نضال برقان
عرفه القراء شاعرا طليعيا في ستينيات القرن الماضي، ونشرت في «الآداب» و»شعر» في بيروت و»الأفق الجديد» قصائده وهو ما زال طالبا في الثانوية في مسقط رأسه الكرك، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت، وذلك قبل أن ينشر ديوانيه الشعريين: «كلمات على الرمل» و»الحب مثلا... وقصائد أخرى» في السبعينيات. وقد اتخذت حياته بعدها مسارات أخرى في المجالات الثقافية والأدبية، مرورا بالدراسة العليا والتدريس الجامعي خارج الأردن، وانتهاء بعودته إلى البلاد باحثا في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومستشارا في التنمية مع الأمم المتحدة. وخلال العقد الأخير، وبعد ثلاث جوائز دولية مرموقة، صعد نجمه وتألق في مجال آخر، حتى أطلقت عليه ألقاب عدة منها: «صائد الجوائز» و»شيخ المترجمين العرب».
هذا هو الدكتور فايز الصياغ الذي نحاول في هذا اللقاء الكشف عن جوانب من تكوينه الثقافي وأبعاد شخصيته..
] حصلتم حديثا على «جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» من قطر، عن ترجمة كتاب «عصر التطرفات» -القرن العشرون الوجيز (1914 -1991) للمؤرخ العالمي إريك هوبزباوم. كيف تنظر بداية إلى هذا الفوز، وما هي خصوصية هذا الكتاب؟
- أعتبر فوزي بهذه الجائزة، وبمظاهر التقدير الأخرى التي حظيت بها حتى الآن، أكثر من مجرد تكريم شخصي، بل هي تكريم لجميع المعنيين بقضايا الترجمة والتعريب والنهوض الثقافي والفكري والحوار الحضاري في الوطن العربي. وما من شك في أن هذه المبادرة الريادية ستسهم بدور حاسم ومؤثر في تحفيز وإنعاش حركة الترجمة في العالم العربي، بحيث تصبح جزءا لا يتجزأ ومكوِّناً أساسياً في تيار التنوير العربي الجديد التفاعلي المتفاعل مع الثقافات والإرث الثقافي العالمي. وستنضم جائزة الشيخ حمد في مجال تحفيز سيرورة التعريب، إلى جائزتين مرموقتين أخريين حظيت بهما سابقا، وهما جائزة زايد العالمية للكتاب في مجال الترجمة سنة 2008 عن ترجمة كتاب «علم الاجتماع» لـ «أنتوني غِدِنْزْ» وجائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية في مجال الترجمة سنة 2009 عن ترجمة كتاب «عصر رأس المال (1848-1875)» لـ «إريك هوبزباوم» كذلك. ولا ننسى، في معرض استحضارنا للعهود الذهبية للنهضة المعرفية العربية في صدر العصر العباسي، والترجمات التي اعتُمدت في أوروبا للتعرف على الفكر اليوناني والشرقي، أن للعالم علينا حقاً مثلما أن علينا حقاً للعالم في بناء جسور التدفق المعرفي الخلاق بين الطرفين. وعلينا أن لا نغفل عن أن من اوجب الواجبات على المعنيين بأمر الترجمة من العربية وإليها أن يضعوا المراجع المَعْلَمية في شتى مجالات العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانية، وكذلك الفنون الإبداعية، في متناول الطلبة والهيئات التعليمية الجامعية والباحثين ومحبي الأدب والقراء العاديين. وسينعكس ذلك، بدوره، في المجتمعات العربية في شحذ روح الإبداع والاستقصاء والبحث والتطوير لدى المواطن العربي، الذي سيتجاوز مرحلة نقل المعرفة، ليدخل ميدان إنتاج المعرفة في المجالات كافة.
أما أهمية «عصر التطرُّفات»، فتنبع من أن المؤرخ العالمي إريك هوبزْباوْم (1917-2012) يستكمل فيه رباعيته الموسوعية عن تاريخ العالم المعاصر التي ضمت قبل ذلك مؤلفاته المرجعية الشهيرة: «عصر الثورة»، و»عصر رأس المال»، و»عصر الإمبراطورية»، (وقد نشرت ترجماتي لها خلال السنوات القليلة الماضية). ففي «عصر التطرُّفات»، يرى هوبزْباوْم أن القرن العشرين «الوجيز»، حسب تعبيره، قد بدأ باندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والثورة الروسية (1917) وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى عام 1991، وتخلّلته الدكتاتوريات الهمجية في روسيا وألمانيا وإيطاليا وأقطار أخرى، والحربان العالميتان، وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وحروب الاستقلال والتحرر الوطني، ثم الحرب الباردة التي أعقبتها مرحلة الهيمنة الأميركية والصراعات الإقليمية.
ويقول هوبزباوم في التصدير الخاص الذي خص به الترجمة العربية لـ «عصر التطرفات»إنه يرمي إلى وضع تاريخ القرن العشرين في متناول القراء الشباب، ومنهم الطلاب، الذين لم تلامس تجربتهم وذكرياتهم تاريخ المراحل التي سبقت عام 1990. ويصدق ذلك، بصورة خاصة، على البلدان الإسلامية التي تتراوح فيها نسبة من هم دون الخامسة عشرة من العمر بين 30 و45 بالمائة من السكان. ويضيف هوبزباوم:
«إن البريطانيين قد أدخلوا عنصراً إضافياً غير متوقع إلى المنطقة عام 1917 بإصدار «إعلان بلفور» الأخرق الذي وعد اليهود بـِ’ وطن قومي‘ غير محدد الهوية في فلسطين. ومع أن بريطانيا وفرنسا اتفقتا على اقتسام الشرق الأوسط بينهما في اتفاقية سايكس-بيكو عام 1917 – فاستولى الفرنسيون على سوريا ولبنان، والبريطانيون على بلاد ما بين النهرين، وفلسطين، وما كانوا يأملون في السيطرة عليه في شبه الجزيرة العربية – فإن الشرق الأوسط العربي ظل تحت الهيمنة البريطانية حتى خمسينات القرن العشرين. وهكذا خضع المسلمون بين الحربين، مباشرة أو على نحو غير مباشر، وربما للمرة الأولى في تاريخهم، لحكام غير مسلمين، في مستعمرات رسمية، أو محميات مستقلة ظاهرياً. وباختصار، فإن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أصبح في بؤرة السياسات الدولية، بفعل موقعه الاستراتيجي وثروته البترولية على حد سواء «. ويخلص هوبزباوم في هذا التصدير إلى أن منطقة الشرق الأوسط «كانت، وستظل، مزعزعة من الوجهة الاجتماعية»، وأن نهاية الحرب الباردة قد «تركتها أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى... وإذا قدر لمشكلات المنطقة أن تُحل، فإن ذلك لن يتم على أيدي قوى خارجية، بل عن طريق قوى داخلية في المنطقة».
وفي فصل ختامي أضافه إلى النسخة العربية من «عصر التطرفات» فإن المؤرخ الماركسي إريك هوبزباوم، الذي عرف بمعاداته للصهيونية والسياسة التوسعية الاستيطانية الإسرائيلية، يحلل أبرز التطوّرات العالمية خلال العشرين سنة الأخيرة منذ انهيار المنظومة الشيوعية حتى عام 2010. ويقول في معرض حديثه عن الشرق الأوسط، وهو «أكثر مسارح النزاع الدولي سخونةً في العالم»، «إن حلّ الدولتين، كما هو متصوَّر في الزمن الراهن، لا يفتح أفقاً مستقبلياً يمكن الركون إليه في فلسطين... وأشك في أن يكون الأمر وارداً في اللحظة الراهنة. ومهما كان نوع الحل، فإن شيئاً لن يحصل ما لا يقرر الأميركيون أن يغيروا رأيهم كلياً، ويمارسوا الضغط على إسرائيل. وليس ثمة ما يشير إلى حصول شيء من هذا القبيل».
وبالإضافة إلى القيمة العلمية والمنهجية المتميزة لـمضمون هذا الكتاب المرجعي، فإن ترجمته إلى العربية تسد فراغا واضحا في المكتبة العربية، وتمثل إسهاما متواضعا في تعريف قادة الرأي والنخب التربوية والسياسية والاقتصادية، والقراء العرب عامة، بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي، وبالأعمال والمؤلفات الأجنبية الجديدة أو المتجددة القيمة، في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية عامة، وفي العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والثقافية والفنية بصورة خاصة. كما أن «عصر التطرفات» يكتسب أهمية محورية بالغة لأن الكثير من الأسئلة والإشكاليات والأحداث التاريخية التي يتعرض لها ما زال مدار نقاش في عالمنا العربي. وقد يسهم نشر هذا الكتاب باللغة العربية في إطلاق نقاش وحوار جدي حول بعض الموضوعات الهامة عالمياً وذات العلاقة بمنطقتنا. وبالنسبة للعرب المعنيين بكتابة التاريخ ومتابعته والإفادة منه، فإن هذا الكتاب، شأنه شأن مؤلَّفات إريك هوبزْباوم الأخرى، يطرح بمنظوره الشمولي الموضوعي المعمق نموذجا متقدما من أساليب الدراسة التحليلية وقدوة تحتذى لكتابة التاريخ، وربما لفهمه، بوصفه، في جوهره، سيرورةً حضاريةً دينامية تتكامل فيها المكونات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية.
] تنشغل، منذ فترة، بترجمة سلسلة مهمة من العلوم الاجتماعية، ما الذي يدفعك إلى هذا الانشغال؟
- ثمة سلسلة طويلة من الحوافز، مع أن البدايات لم تكن مقطوعة الصلة ترجمات عربية عديدة سابقة من الإنجليزية وإليها. غير أن مشروع الترجمة المنهجية بدأ ذات يوم من عام 2013، وبعيد عودتي من الدراسة والتدريس في كندا وانضمامي إلى مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية. فقد كنت أتحدث مع مدير المركز آنذاك الزميل (النائب النشط الآن) الدكتور مصطفى الحمارنة، حول موضوع المراجع الجامعية والمستويات المتدنية في بعضها. وتطرق الحديث إلى الأزمات التي يمر بها التعليم بمجمله في الأردن والبلاد العربية عموما، من حيث التردي الواضح في نوعيته وجودته، ولاسيما في المرحلة الجامعية. فالمناهج والمقررات الدراسية بشكلها العام وبفلسفتها التربوية بعيدة عن واقع المجتمع العربي، ويعاني أغلبها من التبعية شبه المطلقة إلى المصادر الأجنبية المترجمة بصورة رديئة ومزرية أحيانا إلى العربية. والأسوأ من ذلك، أن النمط التدريسي السائد يشجع حفظ المادة الدراسية من خلال الملزمة المقررة أو الكتاب المنهجي، على حساب التفكير والتعلم من مصادر متعددة وحديثة، أو من خلال حفز روح البحث والاستقصاء والإبداع والتحليل النقدي الذاتي، بحيث غدت العملية التدريسية تتصف بالجمود، وبالتلقيم، والتلقين، مع عدم وجود أي تفاعل معرفي وإنساني حقيقي بين الأستاذ والطالب. فسارعنا، على هذا الأساس، بتسجيل المشروع وإطلاقه تحت اسم «مؤسسة ترجمان» كهيئة أهليّة اعتباريّة تُعنى بتعريف قادة الرأي والنخب التربوية والسياسية والاقتصادية العربية بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي، في المجالات الواقعة ضمن اهتمامات الأوساط العربية. كما تُعنى، عن طريق النشر وتنظيم الندوات التخصصية، وعبر أنشطة ووسائل متنوعة، بالترجمة الأمينة الموثوقة المأذونة، وعن اللغات الأصلية قدر المستطاع، للأعمال والمؤلفات الأجنبية الجديدة أو ذات القيمة المتجددة في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية عامة، وفي العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والثقافية بصورة خاصة. وتستأنس «ترجمان» وتسترشد منذ انطلاقها وإشهارها بآراء نخبة من المفكرين والأكاديميين من مختلف البلدان العربية، بصورة دورية، لاقتراح الأعمال الجديرة بالترجمة، ومناقشة الإشكالات التي يواجهها الدارسون والباحثون والطلبة الجامعيون العرب على السواء، من الافتقار إلى النتاج العلمي والثقافي للمؤلفين والمفكرين الأجانب، وشيوع الترجمات المشوَّهة أو المتدنية المستوى.
] ثمة تحديات جمّة تواجه الترجمة في العالم العربي، ما هي في رأيك تلك الصعوبات، وكيف يمكن تجاوزها؟
- لا ريب في أن الترجمة، من العربية وإليها، شأنها شأن الكثير من جوانب الثقافة العربية المعاصرة، تعاني أزمة متعددة الجوانب. ويصدق ذلك على مضمون الترجمات، مثلما يصدق على المستوى الحِرَفي والفني للنقل. فالترجمة، في تقديري، هي ترجمة ثقافة إلى ثقافة، لا لغة إلى لغة. وتكاد مواصفات المترجم الناجح تنحصر في عنصرين جوهرييِن لازمين: أولهما التمكن والتمرس باللغتين وبالثقافتين، المترجَم إليها والمترجَم منها على حد سواء. غير أن محتوى الأعمال المترجمة ما زال يتراوح، في أغلب الأحيان، بين نقل الكتب الرائجة المتصلة بالترفيه العابر أو بالشؤون الحياتية اليومية، وصولا إلى المؤلفات البحثية والعلمية والأكاديمية الوقورة. وإنا لواجدون، في كلتا الحالتين، مزيجا من الترجمات الأمينة المتميزة والملتزمة بأصول النقل، وهي قلة قليلة، ومن الأعمال المُقَرْصَنة المشوَّهة التي تُصادر فيها الحقوق الأدبية والفكرية للمؤلف والناشر على السواء، مع تردي مستوى الأداء في صياغة العبارات وتعريب المصطلحات، وحتى في أبسط قواعد الصرف والنحو العربية. ويتمثل هذا الجانب من الأزمة، في أجلى صوره، في نقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية والعلمية المَعْلَمية التي يُفترض فيها تعريف قادة الرأي والنخب التربوية والسياسية والاقتصادية، والأوساط الطلابية الجامعية العربية، بالإنتاج الفكري الجديد والمهم خارج العالم العربي، في المجالات الواقعة ضمن اهتماماتها.
أما حركة الترجمة في الأردن فما زالت اقل من متواضعة، على الرغم من بعض المساهمات الفردية المتميزة والمبادرات الحميدة في هذا الميدان، ومنها قيام جمعية المترجمين الأردنيين، وقيام وزارة الثقافة، في محاولة يتيمة واحدة حتى الآن، بتكريم اثنين من المترجمين المرموقين، ولكن في مجال الترجمة الأدبية فحسب لا في المجالات الفكرية والبحثية. بيد أن القسط الأكبر من نتاج المترجمين الأردنيين إنما يصب فيما تقوم به هيئات عربية أخرى معنية بقضايا الترجمة، مثل المنظمة العربية للترجمة، وعالم المعرفة في الكويت، و»كلمة» في أبو ظبي، والمركز القومي للترجمة في مصر ومشروع نقل المعرفة في البحرين. ولا مراء في أن هذه الهيئات والمراكز العربية تؤدي دورا حيويا ومشهودا في دعم حركة الترجمة وتعزيزها.
] يرى البعض أن حركة الترجمة في الوطن العربية لا تسير بصورة منظمة، وتسلك مسارات متعرجة ومتضاربة أحيانا. فكيف يمكن تفعيل دور المؤسسات العربية في هذا الشأن؟
- علينا أن نتذكر، أولا، أن «إعلان الرياض» الصادر عن مؤتمر القمة العربية المنعقدة في أواخر مارس/آذار 2007 قد دعا، من جملة أمور أخرى، إلى «تدشين حركة ترجمة واسعة من اللغة العربية وإليها، وتعزيز حضور اللغة العربية في جميع الميادين، بما في ذلك في وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت وفي مجالات العلوم والتقنية». ولا يتسع المقام هنا لعرض الإنجازات التي حققتها بعض الهيئات الرسمية أو الخاصة المتخصصة بالترجمة خلال العقود القليلة المنصرمة – وهي، في واقع الأمر شحيحة ومتواضعة إذا ما قورنت بالكم الهائل الذي تميز أكثره بالرداءة والغثاثة والتشتت وغلبة الطابع التجاري وفقدان الدقة العلمية والأمانة الأخلاقية، وحتى القانونية.
ومع الإقرار بالدور الحيوي للهيئات التي تتعاطى التعريب وما يتصل به من أنشطة، فإن الخروج من هذه الأزمة لا يكون إلا ببناء نموذج جديد وصارم ومُمأْسَس للترجمة في العالم العربي، يتجسد في إستراتيجية ذات أهداف واضحة، ومشروعات وبرامج دقيقة محكمة، وآجال وآليات إنجاز محددة، وتستفيد مما اعتور الإستراتيجيات السابقة من أخطاء أو فشل. ومن المؤكد أن مثل هذا النموذج المقترح لن يستهدف الدمج أو التوحيد بين الهيئات العربية القائمة، بل سيحاول تأطيرها والتنسيق بينها وتشبيك بعضها مع بعض، وربما الأهم من ذلك، تقديم الدعم لها قياسا على الإنجاز الفعلي الكفء المبرمج، وفق خطة واضحة من جانب هذه المؤسسات الراهنة أو المقبلة. ونقترح أن تتولى أن تتبنى استراتيجيةَ التنسيق والمساندة المأمولة هذه مؤسسةٌ عربيةٌ قادرةٌ ومؤهلة، بسياساتها وأهدافها المعلنة، ومقدراتها المادية المرصودة، واتساع الآفاق المفتوحة أمامها على الصعد العربية والإسلامية والدولية. كما أن مثل هذه المؤسسة هي التي ستتولى الدعم، والتكليف، والمتابعة. ويرافق ذلك أنشطة مساعدة موازية، مثل تنسيق الجهود التعاونية العربية، في مشروعات الترجمة، لتحاشي الازدواجية والهدر، وبناء قاعدة معلومات عن الكتب المترجمة من وإلى العربية، وعقد لقاءات دورية للمترجمين لتقييم عمل الترجمة في العالم العربي، تقييماً نقدياً، وتنظيم دورات تدريبية في الترجمة، لأفضل المتخرجين في الجامعات العربية بالتعاون مع كليات أو معاهد متخصصة.
] مع أن إطلالتك على عالم الثقافة كانت من خلال الشعر، فإن الشاعر فيك انسحب فيما بعدُ لصالح الباحث المترجم. كيف تقرأ ذلك (التحول) في تجربتك الإبداعية؟
- لا أعتقد أن التغير في حياتي الثقافية كان تحولا من اهتمام إلى آخر بقدر ما كان اعتكافا عن الشعر منذ الهزيمة الكارثية العربية في حزيران 1967. وكان من نتائج ما عانيت آنذاك، كأي مواطن عربي، أن أدركت أن الشعر لا طائل تحته ولا قيمة له. وتوهمت آنذاك أن انطفاء جذوة الشعر في نفسي إنما كانت أمرا عارضا ومؤقتا، وأنها عائدة لا محالة. غير ان هذا الأمل سرعان ما تبدد، وظل ينبوع الشعر عصيا أو أوشك على النضوب. إلا انني ظللت، وما زلت، عاشقا للشعر ومتابعا له ومنغمسا في الوقت نفسه في الفنون الإبداعية الأخرى منذ ذلك الحين، بينما انخرطت في ميادين أدبية وإعلامية وأكاديمية أخرى. ومن اللافت أنني نشرت آخر قصائدي، وهي «الحب مثلا»، في عدد تموز عام 1966 من مجلة «أفكار» التي كنت مدير التحرير فيها خلال مرحلتها الذهبية الأولى القصيرة العمر (1964-1967)، وبمعية ثلاثة من رؤساء التحرير الذين تعاقبوا على رئاسة تحريرها، وهم الأدباء الراحلون عبد الرحيم عمر، وسيف الدين الإيراني وسليمان موسى.
] هل أنت راضٍ عن الدور الذي يضطلع به المثقف (إن وجد ذلك الدور أصلا) من جهة اشتباكه في أحداث الشارع العربي، ومن ثمّ من جهة تأثيره، بوصفه تنويريا، بتلك الأحداث؟
- أعتقد أن صيغة السؤال تنطوي على جانب من الإجابة عنه. وعلينا أن نتوقف عن ممارسة نوع من النرجسية والتفاخر الأجوف فنعتقد أن المثقف العربي تحديدا قد أدى خلال نصف القرن الماضي دورا تنويريا مؤثرا في الحياة العامة العربية عموما. ذلك أننا كنا قد شهدنا خلال النصف الأول من القرن الماضي، كوكبة من المثقفين والمفكرين الذين أحدثت أفكارهم وممارساتهم تأثيرا عميق الغور في الحياة الثقافية والسياسية والتعليمية في مصر وبلاد الشام، ومنهم طه حسين، وأحمد لطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وخليل السكاكيني وقسطنطين زريق وغيرهم. وبرزت تيارات فكرية وثقافية مماثلة في مجتمعات عربية أخرى مثل العراق وبعض أقطار المغرب العربي. غير أن الأغلبية الغالبة من المثقفين، وحتى المتعلمين العرب، في مرحلة الاستقلال بعد الكولونيالية منذ أواسط القرن العشرين، كانوا، وما زالوا، على أكثر من وجه، يدورون في فلك السلطة القائمة، أو ينطقون باسمها، أو ينضمون إلى «الحاشية» أو الدوائر القريبة منها أو الموصلة إليها. ويمكن القول إن صناع القرارات الكبرى السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، وعلى اختلاف مسؤولياتهم، لم يأخذوا يوما برأي المثقفين أو المنكرين قبل اتخاذ تلك القرارات.
] بعد أكثر من نصف قرن من الانغماس في المشهد الثقافي، كيف تقرأ مفردات هذا المشهد بوضعه الحالي؟
- من المؤسف ان المشهد الثقافي في العالم العربي يرتبط ارتباطا وثيقا بواقعنا السياسي والاجتماعي الذي بلغ في هذه الآونة مستوى من التردي لم يعرفه على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية من التاريخ العربي الإسلامي.
وسأقصر ملاحظتي هنا على الساحة الأردنية التي أزعم أنني أكثر اطلاعا عليها وإلماما بما يجري فيها خلال العقود القليلة الماضية. ولا بد من الإقرار بأننا قد شهدنا خلال العقدين الماضيين ظهور مجموعة من المبدعين في الأردن في مجالات الرواية، والشعر، والفنون التشكيلية والأدائية. وكان لجانب مهم من هؤلاء إنتاج غني وحضور مميز حتى على الساحة العربية.
بيد أننا نشهد، في خط موازٍ، فورة غير مسبوقة من الأنشطة والتحركات الثقافية التي تتزاحم فيها أسماء الكتاب من شعراء وروائيين ودارسين-ذكورا وإناثا-وإصدارات وتوقيعات وتكريمات لا يجمع بينها في كثير من الأحيان إلا عنصر الضحالة والارتجال والتجريب. ومن اللافت أن المؤسسات الرسمية والخاصة كثيرا ما تتبنى هذه المحاولات وتدعمها وتتكفل بنفقات النشر والتغطية الإعلامية، على الرغم من شكاواها المتعاظمة من شح الموارد وضيق ذات اليد. ويجري ذلك في الوقت الذي تستشري فيه النزعة الشللية في أوساط الكتاب والنقاد.
ولولا بقية من أمل في صحوة قريبة وعودة الى الروح الإيجابية التي ولدت قبل سنوات مشروعات ريادية جليلة وجدية مثل «مكتبة الأسرة» و «القراءة للجميع» و «التفرغ الأدبي» و «دعم الترجمة»، فإن مشهد اليوم سيكون، لا قدر الله، هو مشهد الغد وما بعد الغد.
فايز الصياغ: لمحات من السيرة الذاتية:
إضافةً إلى الكتب المترجمة الواردة في سياق المقابلة، أصدر الدكتور فايز الصياغ أكثر من عشرين كتابا بين موضوع ومترجم. ومن مترجِماتٍه: كتاب إيمانويل فالرشتين «نهاية العالم كما نعرفه: نحو علوم اجتماعيّة للقرن الحادي والعشرين، وكتاب جون بيرجير»بيكاسو: نجاحه وإخفاقه». وله مجموعة من المؤلفات الأدبية والفكرية، منها: «كلمات على الرمل» (مجموعة شعرية)، دار عويدات -بيروت، 1975، و»الحب مثلا، وقصائد أخرى» (مجموعة شعرية)، المؤسسة العربية، بيروت 1988، و»أصوات في القصة القصيرة الخليجية» (دراسة أدبية سوسيولوجية)، دار المها، الدوحة، 1989». ومن المؤلفات المشتركة الصادرة بالعربية والإنجليزية عن مركز الدراسات الاستراتيجية – عمان: «التكامل الاقتصادي الاجتماعي في دول المشرق العربي 2002؛ «الشارع العربي في زيارة جديدة: العلاقات بين العرب والغرب»؛ 2005، و»معان: أزمة مفتوحة»، 2003؛ «التنظيم الاجتماعي الاقتصادي للعرب في كندا (بحث)، بالإنجليزية، دار كاناديان سكولارز -تورنتو، 2010. وكان قد نشر إنتاجه الشعري الأول في عدد من المجلات الأدبية العربية مثل «الآداب» و»شعر» في بيروت «و»المعرفة» في دمشق، و»الأفق الجديد» في القدس، و»أفكار» التي أسهم في تأسيسها والإشراف على تحريرها، وعمل مديرا للصحافة الأجنبية في وزارة الإعلام الأردنية، كما أسس وترأس الإذاعة الإنجليزية في قطر، وأسهم في تأسيس مجلة «الدوحة» الثقافية في قطر وتولى تحريرها. كما شارك في إصدار وتحرير مجلة «السجل» في عمان. ومازال، من جملة مهمات أخرى، مستشارا ومحررا ومترجما لتقارير «التنمية الإنسانية العربية»، وتقارير «المعرفة العربية» السنوية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ويحمل فايز الصُيّاغ شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع الاقتصادي والماجستير في علم الاجتماع الصناعي من جامعة تورونتو -كندا، وبكالوريوس في علم الاجتماع ودبلوم الأدبين العربي والإنكليزي من الجامعة الأميركية في بيروت. وهو عضو في: الهيئة الإدارية - جمعية علماء الاجتماع العرب، مجلس الأمناء – المنظمة العربية للترجمة، مؤسس مشارك وعضو مجلس الأمناء– «مؤسسة ترجمان»، رئيس لجنة التقييم، برنامج «ترجم»، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، رابطة الكتاب الأردنيين، اتحاد الأدباء والكتاب العرب، اتحاد المترجمين العرب، الجمعية الدولية لدراسات الفقر المقارنة CROP، الجمعيـة الأردنيـة للبحـث العـلمـي، منظمة القلم العالمية.
الدستور