لنخرج لغتنا العربية من حالة الاستهزاء والاستهانة

بكر أبو بكر





لم تعد الأمور لتقف عند حدود الاستخدام الاستعراضي للغة الانجليزية في المجتمع الفلسطيني، وإنما تعدتها لتكرار واستساغة بل والاستسلام لاستخدام المفردات العبرية أيضا في خطابنا اليومي في فلسطين، بل وعلى المنابر.

لقد استطاع العلم والتِقانة (التكنولوجيا) أن يجعل من اللغة الانجليزية لغة العلم في عالمنا اليوم، ومنطقية ذلك أن الدعم والرعاية والعلماء جاءوا في غالبهم من بيئة تشجيع البحث العلمي وتتكلم اللغة الانجليزية التي خدمتها الاكتشافات العظيمة والمخترعات لكن هذا لا يجيز أبدا أن تنسحق اللغة العربية أمام مثل هذا المد اللغوي الكاسح.

إن إقرارنا واحترامنا للثقافات الأخرى والنهل منها ضرورة في إطار تلاقح التجارب والانفتاح الحضاري، ولكن هذا لا يعني أن نجعل من ثقافتنا العربية الاسلامية فضاء مفتوحا بلا ضوابط لكل الادخالات الخارجية.

بعيدا عن الاتهامات المسفّة بعقلية الجمود والتحجر أو عقلية مؤامرة الغرب فإن وقفة أو وقفات حقيقية وجادة يجب أن تكون لنا كأمة عربية وأمة اسلامية وأمة عربية مسيحية شرقية في مواجهة الغزو الثقافي في اتجاهاته المختلفة، والتي منها الغزو اللغوي الذي يتعامل معه البعض بعدم اهتمام أو استعراضية أو اتهام واستهزاء لمن يحذر منه.

إن اللغة ليست كلاما وصفيا خطابيا فقط، أو كلمات مجردة بلا مضمون ثقافي، إنها ثقافة وعلم وتراث وحضارة تعبر عن ذاتي، وتعبرعن فكري ومشاعري كما تعبر بلساني عن آبائي وأجدادي، وتنطق فيها بكل حجر وشجر وثمر كما تنطق بها الروايات والخراريف وغابر الازمان، وثقافتنا العربية المعتمدة على القرآن الكريم، وأشعار العرب العظيمة وتراثنا الغني وتاريخنا الذي لا ينضب، ومستقبل لغتنا الثري الذي ينادي دوما: أنا البحر في احشائه الدرر كأمن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.

العبرية على المنابر

وفي نفس السياق الذي فتحنا فيه الباب في فلسطين تحديدا لتغلغل اللغة الانجليزية (كما هو شأن البلدان العربية والاسلامية) ولو عبر مفردات تتكرر في (الفيسبوك) استسهلنا أن ندخل أيضا في خطابنا اليومي (حتى في المساجد والكنائس والمحافل العلمية) الألفاظ العبرية فمن يهُن يسهل الهوان عليه.

إنك قد لا تستغرب خطيبا في المسجد يستخدم في أحدى القرى ألفاظا عبرية وكأنها جزء من التراث الإسلامي، وهو ممن مطلوب منهم إضافة للبعد الايماني والخلقي تكريس الانتماء للغة العربية لغة القرآن العظيم، كما تجد ذلك من المدرس في ذات القرية، أما عن العمال في الداخل فحدث ولا حرج إذ أصبحوا لا يفقهون في العربية شيئا وتفيقهوا في العبريات، ولنزيد الطين بلّة فإن عددا من الشباب يتفاخرون بسماع الأغاني العبرية ويتقدمون بكتابة أسماءهم على الفيسبوك بالأحرف العبرية (رغم أن كل منشأ العبرية كما اللغات المشرقية الأخرى في اليمن أي بأصول عربية وهذا مبحث آخر )

نعم من المهم وأحيانا من الواجب تعلم اللغات الأخرى ومنها الانجليزية وفي محيطنا العبرية أيضا، ولكن تعلمها شيء مختلف عن جعلها المرجعية الفكرية والثقافية بحيث تصبح جزء من حياتنا اليومية وجزء من خطابنا ولساننا ما قد تتحول لدى البعض إلى أولوية على لغته الأم التي قد تنكمش في زوايا النسيان.

الفجور باللغة

إن اللغة العربية لا تحتاج مطلقا لمن يشيد بها أو يذكّر بعظمتها وهي التي تشتمل على ملايين الألفاظ والاشتقاقات والمعاني ما لم ترقى لها لغة في العالم حتى الآن ، ولكن ما يجب أن نتذكره أن التقصير أو الاهمال أو استساغة هوان لغتنا هو من صنع أيدينا، إذ أن ارتكاب الفاحشة في المرة الأولى دون رادع يشجع على تكرارها لتصبح جهرا أي فجورا ونحن ارتكبنا في حق لغتنا الفاحشة والفجور.

إن اللغة العربية متسيدة ومحفوظة إذ تكفل القرآن الكريم على الأقل بحفظها ، كما هي محفوظة في أشعار العرب وأدبياتهم وتراثهم الذي لا ينضب، فإن أهملها أهلها فهي بهم وبدونهم ستظل وضاءة مضيئة كالسراج، ومع ذلك فإن واجبهم الأبدي أن يقوموا بها ولا يتراخوا أو يتخاذلوا أبدا...ابدأ بنفسك ولا تحمل غيرك المسؤولية وناضل وصارع وناجز.

الاستهزاء رهين الكسل

إن لم نفق من غفلتنا ونتوقف عن حالة التراخي أو التكاسل أو الاستهانة أو عدم الاهتمام أو ادارة الظهر لتسلل اللغات الأخرى في عمق ثقافتنا وحضارتنا وديننا الاسلامي وديننا المسيحي في الشرق العربي، وفي تراثنا وحضارتنا فقد نلطم مستقبلا على أولادنا عندما يعوج لسانهم وهم يلعبون لاهين، أو حينما نراهم يتحدثون بسخرية واستهزاء عن أجدادهم الذي يتكلمون العربية الجميلة بفصاحة لأنهم يعتبرونهم عبارة عن رجعيين او متأخرين أو من فتات الماضي.

إن مسؤولية صيانة اللغة العربية الجميلة واكتشاف مجاهلها واختراع المتجدد الكثير فيها ومنها، ونشرها والحفاظ عليها وإبعاد الشاذ والغريب والأجنبي عنها يجب أن يكون نابعا من الحب العميق لها والتبحر اللطيف فيها والتذوق اللذيذ لثمارها ما هو واجب البيت والمدرسة والإعلام والكتاب والمثقفين والسياسيين والدعاة وكل الأمة، وهذه المسؤولية وهذا العمل يمثل قمة الانفتاح الحضاري والثقافي الذي يعيد (عوربة) الإدخالات على حاسوب عقلنا العربي ليكون برائحة الياسمين أو طعم القهوة العربية ولا يكون بطعم (المأكولات السريعة) أو برائحة القهوة السريعة.