الجمال والبيان في عربية القرآن

أ.د. ياسر الملاح

 

لعربية القرآن الكريم سحر خاص وجمال لا نراه في أي عربية أخرى، فقد نجد في كثير من النصوص الشعرية والنثرية جمالا ما، ولكنه ليس كجمال القرآن الذي يلف النص القرآني من أعلى الرأس إلى أخمص القدم - وإن كان القرآن كله رأسا سامقا عاليا، والذي ألجأني إلى هذا التعبير محاولة إيصال الفكرة إلى القارئ الكريم فقط - أما الجمال في غير نصوص القرآن فيكون منثورا موزعا، بل قل مقطعا، وفق دفقات الشعور عند الكاتب المخلوق الذي لا يملك مقدرة الخالق المبدع. وهذا واضح بيّن في قراءتنا قصيدة من قصائد أحد الشعراء، أو نصا نثريا من النصوص البشرية، سنجد، عندئذ، أن الكاتب يعلو في كلامه حينا، وينخفض أحيانا أخرى، بل قد تجد له سقطات لغوية وتعبيرية درج النقاد على جمعها وبيانها وتسجيلها، تحت عنوان مساوئ أو أخطاء، أو غير ذلك من التسميات، كما هو معروف عن المتنبي مثلا، فالمتنبي ملأ الدنيا ضجيجا بشعره وقصة حياته، حتى غدا عند العرب مثل شكسبير عند الإنجليز، فلا تجد عربيا إلا ويعرف شيئا عنه، ويحفظ شيئا من شعره، وما أكثر المعجبين بشعره ! غير أنه نُقِد نقدا مرا ودُوّن هذا النقد في كتب نقدية ذائعة مشهورة حتى قيض الله له ناقدا انبرى للذود عنه وإنصافه، فكتب كتابه المشهور:" الوساطة بين المتنبي وخصومه" الذي ألفه القاضي عبد العزيز الجرجاني، ووضع فيه خلاصة القواعد النقدية التي يجب أن يخضع لها الناقد إذا انبرى لمعركة نقدية أدبية معينة. 

وسنتتبع، في هذه المقالة، معالم هذا الجمال القرآني في آيات الله البينات من فاتحة الكتاب إلى تمامه، إن شاء الله. وسنخصص الكلام، في هذه المقالة الأولى، لسورة الفاتحة التي ترددها ألسنة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مرات لا نقوى على إحصائها، ولكنها مدخرة لكل من يقرأها عند الله في كتاب، ويكفي أن نذكر أن الفرد المسلم يردد قراءتها في اليوم سبع عشرة مرة على الأقل، وأما الحد الأعلى في هذه القراءة فأمر متروك للعبد المؤمن إذا رغب في التطوع والنافلة، كما أنه لا تقوم صلاة بغيرها، لما ورد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الصحيحين:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وأول ما يلفت النظر في منزلة هذه السورة، علاوة على فرض قراءتها في كل صلاة، وفي بداية كل ركعة، أنها فاتحة الكتاب وبدايته، ولعل في تقديمها وبدايتها هذه إشارة إلى أهميتها وجلالها إذ من المعروف أن التقديم وجه من وجوه التفضيل.
وسنرصد في هذه الآيات السبع ثلاثة أبعاد هي: البعد اللغوي والبعد التركيبي والبعد الدلالي. أما البعد اللغوي فيتمثل في هذه الألفاظ المختارة، فمن فصاحة وسلاسة منقطعة النظير إلى سمو وجمال يملأ القلوب ويبهر الأسماع، وحسبك من كلمات خالدات كهذه الكلمات: الرحمن...الرحيم... رب العالمين... ماللك يوم الدين... نعبد... نستعين... الصراط المستقيم ... أنعمت ... المغضوب عليهم... الضالين. من هذه الكلمات التي تتردد بين صفات الله الخالق وبين صفات الإنسان المخلوق، الذي لا حول له ولا قوة إلا بفضل من ربه، الذي لا مناص له من الاستعانة به، تنشعب البشرية كلها إلى شعبتين واضحتين: شعبة الإيمان الصادق، وهم أهل الصراط المستقيم، فهم الناجون الذين يدخلون الجنة، وشعبة الضلال المبين، وهم الكفار الذين ضلوا الطريق، فلم يكسبوا إلا غضب الله الذي سيهوي بهم في نار جهنم وبئس المصير. 
وأما البعد التركيبي فيتمثل في أربع جمل: جملة البسملة، وهي جملة فعلية تبدأ بفعل محذوف مقدر بكلمة أبدأ، أي أن كل بداية لا مناص من أن تكون باسم الله الخالق، ووفق منهجه الذي رسمه، وكلف بالتبليغ به الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وجملة اسمية وهي: الحمد لله رب العالمين، وترتبط بها آيتان جاءتا صفتين لله "الرحمن الرحيم" و"مالك يوم الدين"، وجملة فعلية أخرى هي : "إياك نعبد وإياك نستعين"، وجملة فعلية أخيرة هي:"اهدنا الصراط المستقيم"، والآية الأخيرة مرتبطة بها لأنها صفة للآية السابقة، وبذلك تتم هذه السورة في سبع من المثاني التي تتضمن خلاصة الطريق الذي يُسعد الإنسان أو يُشقيه. والنظم في هذه الآيات لا يمكن الحكم عليه كما يحكم على الشعر أو النثر من كلام البشر، ولكنه نظم قرآني خاص بالقرآن، وقد حقق هذا النظم الإعجاز الذي درسه عدد كبير من النقاد والبلغاء والعلماء، وفي مقدمتهم عبد القاهر الجرجاني، في كتابه المشهور :" دلائل الإعجاز"، ولهذا لم يستطع أحد من البشر الإتيان بمثل هذا القرآن، وإن من انزلق في محاولة كهذه جاء بكلام ساقط لايحمل معنى عميقا، ولا نظما مستقيما، ولا ألفاظا ساطعة منيرة كألفاظ القرآن، فباء بالخزي، وأصبح كلامه مثيرا للتقزز والضحك والاستهزاء. ولهذا تحدى القرآن كل من تسول له نفسه الدخول في هذا المجال، فقال:" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين". البقرة 23 و 24. فمن يستطيعُ الجزم بهذا القول : " ولن تفعلوا"، أي لن تستطيعوا الإتيان بمثل هذا القرآن، غير الله الخالق الذي خلق البشر، وهو يعرف قدراتهم في هذا المجال. إنه جزم مذهل قطعي يشمل زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، والأزمان التي تليه إلى الأبد، لأن " لن" تفيد نفي التأبيد.
وأما البعد الدلالي فيتمثل في جملة البداية التي تحدثنا عنها قبل قليل، أي البسملة، فكأنها تمثل المفتاح الذي ندخل به إلى عالم هذه السورة الكريمة، وإلى أي عالم قرآني أو حياتي في المستقبل، ويتمثل في بنية السورة الكلية التي يمكن تلخيصها في ثلاثة مقاطع على النحو الآتي:
1) الحمد لله رب العالمين/ الرحمن الرحيم / مالك يوم الدين
2) إياك نعبد وإياك نستعين
3) اهدنا الصراط المستقيم/ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.  
وبهذا التقسيم تتألف السورة من أربعة مقاطع متناغمة في البناء والدلالة، بحيث تؤدي وظيفة منقطعة النظير في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية المتتابعة في الأعصار والأدهار، وفيما يختزن فيها من كليات التصور الإسلامي، والعقيدة الإسلامية، والتوجه الإسلامي.
أما المقطع الأول الذي رأينا فيه مفتاحا لما سيأتي من جسم السورة، والمتمثل في البسملة التي لا يصح أي عمل في حياة المرء المسلم من أكل أو شرب أو دخول في مكان أو عمل إلا بالبدء به، كما كانت مفتتحا لكل سورة من سور القرآن، أي أن هذا المقطع ذو دلالة عميقة بعيدة الغور في حياة كل مسلم سنشرحها في ما يأتي من أسطر، إن شاء الله. إن البدء بالأمر يدل على تعظيم المبدوء به، وتقديره حق قدره، وما الذي يحملك على هذا الإقرار الكامل إلا الإيمان العميق بعظمته وسلطانه. والإنسان، لأنه مخلوق، يبقى محتاجا إلى التربية والتعليم، ولذلك يبادر الرب إلى تربية الإنسان المسلم وحضه على الأدب مع ربه الذي خلقه أن يبدأ كل عمل يقوم به باسم الله الذي هو" الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم"(الحديد 3). ولأن الله هو الحق الذي يستمد منه كل موجود وجوده منه، ويبدأ كل مبدوء بدأه منه، فباسمه إذاً يكون كل ابتداء، وباسمه يكون كل اتجاه، وتكون كل حركة وسكنة في هذا الكون المسخر للإنسان خليفة الله على هذه الأرض. وهل يجرؤ عاقل على البدء بغير اسم الله؟ فلو كان هذا لكان مخالفا للحقيقة المطلقة الراسخة، ولكان عمله هراء وتخريفا وعمى عن الحقيقة التي تملأ الوجود كله، وعما فيه من دلائل وبينات على صدقها وصحتها. لهذا كله كان البدء بهذه الآية الكريمة إقرارا بالحق، وخضوعا له، واستسلاما لجبروته، وهو صدق النفس المؤمنة مع حقيقة وجودها المخلوق بما فيه من ضعف وحاجة ماسة إلى لطف الخالق ورحمته.
حتى إذا استقر هذا كله في النفس المؤمنة بهذا التصور المستقيم انطلق اللسان بالحمد لهذا الخالق الذي هو ليس ربا للعرب وحدهم، وليس ربا خاصا بكل فرد من أفراد المجتمع، كما كان يفعل الجاهليون، عندما كان يحرص كل فرد منهم على أن يكون له صنمه الخاص به، أي ربه الذي يعبده على النحو الذي يشاء، فكان في هذا الإيمان بالله، والإقرار بربوبيته، تخليص للعرب مما ارتكسوا فيه من تشويش عقدي لا يستقر للفحص العقلي البسيط، وما هذا التخريف الذي ينزل بمستوى التفكير البشري إلى درجة الغباء المطلق، والانحطاط الفكري، والهبوط العقدي الذي لا يدل على ذرة من التعقل والفهم؟ إنسان يصنع ربه في الصباح من التمر، حتى إذا لسعته سياط الجوع أكل هذا الرب ظهرا أو عصرا أو في أي وقت يشاء؟!؟! وانسجاما مع هذا الفهم العميق والصحيح لحقيقة الألوهية التي أوحت بها البسملة كانت الآية التالية:" الحمد لله رب العالمين". 
فـ "الحمد لله" فيها اعتراف بالله الخالق، والاعتراف، كما يقول أهل القانون، سيد الأدلة والبراهين، وفيها خضوع له، وفيها خروج من الضياع العقدي والتيه الفكري إلى حقيقة تملأ القلب والوجدان، فتنعكس على السلوك لتجعله مستقيما لا التواء فيه ولا عوج، لأنه يمضي وفق قوانين الرب وسنن الرسل المخلـَصين لله، وفيها علم غزير بأمور يجهلها الإنسان المتغطرس الضال، فالله يمثل الربوبية المطلقة التي تشمل العالمين جميعا، وهو، سبحانه وتعالى، المالك والمتصرف، امتلاك إصلاح وتربية، لأن العلاقة بين الله وخلقه لا تنتهي بعد الخلق، كما يذهب إلى هذا بعض فلاسفة اليونان، ولكنها علاقة دائمة تسند هذا العالم وتربيه وتتعهده بالرعاية الرحيمة الحانية المحبة لمصلحة هذا العالم إذا أراد هو ذلك وفق منهج الله.
ولما كان الله، عز وجل، مطلعا على ما عند الناس من أوهام وتصورات وأساطير وفلسفات وانحرافات في التفكير والعقيدة، وقد حاول أبو الحسن الندوي في كتابه :" ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" بسط هذه الانحرافات وتصويرها تصويرا ناجحا حيث بدت البشرية في زمن بعثة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، كما ورج في هذا الكتاب، مخلخلة البنيان، تائهة منحرفة في السلوك، منحطة في الأخلاق والعقائد، كان من رحمته بالبشرية أن أرسل إليها من ينقذها من الأوحال التي كانت تغرق فيها إلى أذنيها. ولعل أخطر ما تمرغت فيه البشرية آنذاك عدم استقرار الضمير البشري على رأي مستنير في أمر هذا الكون، فاتجهت إلى الأصنام حينا، وإلى الاقتتال والغزو حينا آخر، وانحرفت العقيدة انحرافات يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، ولهذا كانت رحمة الله بالإنسان التائه الضال أن أرسل له هذا الرسول، بقرآن يتلى إلى يوم الدين، ليخرجه من الظلمات إلى النور. ومن هنا كان حرص القرآن في مخاطبته للناس على تزويدهم بعقيدة واضحة لا تشوبها شائبة في خلق الكون، وخلق الإنسان، وتوضيح العلاقة بين الرب والإنسان، متجاوزة في ذلك كل ما استقر في النفوس من تيه وضلال وانحراف، لأن هذا هو الطريق الوحيد لاستقرار البشرية ونجاحها في صناعة عالم مستقر خال من الترهات التي ستؤدي بها إلى الهلاك والضياع وسوء المصير. وهذا كله يوضح الإبداع المدهش في صياغة هذه الاية كما يدهشنا الإبداع ذاته في صناعة هذا الكون البديع.
وإنما كان الحمد واجبا على الإنسان، لأن هذا الرب الخالق الجبار كان رحيما بمن خلق رحمة منقطعة النظير، رحمة تستغرق كل المعاني والصفات المرتبطة بها، رحمة توضح أن الصلة بين الرب وخلقه دائمة لطيفة، وكل ما يطلبه هذا الرب من خلقه، وبخاصة من المكلفين من بني آدم، بعد أن قدم لهم كل ما يتمتعون به من نعم في الأبدان، ونعم في السموات والأرض، يطلب السير في طريق الفضيلة والاستقامة والابتعاد عن الرذائل والدنايا، فهل يرقى أحد من الخلق إلى هذا المستوى من الرحمة واللطف والحنان؟!؟! ولهذا كله، كانت آية "الرحمن الرحيم" آية مستقلة، لبيان جلال الموقف، وسمو التعامل بين الله الخالق وبين خلقه  من بني البشر ومن غيرهم. 
ثم كانت آية : ( مالك يوم الدين ) لتقرر صفة أساسية من صفات الله، وأساسا مهما من الأسس التي يرتكز عليه الإيمان به، فهو المالك يوم القيامة، وهو الملك المهيمن والمسيطر، وقد جاءت هذه الصفة في سورة الفاتحة لتميز معالم الإيمان الجديد بالله، فقد تجد من الناس، قبل بعثة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبعدها، من يؤمن بالله، ولكنه لا يمكنه استيعاب وجود اليوم الآخر( أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) المؤمنون 23. وقد وسع الاعتقاد باليوم الآخر مجال الحياة لبني البشر بعد أن كانت ضيقة محشورة في هذه السنوات التي يحياها المرء كيفما اتفق، فهو بهذا الاعتقاد يتعلق نظره وقلبه بعالم آخر له مواصفات أخرى، فهو يتحقق فيه العدل الذي افتقده في الحياة الدنيا، ويتحقق فيه الخلود الذي كان يتمناه فلا يجده كذلك في الدنيا، وإذا كانت هذه الدنيا فانية من أولها إلى آخرها فإنه، بهذا الاعتقاد، يستعلي على احتياجات الحياة الأرضية فلا يركع لأحد إلا لله، فيضع قدمه على طريق الإنسانية الفاضلة، كما يريدها الله لعباده، ويبتعد عن الصور المنحرفة التي أرادها بنو الإنسان فقصرت في تحقيق سعادته بل زادت في شقائه. إن هذا الاعتقاد ضرورة من ضرورات اطمئنان القلوب البشرية إلى أن ما حصلوا عليه في الأرض ليس منتهى ما يحصلونه في هذا الكون، بل إن لهم نصيبا آخر في حياة أخرى تستحق أن يجاهد لنيلها وأن يضحي لانتصار الحق والخير ليلقى العوض المُرضي مقابل هذه التضحية. وبهذا الاعتقاد يتحقق العدل المطلق بين الناس، لأنه لا يستوي في نهاية الاختبار المؤمنون بالآخرة والكافرون بها، إنهما لا يستويان في سلوك، ولا يستويان في شعور ولا في خُلق، لأنهما صنفان مختلفان من البشر، وهما طبيعتان مختلفتان لا تلتقيان في الأرض في عمل وسلوك، ولا تتساويان في الآخرة في ثواب وجزاء. 
ثم كانت آية :" إياك نعبد وإياك نستعين" لتؤكد على حقيقة أساسية من أسس الاعتقاد النقي الصافي المبرأ من أدران الشرك والوثنية والانحراف العقدي بين بني البشر، وخلاصتها البسيطة أن لا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله. وفي التعبير القرآني جاءت هذه الصورة من صور القصر اللغوي البلاغي الذي يؤكد على نفي أي عبادة إلا لله، وكذلك نفي أي استعانة إلا بالله. وكأن هذه الآية بكلماتها الأربع تلخص حقيقة الدين كلها كما يلخص القرآن حقيقة هذا الكون المذهل، فأي بلاغة هذه! وأي إيجاز هذا! وأي إبداع في التعبير نقف أمامه مطأطئي الرؤوس هيبة وإجلالا!
وإن ما يدهش المرء المتمعن في هذه الآية إعلانها ميلاد التحرر البشري الكامل، التحرر من الأوهام والخرافات التي كبلت طاقات البشر آمادا طويلة من حياة البشرية، فمنعتها من الاعتقاد الصحيح الذي يحفظها من الزيغ والضلال والتيه، والتحرر من عبودية الحكم الظالم، والتحرر من عبودية الأوضاع السائدة التي تمنع المرء من الانطلاق في ملكوت الله الفسيح. فإذا كان ذلك كذلك، أي لاعبودية إلا لله، ولا استعانة إلا بالله، فقد تخلص الضمير البشري من ذل الأنظمة وجبروت الأشخاص وقيود الأوضاع السائدة، كما تخلص من عبودية الأساطير والأوهام والخرافات، وأصبح الطريق ممهدا أمام الإنسان لاستغلال طاقاته الكبرى التي زوده الله بها، لنصرة حكم الله في الأرض، ممهدا بذلك لسيادة قوى الخير والحق والعدل المستضيء بنور الله الأبدي. لم يكن الإنسان، حين خلقه الله، إلا محبا للقوى الإنسانية، ومحبا كذلك للقوى الطبيعية، وبذلك تكون الفرص مهيأة له للإبداع والإنتاج، لأن هذه القوى من إنسانية وطبيعية مسخرة له، لا تصادم بينها وبينه ولا صراع، ويمكن إخضاعها لقدراته الهائلة المستنيرة التي أمده الله بها لمصلحة العالمين.
 وبعد رسوخ كليات الإيمان بالله والإيمان بهيمنته وبثبات سلطانه في الدنيا والآخرة في عقيدة المؤمن، وبعد تعلمه الأدب في حمده والثقة برحمته، يأتي دور التطبيق العملي فيتوجه إلى الله بهذا الدعاء :" اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين". يتوجه المؤمن بهذا الدعاء إلى الخالق الذي خلقه بعد أن لم يكن المخلوق شيئا، يتوجه إليه بفعل الأمر: (اهدنا)، غير أنه لا يأمر، بل يدعو هذا الخالق الذي عرف رحمته وفضله عليه أن ييسر له سبيل الهداية إلى الطريق المستقيم، وأي طريق يقصده؟! إنه الثبات على الإيمان، وترسم هَدْي النبي الكريم، ولماذا يطلب هذا الطلب؟ لأنه أقر، قبل قليل، بأن الرب هو المالك والمهيمن والمسيطر في الدنيا والآخرة، كما أقر بأن لا عبادة إلا لله، وبأن لا استعانة إلا بالله، فإذا طلب الهداية من نفسه هو، أو من غيره من المخلوقات، فإنه يقع في تناقض بغيض مضحك مبك، لهذا كانت نهاية الآية تتكامل وتتناغم مع البداية في صناعة إنسان جديد لم تألفه هذه الحضارات التائهة والسادرة في غيها، لأنها لم تتربَ على هذه المفاهيم الجديدة، ورأت في الإنسان المخلوق الضعيف ربا وإلها، فكانت المغالطة المدمرة التي تهوي بالبشرية إلى حضيض التفكير المتدني.
إنه إنسان جديد يطلب المعرفة والاستقامة ويبحث عنهما ويلح في طلبهما إرضاء لله الذي خلقه، ولكنه لا يقوده الغرور إلى ادعاء الحصول على العلم والمعرفة، إن حصَّلهما، إلى نفسه كما نسب قارون غناه إلى علمه، ( قال إنما أوتيته على علم عندي) القصص 78، بل إنه ينسب نجاحه لهداية الله ورحمته وفضله، لأنه يعرف أنه بغير هذا الفضل من الله سيكون صفرا من الأصفار التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ولأن الهداية إلى الطريق المستقيم هي الضمان للفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، يلح العبد عليها، ويطلبها في اليوم أكثر من سبع عشرة مرة، لأنها يقين وانسجام فطرة الإنسان في توجهه إلى الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وبين حركة الوجود كله في انشداده إلى الخالق رب العالمين.
أرايت إلى هذا الإبداع النصي في هذه السورة المذهلة، وكيف أنها، على قلة عدد آياتها التي هي ،كما وصفها الله، سبع من المثاني، ولم تزد كلماتها على تسع وعشرين كلمة وفق الرسم العثماني، أرايت كيف أنها تحملت هذه المعاني الكبيرة؟!؟! فإذا كنا نذهل لهذا الكون، ونخضع ونذل لمن خلقه، لأن خلقه إعجاز ما بعده إعجاز، فإننا نذهل كذلك لهذا الكون النصي كما يبدو في القرآن الكريم. إنها سورة صغيرة الحجم كبيرة في المعاني والدلالات، بناؤها جميل في الألفاظ والصياغة، وتبدو كالبنيان المرصوص رصا فنيا ولغويا، بذكاء ودقة ومهارة وحكمة لا مثيل لها في عالمي النثر والشعر في هذا الكون. وإن تعجب، فعجب أن نعجب من هذا، لأنه رب العالمين، ولأنه كلامه من الذكر الحكيم. ويعجبني في هذا السياق قول الوليد بن المغيرة وهو يصف القرآن- على الرغم من إصراره على الكفر- عندما اجتمع إليه نفر من قريش فتشاوروا في ما يقولونه للناس عن الكلام الذي أتى به محمد، أي القرآن، فقال:"... والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق (أي كالنخلة التي تثبت أصلها وقوي)، وإن فرعه لجناة ( أي طاب فرعها إذا جني)".( السيرة النبوية لابن هشام، طبعة البابي الحلبي، 1955،1/270). والحق أن القرآن كذلك، كما نطق فم هذا العربي الجاهلي القرشي الذي يتقن الحكم على النصوص العربية الفصيحة، لأنه مشهود له بالذكاء وعمق الفهم، ولأن العربية لغته، ولأنه ابن مكة وابن الفترة التي نزلت فيها الرسالة، فهو يعي تماما ما يقوله، وإن القرآن، كما قال، لفظا ومعنى ونظما.
فهذا النص الخالد الذي جسد لنا روح حضارتنا وجوهرها، بلسان عربي مبين، هو الذي يدفعنا دائما إلى التذكير به وبجماله اللغوي والتركيبي والدلالي، وهو لذلك يدفعنا دائما إلى أن نعتبره الضرع الغاذي لأمتنا، لأنه مصدر وجودها وقوتها وازدهارها في أي وقت من مسيرة الدهر. ولم تحقق أمتنا ما حققته من ازدهار فكري وثقافي وأدبي ولغوي، فبنت صرحا ثقافيا ليس له نظير بين أمم الأرض، والذي ما زالت دور الكتب في مختلف أصقاع العالم تحتفظ بأعداد كبيرة من مخطوطاته، لم تحقق أمتنا هذا إلا باتصالها بهذا القرآن العظيم، وانكباب أبنائها، ومن تعرب من الأمم الأخرى، على دراسته، والتعمق في نصوصه الخالدة، فإذا أردنا أن يعود لأمتنا هذا السؤدد الذي كان فليس أمامنا من سبيل إلا الانكباب على دراسة هذا القرآن لتميز أمتنا عن غيرها من الأمم بهذا الكتاب العظيم. فبهذا فقط، يصلح الحال، ويهدأ البال، وتزدهر اللغة، وتنضج العقول، لتعطي المزيد من العلم والفكر والثقافة. أما التغني بالعروبة والإسلام ونحن نرطن بلغات أجنبية، وأولادنا يتسابقون على الالتحاق بالمدارس الأجنبية، فهذا هراء لا طائل تحته، ولا يَعِد بمستقبل أفضل، ولا بلسان أفصح، بل يعمق الذيلية وفقدان الهوية، وينزع الثقة بالنفس، ويعمق الهزيمة النفسية المدمرة.