الجمال والبيان في عربية القرآن - 2

أ.د. ياسر الملاح


بعد أن تحدثنا عن سورة الفاتحة، وهي البداية الجميلة لكتاب الله مبنى ومعنى تأتي سورة البقرة، وهي من السور التي تمتاز بطولها، فهي أطول سورة في القرآن إذ بلغت آياتها 286 آية، كما أنها أول سورة بعد الفاتحة، ونظرا لهذا الطول سنوزع تناولها على مقاطع وفق المعنى العام الذي يغلب على كل مقطع نتناوله. وبناء على هذا التصور سيكون المقطع الأول في تناولنا لهذه السورة المقطع الذي يمتد في مساحة محدودة قوامها 39 آية. وإن من يتناول نص هذا المقطع بالدراسة والتحليل سيجد عناقا عجيبا فيه بين التاريخ والمجتمع في جغرافية محددة هي مكة والمدينة المنورة. وحركة الحياة التي تجري في هذه البقعة الجغرافية تنبني على صراع ملتهب بين أطراف ثلاثة: المؤمنون وهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه ممن اتبعه في الدعوة إلى الله، والكافرون الذين وقفوا ضد الدعوة فحاولوا إفشالها وحرضوا الناس على الوقوف في وجهها، ووجه من اتبعها، بأساليب كثيرة تتدرج من الإبعاد والصد والدعاية الباطلة والكذب والتشويش إلى الإيذاء والتعذيب والتجويع والسجن والقتل، ويشمل هذا الفريق مشركي مكة وأهل الكتاب من اليهود. والطرف الثالث الذي نشأ في المدينة المنورة، وهم المنافقون الذين هم فعلا مع الكافرين، ويتقنون اللعب على الحبلين، فيظهرون المودة للمؤمنين، ولكنهم في الحقيقة أعداء لهم مستترون.

ولتجلية الجمال والبيان في عربية القرآن من هذا المقطع، سيكون تناولنا له في أبعاد ثلاثة: هي البعد اللغوي والبعد التركيبي والبعد الدلالي. أما البعد اللغوي الذي سنركز فيه على ألفاظ خاصة بالقرآن وبها تشكلت الصورة النهائية للفظة الإسلامية، فمثل: (الم) هذه الآية التي لم يستطع أحد فهم كنهها، فبقيت سرا من أسرار القرآن المعجزة، وكأن الله، سبحانه، أعطى ما أعطى للإنسان، والشكر الجزيل لله على ما أعطى، ولكنه أبقى شيئا واحدا في هذا العطاء بيده وسرا من أسراره حتى يعلم الإنسان درسا عميقا في حدود علمه، فمهما بلغ الإنسان في علمه فإن هناك أمورا في هذا الكون، على بساطتها، يقف عاجزا أمام تفسيرها ومعرفة كنهها، لأن المعطِي هو الخالق، فهو على كل شيء قدير، والمعطَى، أي الإنسان، هو المخلوق الذي لا بد من وجود ضعف ما في تكوينه، وها هو الضعف يتجلى في عجزه عن تفسير نص أمام بصره وتحت سمعه.
ومن هذه الألفاظ : الكتاب، هدى، المتقين، الغيب، المؤمنون، الكافرون، المنافقون، المفلحون إلى بقية هذا المعجم الذي نظمه القرآن في آياته البينات، فتشكل منها القاموس اللفظي الإسلامي معبرا عن ميلاد حضارة جديدة لها شخصيتها الفكرية المتميزة، ولها رسولها المميز، ولها كتابها المميز، ولها لغتها المميزة، ولها لفظها المميز، فغدت بهذا كله نمطا جديدا من الحضارة التي قوامها الخير والإيمان، ووصلها بقافلة الخير التي سبقت هذه الحضارة منذ آدم، عليه السلام، إلى عصر محمد، صلى الله عليه وسلم. 
ونحن لا نريد الخوض في شرح هذه المصطلحات التي أصبحت أمرا معلوما بالضرورة في الحياة العربية والإسلامية بعامة، لأن لهذا الشرح مظانه الخاصة به، من كتب تفسير وقواميس، ويمكن لمن أراد الغوص فيها أن يجدها بيسر. ولكن يكفي التأكيد على أن هذه المصطلحات منها الكثير الذي اتخذ مضامين خاصة بالدعوة الإسلامية الجديدة، مع بقاء المعنى اللغوي الذي كان موجودا قبل مجيء الإسلام، ولذلك كان للإسلام فضل السبق في إبداع هذا المصطلح الذي صكه لموافقة شخصيته الجديدة المعلِنة عن حضارة جديدة هي الحضارة الإسلامية. وكان له فضل السبق كذلك في البعد اللغوي أنه لم ينتظر أن يتفرج حتى يقدم له أحد من الناس آلته المعبرة عن مضامينه، ولكنه أقدم يصوغ ويأخذ من العرب وغير العرب حتى استوت له صورة لغوية معبرة عن الكنه الذي يريد تأصيله بلسان عربي مبين، لا كمن يترك لسانه ليستعير لسانا غريبا للتعبير عما يريد، فيقع في تناقض مريع يضيع به الهُوية والمضمون والشكل، ومما يؤسف له أننا، في هذا الزمان، وقعنا في ما استنكره الإسلام، ونفر منه، على المستوى اللغوي، لأنه لا يدل على شخصية مبدعة أو رائدة في إقامة بنيان حضاري ثابت الأركان. 
ومن هذه الثروة اللفظية الموروثة والمبدعة استطاع القرآن أن يشكل تراكيب بديعة التحم فيها الشكل بالمضمون التحاما معجزا لم يستطع أحد من بني البشر أن يأتي بمثله، وكما وقف البشر عاجزين منذهلين أمام آيات هذا الكون البديع، فلم نعرف أحدا حتى هذه الساعة طلع علينا بصناعة شمس أو نجم أو سماء أو هواء أو ليل أو نهار، فكذلك الأمر في القرآن كانت آياته وقفا على من قالها، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين. والعجيب في هذه التراكيب أنها تتوهج كاللآلئ المنيرة، فبالإضافة إلى ألفاظها المصطفاة بحكمة وإتقان، ففيها تراكيبها التي تسحر من يسمعها، وتؤثر فيه إلى أن تخطف لبه ووجوده، ليصغي ويتفكر في ما يسمعه من كلام ليس ككلام البشر، بل هو نسيج لم يؤلف عن العرب مثله من قبل، كما قال  فصحاء العرب وبلغاؤهم.
وإن أعجب ما في القرآن غير هذين البعدين: البعد اللغوي والبعد التركيبي هو البعد الدلالي. فلنتبصر الآن في البعد الدلالي الذي نلمسه في هذا المقطع الذي ندرسه هنا لنرى ما فيه من إبداع وجمال لا مثيل لهما في كلام البشر. فالقرآن يريد صياغة تجربة خلاصتها الصراع بين فريقين من الناس في بقعة جغرافية محدودة لتكون هذه التجربة عبرة للناس ودستورا يستفيدون من دقائقه لتكون حياتهم أفضل في الدنيا والآخرة. 
ففي بداية المشهد يعرف القارئ بشخوص حلبة هذا الصراع، وفي أثناء التعريف بهؤلاء الشخوص يرسم الهيئة الخاصة بكل شخص من داخله رسما يوضح للقارئ كنهه وحقيقته، لأن المُعول، في الحياة الإنسانية، في نهاية المطاف، على الجوهر لا على الشكل الذي يتغير، ويصل به الأمر إلى الفناء. وشخوص المشهد في هذا المقطع هم ثلاثة: المتقون والكافرون والمنافقون، فأما المتقون في كتاب الله الذي لا ريب فيه :" الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون". انظر إلى هذا التماسك المدهش بين كل جملة ولاحقتها، قطار من المعاني والدلالات تقود كل واحدة إلى ما يتلوها من جمل، فهذا الكتاب الذي لا ريب فيه هو هدى، أي يفيض بالهدى للمتقين، ومن هم هؤلاء؟ إنهم من لديهم قلوب تخشى وتحذر أن تقع في ضلالة، أو أن تتطلع إلى ضلالة، وروي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمَّرْت واجتهدت. قال: فذلك التقوى. فالتقوى انتباه دائم وحذر دائم وخشية مستمرة وحساسية في الضمير والشعور وتوَقٍّ لأشواك طريق الحياة من رغائب وشهوات وأطماع ومطامح ومخاوف وهواجس. أما المتقون، بوصف القرآن، فهم من يؤمن بالغيب، ويقيم الصلاة، وينفق مما رزقه الله، ويؤمن بقافلة الإيمان السابقة من الرسل وتابعيهم، وأخيرا فهو الذي يوقن بالآخرة. 
أما الإيمان بالغيب فهو ذو قيمة أساسية في حياة الفرد بخاصة، وفي حياة البشرية بعامة، لأن البشرية عندما تدرك الذات الإلهية التي تقف وراء هذا الكون تنتقل من مرتبة الحيوان إلى مرتبة الإنسان، وتنتقل من الرؤية الحسية المادية إلى الرؤية النافذة الكاشفة لحقيقة هذا الوجود، وتصان الطاقة الفكرية التي وهبها الله للإنسان من الانشغال فيما لا طائل تحته إلى الانشغال في عمارة الكون... يعمل وينتج... ويتقصى وينظر... وينمي الحياة ويجملها... وتسنده طاقته الروحية المتصلة بخالق الوجود، لأنه خليفة الله في الأرض كما أراده خالقه. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بعقل محدود فهي محاولة غير ناجحة، ومحاولة فيها من العبث ما فيها، لأنه يستخدم عقلا محدودا لم يخلق لهذا الأمر. وعلى الإنسان أن يسلم بأن إدراكه للمطلق غير ممكن، وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل، وأن عليه أن يتلقى العلم في هذا الشأن من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن والغيب والشهادة، وهذا الاحترام لقدرة العقل، وحدود هذه القدرة، لا يتحلى به إلا المؤمنون، وهي الصفة الأولى للمتقين. 
لقد كان إيمان الإنسان بالغيب الفيصل في ارتقائه عن عالم البهائم، غير أن هناك فريقا من الناس  في زماننا هذا يتسمون بالماديين، وهم كذلك في أزمنة سابقة، يريدون أن يعودوا بالإنسانية إلى عالم البهائم الذي لا يُعقل فيه إلا المحسوس، والغريب أنهم يُسمون البهيمية تقدمية، ويصمون الإيمان بالغيب بالرجعية، وإن هذا اللعب بأقدار الناس وعقول الشباب نكسة مدمرة حفظ الله المتقين منها، ووقاهم من هذا العبث الفكري المدمر، فجعل الصفة التي ترقيهم وتبعدهم عن البهيمية (الذين يؤمنون بالغيب)، فطوبى لمن هداه الله إلى هذا المرتقى الآمن.
وأما إقامة الصلاة (ويقيمون الصلاة) فهي صفة أخرى للمتقين الذين يتوجهون في عبادتهم إلى الله وحده، وهذا ارتقاء آخر لهم عن عبادة العباد أو عبادة الأشياء، فالقلب الذي يسجد لله وحده، ويتصل به طوال يومه، يشعر بالقوة، ويستشعر أن لوجوده غاية كبرى غير الغاية الأرضية المحدودة. وهكذا يصبح ضمير المصلي حيا وتقيا نقيا، فتتهيأ شخصيته لتكون ربانية التصور، وربانية المشاعر، وربانية الفعل والسلوك، فهنيئا لمن اهتدى وارتقى بالصلاة المكتوبة في منهج الله المنير. 
(ومما رزقناهم ينفقون) وهذه صفة مزدوجة الدلالة، فالمؤمن يقر بأن المال الذي بين يديه مال الله، وهو وكيل على هذا المال، فالإقرار بأن هذا المال ليس من صنعه، ولا من جهده الذي بذله، بل هو بفضل الله ونعمته عليه، يزرع في النفس الإنسانية الحنان والشفقة على المحتاجين فتطهر من الإمساك والشح البغيضين إلى كل نفس بشرية، وبهذا وحده تصبح الحياة في المجتمع الذي يتربى أبناؤه على هذه المفاهيم حياة بر وتعاون، لا حياة نهب وتطاحن، وعندئذ يأمن الضعيف والقاصر والعاجز ويشعرون بالاطمئنان وهدوء البال.
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) صفة الأمة الوارثة لمنهج الله الذي أنزل على الأنبياء والرسل السابقين، وهي صفة ترفع مقام الأمة الإسلامية، لأن الله ائتمنها على حفظ هذا الإرث، ثم كلفها بقيادة مواكب الإيمان في هذه الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن أجمل المعاني المستخلصة من هذا التكليف الإيمان بوحدة البشرية، فلا تكبر ولا تعصب، فكلكم من آدم وآدم من تراب، ووحدة دينها، فالله واحد أحد، وهو فرد صمد، ودينه واحد أنزله على فترات لحكمة هو يعرفها، وبهذا الفهم البسيط وحده تتخلص النفوس من التعصب، وأخيرا وحدة الرسل والأنبياء، فهذه القافلة الصادقة من الأنبياء والرسل قادت هداية الإنسان إلى الحق، فرفعت مقامه في عبادة الله، وهذه القافلة كثيرة الأفراد، منهم من نعرف، ومنهم من لم يخبرنا الله عنهم (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص) غافر 78، وفي هذا معنى عظيم يتمثل في رعاية الله للبشرية على تطاول الأزمان والأدهار، لا كما يزعم الضالون الذين يذهبون إلى أن الله خلق الكون ثم تركه بعد الخلق، وفيه ثبات معالم الهدى واعتزاز المؤمنين به ليبقى ثابتا كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
(وبالآخرة هم يوقنون) صفة خاتمة، في هذا السياق، مهمة للمتقين، إنها خاتمة تربط الدنيا بالآخرة، والبداية بالنهاية، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء، وهي خاتمة تشعر الإنسان بأنه لم يخلق عبثا، ولن يترك سدى، فكما أنه أغدقت عليه النعم في الدنيا، وتركت له حرية الاختيار، فخضع للامتحان الدقيق، فسيحاسب إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذا كله ليطمئن قلبه إلى عدل الله، ويقبل على العمل الصالح. واليقين بالآخرة هو الفيصل بين من لا يعرف في حياته إلا الدنيا، فيبقى حبيسا بين جدران الحس المغلقة، وبين من يعرف أن حياته ممتدة على نطاق الدنيا والآخرة، فالدنيا للعمل والامتحان والآخرة للراحة والجزاء، والأولى ضيقة محدودة، والثانية واسعة رحبة، (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64.
وسيجد القارئ المتمعن في هذه الصفات، علاوة على أهمية كل صفة من هذه الصفات في الحياة الإنسانية، سياقا متناسقا بينها جميعا، فيؤلف منها وحدة متناغمة متكاملة تستقر في النفس المؤمنة لتنطلق بها الروح لتصل الإيمان بالله، وعندئذ يكون الإيمان بالغيب ثمرة من ثمار الإيمان بالله والطمأنينة إليه. فإذا كان ذلك، كان السخاء بالرزق أمرا هينا اعترافا بعطاء الله الكريم، لأن كل أمر بإزاء معرفة الله يصبح هينا، وكل أمر من الله الحبيب يصبح مطاعا ملبى عن بصيرة، وسيمهد هذا كله إلى اتساع ضمير المرء لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى بين الرسل والأنبياء وبين من آمن بهم جميعا، وأخيرا يكون اليقين بالدار الآخرة بغير تردد أو تلعثم في هذا اليقين. وقد يخطر ببالك أن تقول لي : هذه صورة جميلة للإيمان والمؤمنين، ولكن هل تحققت هذه الصورة في الواقع، فأصبحت حياة معاشة ملموسة على حيز من أحياز الأرض الفسيحة؟ والجواب القاطع أن نعم، لقد تحققت هذه الصورة المثالية الفريدة بين الجماعة المسلمة في مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين المهاجرين والأنصار، فكانت هذه الجماعة يومها مثلا شرودا في الإيمان وصفاته التي بسطناها قبل قليل، كما وردت في الآية بالتمام والكمال، ولهذا كانت هذه الجماعة بداية لمفخرة صناعة الحضارة الإسلامية الجديدة لتخرج الناس في آخر الزمان من الظلمات إلى النور.
لهذا كله كان هذا التقرير البديع من الله الذي يرى ويسمع ويراقب ويتعهد المسيرة التي ندبوا أنفسهم لها طواعية وإيمانا واحتسابا فقال:
( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، فهذه الجماعة يقر لهم ربهم بالهدى منه، ولذلك حققوا واستحقوا الفلاح، ومن استحق الفلاح وجبت له الجنة، وليس بعد هذا الفلاح من فلاح.
أما الصورة الثانية المقابلة لهذه الصورة المشرقة الرابحة الفالحة فهي صورة الكافرين حيث يقول الله:" إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم". فالقرآن فيه تنبيه للغافلين، وفيه إنذار للجاحدين، وفيه بشرى للمؤمنين، غير أن هذه الفئة الكافرة فئة عابثة غير عاقلة يستوي عندها الإنذار وعدم الإنذار، فإذا كانت نوافذ القلوب المؤمنة مفتوحة للتقوى، ولمعرفة الله، وللغيب، ولكل ما يشي بالإيمان والسنن المستقيمة والصلاح والصالحين، فإن قلوب الكافرين مغلقة أمام هذه السنن النظيفة والحبال بينها وبين قلوبهم مقطعة، وختم الله عليها فلا تصل إليها تقوى أو هدى أو حقيقة من حقائق الغيب والوجود. وليس هذا فحسب، بل غشّى على أبصارهم، فلا يصل إليها نور أو هدى، وتساوى لديهم الإنذار وعدمه، فهل بعد هذا الوصف من جهل وصدود وكبر وبُعد عن سبيل الحق وأهله!! فإذا كان ذلك كذلك، فالنهاية الطبيعية المتوقعة لهؤلاء الكافرين المُصرين على القطيعة بينهم وبين نوافذ الحق وسبل الهدى، العذاب العظيم لظلمهم أنفسهم، ( وما ربك بظلام للعبيد) فصلت 46 .
والآن إلى الصورة الثالثة التي هي في منزلة بين المنزلتين، ولكن ليس بالمعنى الإيجابي الذي رمى إليه المعتزلة، ولكن بمعنى نزولهم إلى الدرك الأسفل من النار، وهؤلاء هم المنافقون. وإذا كان القرآن قد تحدث عن المؤمنين في بضع آيات، وعن الكافرين في آيتين، فإنه أطال في الحديث عن المنافقين لخطرهم الديني والسياسي والاجتماعي، ولكونهم نمطا بشريا بغيضا في التصور والخلق والسلوك. يقول تعالى:
" وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ .يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ . فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ .وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ . أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ . وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ .ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ . أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ . ".
هذه صفات نمط من البشر كان موجودا زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو موجود في كل عصر، وعلى رأس صفاتهم أنهم كاذبون، لأنهم يُظهرون للناس، وبخاصة للمؤمنين، غير ما يُبطنون، ولماذا يفعلون هذا الفعل القبيح؟ لأنهم يظنون أنهم أذكياء يستطيعون خداع الله وخداع المؤمنين، وهم في حقيقة الأمر مرضى لا يخدعون إلا أنفسهم، لأن حقيقة كذبهم ونفاقهم معروفة مكشوفة لا تخفى على الله، ولا تخفى على أوليائه من المؤمنين، ولهذا السلوك المشين فإن لهم عذابا أليما. والجميل في فضحهم أن الله يعلن أن من يُعادي أولياءه فإنه يُعادي الله، وهذا تصوير مهم لبث القوة والاطمئنان في نفوس المؤمنين، فإذا كان الله معك يسمع ويدبر ويقاتل، فمن ضدك ومن يهزمك؟ ومن صفات هؤلاء الناس العناد والتبجح وتسويغ أفعالهم الفاسدة، فإذا نبههم أحد الناس على انحرافهم النفسي ردوا عليه بالقول: (إنما نحن مصلحون) مع أنهم رأس الشر والفساد، ولكن الله يفضحهم ويكشف ما في قلوبهم من فساد: ( ألا إنهم هم المفسدون). ومما اتصف به هؤلاء المنافقون التطاول والتعالي على عامة الناس، فإذا قال لهم أحد الناس: آمنوا كما آمنا، قالوا:( أنؤمن كما آمن السفهاء؟) ثم يفضحهم الله بكشف ما نفوسهم من كبر ومغالطة حاولوا بها أن يرتفعوا في عيون من يخاطبون، فيقول: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). ثم تأتي الصفة الخطيرة الأخيرة وهي التنسيق مع اليهود والتآمر على المؤمنين، وهم يظنون أن هذا التآمر قوة وبراعة، وهو في حقيقته جبن وخسة، ثم يرد عليهم القرآن بقوله: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون). والقول الفصل في حقيقتهم وخسرانهم: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)، إنهم مغفلون، لأنهم اشتروا الضلالة، ودفعوا مقابل ذلك الهدى، كالذي يشتري أخس بضاعة ويدفع مقابل ذلك الذهب والمال الوفير، فهل هناك تجارة خاسرة كهذه التجارة التي سلكها هؤلاء المنافقون؟
ثم يأخذ القرآن في ضرب الأمثلة التي توضح أحوال هؤلاء المنافقين، وتفضح أحوالهم البغيضة المضحكة المبكية، لبلههم وغبائهم المقذع، فيقول:
"مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون.أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين. يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير".
فهم لم يفعلوا كالكفار الذين أعرضوا عن هذا الدين جهارا نهارا، ولكنهم عرفوا صحة الدين، ثم أعرضوا عنه، وهل هناك عاقل يوقد نارا لينتفع بها، ثم يطفئها معرضا عن الانتفاع بها، لبله في تركيبته؟ وهل هناك عاقل يعطل أذنيه؟ فلا يستمع إلى الحق، فهم صُم!! ثم يتبع ذلك بتعطيل لسانه، فهم بُكم!! ثم يتبع ذلك بتعطيل عينه، فهم عُمي!! وبناء على أعمالهم القبيحة، فهل يرجعون إلى الحق؟! وهل يؤوبون إلى الهدى ؟! وهل يهتدون إلى النور؟! إن هذا مستحيل بعد أن عطلوا حواسهم التي تقود إلى الصواب. ومثل آخر يبين ما هم فيه من قلق واضطراب وخوف وحيرة وفزع ورعب ... فمن الصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحيرة المفزعة في هذا الجو المفزع إلى الخطوات المُرتجفة التي تتوقف عندما يُخيم الظلام... فهم في تيه واضطراب وقلق وتأرجح بين لقاء المؤمنين وعودتهم لشياطينهم، بين ما يقولونه لحظة، ثم ينكصون عنه فجأة، بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام، إنه مشهد حسي يرمز إلى حالة نفسية مرتبكة مضطربة، وهذا التصوير الفني المُعبر عن المعنى تعبيرا بليغا من أكبر مزايا النظم القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويكاد يكون سمة غالبة عليه، وهو ما لا يستطيعه الشعراء والكتاب والبلغاء من بني البشر، فدل ذلك بوضوح على إعجاز القرآن ونظمه البديع.
ثم يُنادي النص الناس جميعا طالبا منهم أن يختاروا الصورة الكريمة النقية النافعة المفلحة، وهي عبادة الله الذي خلقهم، وخلق مَن قبلهم، لتحقيق التقوى المُنجية لهم من النار والعذاب، فالله الذي خلق يجب أن يتفرد بالعبادة، لأنه تفضل عليكم بنعم جعلت حياتكم يسيرة، فالأرض فراش مريح، والسماء بناء محكم، والماء أنبت ثمرات رزقا لكم. ولو فكرتم لأدركتم أنه فعل هذا كله وحده، فلا شريك يساعد، ولا ند يعارض، أفيليق بكم بعد هذا العلم أن تجعلوا له شريكا في الملك؟! إنه تصرف لا يليق بالإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض. 
ثم ينتقل السياق إلى تحدي المتشككين في رسالة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بتجربة واقعية بغير لف أو دوران، وبعد أن تحداهم بالحروف المقطعة في بداية السورة، فكأنه يقول لهم: صغت القرآن من حروفكم هذه التي تعرفونها، فليصُغ أي منكم قرآنا مثله!؟ ولأنهم فهموا تحدي القرآن الأول ولم يَرْعووا عن التشكيك، كما أنهم لم يؤمنوا، قالها لهم صراحة هذه المرة: فأتوا بسورة من مثله!! وقد ظل هذا التحدي قائما في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وما يزال إلى يومنا هذا. ومن أعجب ما جاء به السياق قوله تعالى:" فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار...". فهذا الجزم بعدم إمكانهم الإتيان بمثله (ولن تفعلوا)، وهو ما كان إلى هذا اليوم، معجزة واقعية ملموسة، لأن خصوم القرآن لو كان في طاقتهم الإتيان بمثله لتكذيبه ما تلكؤوا لحظة في ذلك. وكل من له خبرة في الكلام وأساليبه يدرك تماما أن ليس في إمكان البشر الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وكل جدال في هذا الأمر لا يكون إلا عن جهل، أو عن هدف يرمي إلى خلط الحق بالباطل.
ثم يمضي السياق ليقابل مشهد النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين بمشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين... جنات تجري من تحتها الأنهار...ثمار متعددة من الصنف الواحد... أزواج مطهرة... خلود دائم. والعجب في هذه الثمار المتعددة للصنف الواحد، وكأنه يذكر القارئ للقرآن بهذه المزية في الخَلق البشري، فالناس متشابهون في كثير من مكوناتهم المادية غير أن اختلافاتهم النفسية والمزاجية والتفكيرية تتباين تباينا كبيرا، ( كلما رزقوا من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابها).
ثم يمضي السياق إلى ضرب الأمثال التي وجد المشككون فيها، زمن نزول القرآن، فرصة للطعن فيه، وبخاصة عند نزول آية: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)، لأن الله، في زعمهم، لا يستخدم هذه الأمثال للسخرية من خلقه، غير أن هذا هراء، لأن المثل أداة تعبيرية فيها غير قليل من الحكمة، فالله رب الصغير ورب الكبير، وهو خالق كل شيء من البعوضة إلى البعير، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها في البعير، إنها معجزة الخلق والحياة، فلا حجة لما قاله الكفار والمشككون في هذه الأمثال، وضرب الأمثال لا يُضل بل يهدي إلى الحق، (وما يُضل به إلا الفاسقين. الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. أولئك هم الخاسرون). 
ثم يتوجه الله إلى الناس مستنكرا كفرهم بمن وهبهم الحياة، وهو القادر على سلبها منهم:( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم؟! ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون). إنها آية قصيرة تعرض، في ومضة، الحياة البشرية في قبضة الخالق، ثم يتبعها بآية أخرى تجسد قدرة الله في خلق السموات والأرض، ثم ينهيها بهذا التقرير:( وهو بكل شيء عليم)، فالخالق لكل شيء، والمدبر لكل شيء، من الطبيعي أن يكون العليم بكل شيء. ومن الملاحظ تركيز الآيات السابقات على الإيمان والدعوة إلى الالتحاق بركب المؤمنين المتقين.
ثم يمضي النص إلى قصة من القصص في القرآن، وهي هنا ليست قصة نبي من الأنبياء، أو رسالة من الرسالات، ولكنها قصة من قصص الغيب الخاصة بخروج أبينا آدم من الجنة بعد إغوائه وزوجه حواء من إبليس، إنها قصة الإنسانية الأولى. ولذلك يفهم من السياق أن الله خلق الأرض، ثم استخلف فيها آدم، ومن بني آدم استخلف الله بني إسرائيل، وبعد إخفاقهم في حمل هذه الأمانة، أي أمانة الاستخلاف استبدل الله بهم الأمة المسلمة ورسولها العربي محمد بن عبد الله. وهذه القصة عميقة الدلالة في بيان وظيفة الإنسان في الأرض، كما بينها الله الخالق. لقد أرادت مشيئة الله أن يُسَلم للإنسان، الذي زوده الله بقدرات وطاقات نفسية وعقلية، زمام الأمور في هذه الأرض، وتطلق يده فيها، لكشف قواها وطاقاتها وكنوزها، وتسخير هذا كله في المهمة الضخمة التي أوكلها الله إليه. وهكذا تنشأ الوحدة والتناسق بين النواميس التي تحكم الأرض، وبين النواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس، ولتتحقق غاية إطلاق يد الإنسان في الأرض، وهي الإعمار والبناء وفق إرادة الله. 
وسنتجاوز، اختصارا، الحوار الذي دار بين الله وملائكته حول استخلاف آدم في الأرض، على جلاله وعمق دلالاته، واستكبار إبليس وإباءه السجود لهذا المخلوق، مما قاده إلى عصيان الخالق، ووقوع آدم وزوجه في خطيئة قادت إلى إخراجهما من الجنة، ثم توبة الله عليه ليكمل مشوار التكليف في إدارة الأرض، سندع هذا الغيب لله، ثم نحاول تلمس دلالات قصة آدم وإيحاءاتها لعلنا نخرج بفائدة واضحة يستوعبها القارئ الكريم. ولعل أبرز إيحاءات قصة آدم ما يعطيها الإسلام للإنسان ووظيفته في الأرض من قيمة كبرى، وأن مكانة الإنسان في الوجود ونظامه وقيمه مرتبطة بعهد الله الذي قامت على أساسه خلافته. ومن هذه المكانة العليا للإنسان تتضح دلالات كبيرة في التصور والواقع، وأول هذه الدلالات أن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها، فهو أغلى وأكرم وأعز من أي شيء مادي، ولا يجوز أن يُذل أو يُستعبد لقاء توفير شيء مادي، كما لا يجوز أن يُعتدى على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة، ولا يجوز أن تهدر أي قيمة من قيمه مقابل تحقيق كسب مادي أو إنتاج مادي، فالمادة وما يتفرع عنها خلقت من أجله، فكيف يسمح للمادة أن تستغله أو تهين كرامته؟! وإن المرء ليعجب كل العجب من أولئك الذين يعتدون على الناس الآمنين اعتداءات يندى لها جبين الإنسان المتحضر، وهم لا يندى لهم جبين...يسلبون الأرض... ويهدمون البيوت... ويقتلعون الأشجار المباركة كالتين والزيتون... ويقتلون الأطفال ويسجنون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم، وبعد هذا كله يزعمون أنهم متحضرون... متمدنون... ويتلقون الدعم والمساندة ممن يرون أنهم في قمة الإنسانية... كم يأسف المرء لهذه المهزلة التي لا يفهم كنهها إلا القليل من البشر، ولو كان عكس هذا موجودا ما طالت المأساة إلى هذا اليوم !!؟؟ وثاني هذه الدلالات أن الإنسان له الدور الأول في هذه الأرض، أما من يجعلون الإنسان ذليلا تبعا لوسائل الإنتاج فقد ضلوا السبيل في فهم قيمة الإنسان ودوره في الأرض. وثالث هذه الدلالات إعلاء القيم الأدبية والفضائل الخلقية كالإيمان والإخلاص والصلاح، فمنظومة هذه القيم أعلى وأكرم من القيم المادية جميعا، وإذا كان تحقيق القيم المادية من متطلبات خلافة الإنسان في الأرض، فإنه لا يجوز أن تصبح أصلا فتطغى على القيم العليا، وهذه المعادلة المهمة في الحياة الإنسانية توجه القلب الإنساني إلى الطهر والسمو والنظافة في حياته بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بالقيم الروحية، ومن اهتمام مجسد في الإنتاج والسلعة ومطالب المتعة الجسدية والحيوانية. ولا ريب في أن هناك دلالات أخرى كثيرة كإعلاء الإسلام من إرادة الإنسان، لأنها مناط العهد مع الله، ومناط التكليف والجزاء، فهو يملك الارتفاع على الملائكة إذا حفظ عهده مع ربه، فلم يخضع لشهواته، واستعلى على الغواية التي يدبرها له الشيطان كل حين، كما يملك أن يُشقي نفسه إذا غلبت شهوته إرادته، وغلبت الغواية على الهداية. إنها معركة أبدية بين الحق والباطل وميدانها الإنسان نفسه، وهو الكاسب فيها أو الخاسر، ويمكنه أن يكسب هذه المعركة إذا كان يقظا معلنا الحرب على الغفلة.
إن هذا القسم من قصة آدم ثروة من الحقائق والتصورات القويمة، وثروة من الدلالات المغنية للفكر والشعور، وثروة من الأسس لبناء مجتمع يحكمه الخير والخلق والفضيلة. ولهذا كان للقصص القرآني دور مهم في ترسيخ قواعد التصور الإسلامي وبيان القيم التي يقف عليها، وهي قيم متناغمة مع عالم صدر عن الله، ويتجه إلى الله، ومستقره بين يدي الله، وعقد الاستخلاف في هذا المجتمع قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد في الحياة بمنهج الله، والمهم أن يسمع الإنسان من الله، ويطيع ما يأمره به الله، ويرفض رفضا باتا ما يوسوس له الشيطان، وليس هناك موقف آخر ثالث، فإما الله وإما الشيطان، وإما الهدى وإما الضلال، وإما الحق وإما الباطل، وأخيرا إما الفلاح وإما الخسران.
والقرآن بالنسبة لهذه الأمة هو كنزها الاستراتيجي في اللغة والفكر والخلق والنجاح، ولا طريق لها غيره، فإما الله وإما الدمار. والأمر قريب منا، وفي متناول أيدينا، فلماذا النكوص والنكران؟ ولماذا التمرغ في أوحال الضالين والمضلين؟ وأوهام التائهين عن منهج الله؟ أرأيت إلى هذه النصوص الجميلة في ألفاظها والمشرقة في تراكيبها والمنيرة في دلالاتها!؟ فمن من الناس يملك هذا إلا نحن؟! فإذا أردنا إصلاح عربية أولادنا وطلبتنا وموظفينا فليس لنا من مائدة لغوية بصيرة، والله، إلا لغة القرآن، فبه صلحت لغة أجدادنا ولا يمكن للغتنا، في هذا الزمان، أن تصلح إلا به.