه منها , كما فعل بكتب أرشميدس العالم الشهير, إذ أحرق الروم منها خمسة عشر حملا كما جاء في بعض الروايات(22).

وفي ذلك يقول غوستاف لبون : كلما تعمق المرء في دراسة المدنية الإسلامية تجلت له أمور جديدة , واتسعت أمامه الآفاق , وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة علماء المسلمين ...

ولذك أرى أن تلك التجربة تجربة مكتبة بيت الحكمة لو أعيد تكرارها الآن في صورة مؤسسة علمية تقوم بما كانت تقوم بها وفق المعطيات والخبرات الحديثة لأمكن تعريب كل العلوم التي نحتاج إليها ، ولتمكن طلابنا في كل الجامعات والمعاهد العلمية من دراستها باللغة العربية دون معوقات ، بل وتمكن عوام القراء والمثقفين العرب الذين لا يجيدون غير اللغة العربية من الاطلاع على تلك العلوم في يسر وسهولة ، ولكسر الحاجز بين عوام الناس وبين الاطلاع على أساسيات علوم كثيرة كالطب وغيره ، فإني وغيري من المثقفين العرب يرون أن شعوبنا العربية من أقل الشعوب تثقيفا في مجال الطب والصيدلية وغيرهما من العلوم التجريبية الحديثة ،وذلك لأن المادة العلمية المطروحة في هذه المجالات في صورة مقالات ورسائل وكتب وأبحاث غالبا ما تكون بلغات أجنبية ؛مما يقلل فرص الاطلاع عليها وقراءتها ..

فما المانع لو قامت الدول العربية متمثلة في جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي بإقامة مؤسسة علمية شبيهة بدار الحكمة التي شيدها الرشيد ينتخب لها نبذة من الأكاديميين والعلميين والمترجمين الأكفاء تكون مهمتهم اختيار الكتب غير العربية ذات المحتوى العلمي الجيد وتعريبها ، ثم تشكيل لجنة علمية لترجمة مقررات المعاهد والجامعات التي تدرس بغير العربية ،ثم إعادة عرضها على من يقومون بتدريسها ومناقشتهم في نصها المعرب ليبدوا رأيهم فيه ، ثم إقناعهم بتدريسها باللغة العربية .

وأنا موقن بأنه لو انتخب لهذا الأمر حوالي ألف عالم وعالمة من أصحاب المهارات والهمم العالية لاستطاعوا أن يعربوا لنا كل ما تحتاجه معادنا في خلال عشر سنوات ، ولأضحت اللغة  العربية هي اللغة المعتمدة في تدريس كل العلوم .


التاريخ