روعة اللّفظ القرآنيّ في دِقّة التّصوير- كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ
د. نوال بنت سيف البلوشية
سبحان من جعل الإعجاز في أم اللُّغَات - اللّغة العربيّة -، سبحان من جعل خلود أم اللُّغَات بخلود - القرآن الكريم-معجزته الخالدة في الوجود إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.والمتأمل في الألفاظ
القرآنيّة يلاحظ استخدام القرآن للحروف والألفاظ الّتي يستخدمها الإنسان في التَّعْبِير عن المعاني الّتي تدور في خواطرهم، يفهمها الإنسان العامّيّ والإنسان المتعلّم، والإنسان المتعمق علمًا.
وتلك هي حقيقة علميّة من دلائل إعجاز القرآن الكريم في استخدام اللّفظ؛ لتحقيق المعنى الدّقيق في صورة تشبيهيّة مجسدة للمعنى المراد إيصاله، بحيث يعطي لكل عقلٍ حاجته دون تناقض بحقائق الأكوان أو نقصٍ في بيان الصّورة المرادة ترجمتها للإنسان. سواءٌ أكان للسامعِ أو القارئِ أو المفسِّر الَّذِي جعل جُلّ همّه معرفة دقائق علوم القرآن الكريم لغةً وتأويلاً وتفسيرًا .
ولقد سهّل الله تعالى على عباده فهم كثير من المعاني الدّينيّة والسّنن الكونيّة فجسمها لبني البشر من خلال نقلها من الحيّز الذّهنيّ المجرد إلى الحيز المادي المحسوس بواسطة الصّور التّمثيليّة؛ لتقريب الّلاّمحدود إلى المحدود.
لذا تتميّز أمثال القرآن بأنّها تركيزٌ لصورةٍ حيّةٍ تنصهر فيها كلّ الأنسجة والخيوط والأفكار الّتي قام عليها البناء اللّغويّ للسورة كلّها، وهذا بدوره يحتاج إلى أن نحكّم فهمه من حيث هو فكرة بنائيّة مستنبطة، من أمثال القرآن الكريم، ومن حيث هو لغة بيانيّة أسلوب وطريقة بيانيّة جرت في اللّفظ القرآنيّ، لما تحوية تلك النُّصوص المقدّسة من دقة في اللّفظ والأفكار والصّور البيانيّة الّتي تنساب في طياتها القوانين الكونيّة، بعلاقاتٍ إيجابيّة بنّاءه للروح الإنسانيّة السّامية.
وفي هذا المقام لابد أنْ نبيّن إلى ما ذهب إليه علماء اللّغة في التّعامل مع دلالات الكلمات، إذ "أنّ لكلّ دال مدلولاً واحدًا في أصل الوضع"، لكن عبقرية الأداء الجماليّ في كلمات القرآن هي الّتي تزحزح ذلك الوضع، لتعمل على تفريغ الطّاقات الانفعاليّة والشّحنات الدّلاليّة الّتي اكتسبتها للكلمة من استعمالها في مواضع غير مألوفة فتنحرف عن أصل الوضع، وقدّ كان المجاز تحوّلاً عن المواضعة للمألوف، كما تعددت معه الدّلالات تبعًا لتعدد واختلاف تكوينهم، من خلال تلك الدّلالات المتنوعة للفظ القرآنيّ يظهر الجانب البلاغيّ والإعجاز القرآنيّ بين الكلمات في مختلف العلوم . ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في سورة إبراهيم في الآيتين ( ٢٤-٢٥)
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾.
لاحظ لطف الله في مخاطبة بني البشر بإسلوبٍ تنبيهيّ لطيف، يحوي جمال الحوار الدّال على دقة الخطاب الإلهيّ في اختيار اللّفظ؛ لتشكيل جمال الصّورة البيانيّة المراد توضيحها للنفس الإنسانيّة بقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾، بعد لفت الانتباه جاء بأسلوب الاستفهام الثّاني ليّؤكد آثار الكلمة الطّيّبة على نفس بني البشر، وبقائها في روحه.
وحتى نقوى تأويل دلالات بعض الألفاظ من الآيتين على وجه المنطق الصّحيح؛ كان من الضّروريّ أن نستند على ما جاء به أهل التّفسير أولاً في شأن الآيتين، فقد أورد ابن كثير في تفسيرها بقوله: "قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " مَثَلًا كَلِمَة طَيِّبَة " شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة" وَهُوَ الْمُؤْمِن " أَصْلُهَا ثَابِت " يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فِي قَلْب الْمُؤْمِن " وَفَرْعهَا فِي السَّمَاء " يَقُول يُرْفَع بِهَا عَمَل الْمُؤْمِن إِلَى السَّمَاء وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَغَيْر وَاحِد إِنَّ ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ عَمَل الْمُؤْمِن وَقَوْله الطَّيِّب وَعَمَله الصَّالِح وَإِنَّ الْمُؤْمِن كَشَجَرَةٍ مِنْ النَّخْل لَا يَزَال يُرْفَع لَهُ عَمَل صَالِح فِي كُلّ حِين وَوَقْت وَصَبَاح وَمَسَاء وَهَكَذَا رَوَاهُ السُّدِّيّ عَنْ مُرَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ هِيَ النَّخْلَة وَشُعْبَة عَنْ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ أَنَس هِيَ النَّخْلَة...
وَقَالَ مَالِك وَعَبْد الْعَزِيز عَنْ عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ " إِنَّ مِنْ الشَّجَر شَجَرَة لَا يُطْرَح وَرَقُهَا مِثْلُ الْمُؤْمِنِ " قَالَ فَوَقَعَ النَّاس فِي شَجَرِ الْوَادِي وَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّهَا النَّخْلَة فَاسْتَحْيَيْت حَتَّى قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَهِيَ النَّخْلَة " أَخْرَجَاهُ أَيْضًا وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا أَبَان يَعْنِي اِبْن زَيْد الْعَطَّار حَدَّثَنَا قَتَادَة أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُول اللَّه ذَهَبَ أَهْل الدُّثُور بِالْأُجُورِ فَقَالَ " أَرَأَيْت لَوْ عَمَدَ إِلَى مَتَاع الدُّنْيَا فَرَكَّبَ بَعْضه عَلَى بَعْض أَكَانَ يَبْلُغ السَّمَاء ؟ أَفَلَا أُخْبِرُك بِعَمَلٍ أَصْلُهُ فِي الْأَرْض وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاء ؟ قَالَ مَا هُوَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ " تَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر وَسُبْحَان اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ عَشْر مَرَّات فِي دُبُر كُلّ صَلَاة فَذَاكَ أَصْلُهُ فِي الْأَرْض وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاء" وَعَنْ اِبْن عَبَّاس كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة قَالَ هِيَ شَجَرَة فِي الْجَنَّة.
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَقَوْله " تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ "قِيلَ غُدْوَةً وَعَشِيًّا وَقِيلَ كُلَّ شَهْرٍ وَقِيلَ كُلَّ شَهْرَيْنِ وَقِيلَ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ كُلّ سَبْعَة أَشْهُرٍ وَقِيلَ كُلّ سَنَة وَالظَّاهِر مِنْ السِّيَاق أَنَّ الْمُؤْمِن مَثَله كَمَثَلِ شَجَرَة لَا يَزَالُ يُوجَد مِنْهَا ثَمَر فِي كُلّ وَقْت
مِنْ صَيْف أَوْ شِتَاء أَوْ لَيْل أَوْ نَهَار كَذَلِكَ الْمُؤْمِن لَا يَزَال يُرْفَعُ لَهُ عَمَل صَالِح آنَاء اللَّيْل وَأَطْرَاف النَّهَار فِي كُلّ وَقْت وَحِين " بِإِذْنِ رَبّهَا "أَيْ كَامِلًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا " وَيَضْرِب اللَّه الْأَمْثَال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .بعد التّفسير الَّذِي أورده ابن كثير والرّجوع إلى بعض المعاجم اللّغويّة مثل معجم الوسيط، سيقتصر حديثنا في تأويل أسباب استخدام القرآن كلمة (طَيِّبَة) ولم يستخدم (حَسَنَة) بثوبٍ
يوشحه المعجم المزخرف بالبلاغة، بعد البحث والاستقصاء تبيّن استخدام القرآن الكريم لكلمة (طَيِّبَةٍ) تحوي على معانٍ أعمق من كلمة ( حَسَنَة )، هذا ما أكدته المعاني الّتي وردت في كلمة (طَيِّبَةٍ ) بالمعجم الوسيط سواءٌ أكانت اسمٌ أو مصدرٌ:
.1 طِيبَة ( اسم ):
طِيبَة : مصدر طابَ
.2 طيَبة ( اسم ):
الطِّيَبَةُ من الأَشياء : أَطيبُها وأَفضلُها
.3 مالٌ طِيَبَةٌ : حَلالٌ
.4 طيبة ( اسم ):
مصدر طابَ
.5 صفة من يحبُّ الخير ويفعله
.6 طيبة القلب : اتصافه بالشَّفقة والحب وخُلُوُّه من الحِقد ،
.7 طيبة النَّفس : الكَرَم ،
.8 عن طيبة خاطر : عن رضًا
.9 طَيِّب ( اسم ):
نَفْسٌ طَيِّبَةٌ : رَاضِيَةٌ
1.0 طَيِّبُ الْخُلُقِ : حَسَنُ الطَّبْعِ
.11 شَرِيفٌ طَيِّبُ العِرْقِ : مِنْ أَصْلٍ شَرِيفٍ ، مِنْ سُلاَلَةٍ نَبِيلَةٍ
. 12تَعْرِفُ البَلْدَةُ مُنَاخاً طَيِّباً فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ : جَوّاً رَائِعاً رِيحٌ طَيِّبَةٌ
.13 يَنْتَظِرُ مِنْهُ كَلِمَةً طَيِّبَةً : كَلِمَةً حَسَنَةً
.14 أَتَمَنَّى لَكَ مَقَاماً طَيِّباً بَيْنَ ظُهْرَانَيْنَا : مَقَاماً رَائِعاً بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ : رَائِعَةٌ ، كَثِيرَةُ الْخَيْرِ ، آمِنَةٌ
.15 الطَّيِّبُ : كلُ ما تستلذُهُ الحواسُّ أَو النفس
.16 الطَّيِّبُ : كلُ ما خلا من الأَذى والخَبَث
.17 الطَّيِّبُ : من تخلَّى عن الرذائل وتحلَّى بالفضائل
.18 فلانٌ طَيِّبُ الإِزارِ ، وطَيِّبُ القلبِ : طاهرُ الباطن
.19 وزَبونٌ طَيِّبٌ : سَهلٌ في معاملته
.20 الطَّيِّبُ من البلادِ ونحوِها : الجيِّدُ التربة
.21 امرأَةً طَيِّبةٌ : حَصَانٌ عفيفة
.22 ونَفْسٌ طييةٌ : راضيةٌ بما قُدِّر لها
.23 وكلمةٌ طيبة : حسنةٌ جيِّدة لا كراهةَ فيها
. 24وبلدةٌ طيبة : كثيرةُ الخير آمنةٌ أَو مأْمونةٌ من الآفات
. 25ومساكنُ طيبة : طاهرة
.26 وتُربةٌ طيبةٌ : جيدة طاهرة تصلح للنبات
.27 وطِعمةٌ طيبة : حلالٌ
.28 وريحٌ طيبة : لَيِّنةٌ
.29 ونكْهة طَيِّبة : ذكيةُ الرائحة لا نَتْنَ فيها
.30 طيِّب الأخلاق : كريم ،
.31 طَيِّبُ الرَّائِحَةِ : عَطِرُ الرَّائِحَةِ
.32 رَائِحَة طَيِّبَة : أَيْ رَائِحَة عَطِرَة
.33 رَجُلٌ طَيِّبُ النَّفْسِ : صَافِي القَلْبِ صَادِقُ النِّيَّةِ ، دَمِثُ الأَخْلاَقِ
.34 طيِّب السّريرة : طيب القلب ، صافي النِّيَّة ،
.35 طيِّب القلب : لا يحقد ، مسامح ،
.36 طيِّب النّفس : كريم ، سَمْح
من خلال تجوالنا في دلالة لفظة طيبة، لاحظنا أن دقة جمال انتقاء اللّفظ بالكلمة لم يقتصر على الجمال الوارد في الصّور التّشبيهيّة التّمثيليّة الّتي تصل إلى أعماق بني البشر في انتقاء الألفاظ فحسب؛ وإنّما في دقة اختيار اللّفظ القرآنيّ لأدوات التّشبيه الّتي ستنقل الصّورة إلى العقل البشريّ؛ كي تكون فهم الصّور البيانيّة المراد إيصالها واضحة، لعقله وروحه، ونقله من الحيّز الذّهنيّ المجرد إلى الحيز الماديّ المحسوس بواسطة الصّورة التّمثيليّة؛ لتقريب الّلّامحدود إلى المحدود.
الخاتمة
نستنتج مما سبق ومن دِقّةِ اختيار الّلفظ القرآنيّ لطائفٍ عظيمة تبعثرها الكلمة المستخدمة في الخطاب، وهي: أن النّفس البشريّة كالزّجاجة علينا أن نحتويها بعنايتنا الفائقة، وبرفقنا الرّقيق، وبقربنا الحاني، والقرآن سراجٌ يُضِيء الأكوان حياةً، وحكمة الله في آياته نورٌ تُشرق به الأكوان، فإذا أشرقتْ النّفوس به - القرآن - فهي حيّة وإذا أظلمتْ فإنّها ميّتة.
المراجع
القرآن الكريم
تفسير ابن كثير، تفسير القرطبيّ، تفسير ابن قيم http://library.islamweb.net/newlibrary
تفسير الصّابونيّ، صفوة التّفاسير http://vb.tafsir.net/tafsir
معجم المعاني الإلكترونيّ http://www.almaany.com/
معجم الوسيط الإلكترونيّhttp://library.islamweb.net/newlibrary
|