|
|
اللغة نشاط عقلي وتركيب لساني
د. فادية المليح حلواني
في جولة أفق واسعة سعة الأفق العربي ذي الفضاءات اللامحدودة بطموحه الثقافي والحضاري جُلْتُ خلال الشهر الماضي بين دراسات وأبحاث ومقالات، كانت في جلها تتركز على اللغة العربية وتعبيرها عن الهوية الثقافية والانتماء للوطن والحضارة ومدى قدرتها على الثبات والحضور أمام النزعات المحلية التي تعتمد العامية تارة والتعصب الاثني للغات قديمة تارة أخرى، أو تماشياً مع توجهات دولية تغطي نفسها بالعولمة تارة أخرى أيضاً.
يقول د.ناصر الدي الأسد، وهو الأستاذ الجامعي ورئيس مجمع اللغة العربية في الأردن والذي كرمه الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في ذكرى تأسيسه الخمسين الذي عقدت احتفاليته مؤخراً في دمشق مع ثلة من كبار الأدباء العرب، يقول: «إن اللغة هي حاضنة قيم الأمة ومثلها وخبراتها وتجاربها ومعارفها ومقوماتها الروحية والمادية».
ونحن نعرف أن اللغة نشاط عقلي وتركيب لساني، والألفاظ اللغوية ترتبط بالإحساس وفق المعاني المقصودة والمبتغاة نفسياً ومادياً، أما التعبير أو ما يسمى بالخطاب والأسلوب فإنه يتألف من الكلام ونظمه وسبكه في سياق الجمل.
وحين نقول: إن اللغة تعبّر عن هوية الأمة، وهي تشكيل لثقافة الأمة، فإن ذلك ما يعبّر عنه واقع اختلاف اللغات مع اختلاف التجمعات البشرية والأمم. كما أنه واقع يعبّر عنه تقارب الشعوب وتوجّهاتها ذات اللغة الواحدة، بالرغم من التباعد الجغرافي.
يضيف د.الأسد فيقول: «إن من دعوا الى إضعاف لغة إحدى الأمم بأي وسيلة من وسائل الإضعاف، إنما يرمون الى إضعاف الأمة نفسها والقضاء عليها».
إن اللغة مثلها مثل الهوية ومثل الأمة متحركة، متطورة بديناميات حيوية دائمة، لها ثوابت جاءت بالنسبة للعربية في المعلقات والكتاب والسنة والعين والقاف والرسالة. ولها أيضاً متغيرات بحكم اختلاف الزمان والمكان والاتصال والتبادل والتعاطي الإيجابي عن طريق التعامل والتبادل والترجمات والطموح الحيوي والثقة بالنفس.
يستشهد د.محمود السيد الأستاذ التربوي والوزير بكلام لأحد المستشرقين حين يقول: «لا يوجد على وجه الأرض من الروعة والعظمة ما للغة العربية، ولكن لا توجد على وجه الأرض أمة تسعى بوعي أو دون وعي إلى تدمير لغتها كالأمة العربية».
أما د.شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة فينادي أبناء الأمة العربية الى النهوض بلغتهم ومداواة ما أصابها من ضعف ومعالجة ما تعاني منه من علل فيوفوها حقها من احترام هي به جديرة ويقوموا على رعايتها بما تستحقه من اهتمام وعناية لمواجهة عواصف العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات.
أما د.محمود المناوي عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وأستاذ الطب في جامعة القاهرة فيقول في مقدمة كتابه الهام عن أزمة التعريب: «كانت اللغة العربية دائماً قادرة على مسايرة التطور الحضاري معبّرة عنه بما لها من خصائص المرونة والطواعية وبما أوتيت من غزارة وسعة، وبما لها من تراث أصيل عميق بعيد الأثر في مراحل التاريخ حيث كانت لسنوات لغة التعليم والتعلم في ظل نهضة علمية زاهرة».
والحديث عن قدرة اللغة العربية على التطور واستيعاب المستجدات وهضمها كما يقول د.محمود حجازي حديث كبير ذو شجون في أدلته وبراهينه وارتقاءاته. وإذا أردنا أن نضرب مثالاً حياً على قدرة اللسان العربي في التعامل مع الألفاظ الأجنبية واستيعابها نذكر كلمة فيلسوف، هذه الكلمة المركبة ذات الأصل الإغريقي والتي تعني (محب الحكمة)، واستخدمها اللسان العربي وكوّن منها كلمات جديدة فصاغ كلمة فلسفة وفعل تفلسف وكلمة متفلسف وهكذا.. كما هضم اللسان العربي ما دخل الحياة العربية بعد انتقال العرب من الجزيرة الى الشام وبلاد الرافدين ومصر من اللغات الآرامية والقبطية وكذا الأمر مع اللغتين الفارسية والتركية.
إن هذه القدرة على المعايشة والاستيعاب والهضم واستعمالها على أنها جزء من اللسان العربي قابلة للتصريف والتثنية والجمع تدل دلالة واضحة على المواكبة والتطور وعلى سعة البنية في تفاعل اللسان العربي الدائم، بما ينسجم مع طبيعة العلاقات الاجتماعية والحضارية والتطور العلمي وتقدمه.
ولعل في استمرار هذا اللسان وقدمه الذي قال عنه ابن عساكر في تاريخه من حديث الرسول ے بأن لغة آدم عليه السلام في الجنة كانت العربية، التي هي أيضاً لسان الله يوم القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: «تعلموا العربية وعلّموها الناس، فإنها لسان الله يوم القيامة».. وبغض النظر عن قدسية هذه اللغة فإن قدمها واستمراريتها وقبولها للتطور مع المحافظة على قواعدها يعطينا الثقة بأن هذه اللغة أو هذا اللسان الذي حبا الله العرب به هو لسان مبين واضح جامع قابل للتعامل الحضاري والتبادل الثقافي والمعرفي.
بعد هذه الجولة التي عشت فيها خلال الأسبوعين المنصرمين ووقفت على الكثير مما كتب وقيل بما فيه ما كتبه الأستاذ د.شريف الشوباشي في إسقاطه لسيبويه صاحب كتاب الكتاب المرجع الأساسي في قواعد العربية ومنهجيتها، وما نشره الأستاذ عبده وازن في تعليقه على الشوباشي في إطلاقه لأحكام خاطئة تحت عنوان: «العربية لغة الحياة.. وإسقاط سيبويه دعوةمجانية» مشرّحاً التهم التي يوجهها الشوباشي الى اللغة العربية. يقول الأستاذ وازن: «أما الشوباشي فيريد اللغة العربية من دون قواعد كي يتمكن التلامذة من استيعابها، وقد فاته تماماً أن ما من لغة في العالم تقوم دون قواعد».
وعلم القواعد مثله مثل أي علم آخر يتطلب جهداً ووعياً.. بل إن علم القواعد أسهل من علم الجبر والكيمياء والفيزياء ،فهو علم يعتمد على المنطق الصحيح.. كما يثير الشوباشي في كتابه قضية الانفصام اللغوي عند العرب من حيث الاستخدام العربي الى لغتين هما: المحكية الدارجة والفصحى، ناسياً أن ثمة مستويين لغويين في كل لسان بين المحكي والمكتوب في كل لغات العالم، وقد أشار الى ذلك سيبويه نفسه. كما ميّز علماء اللغة الفرنسية والانكليزية هذا الاختلاف، مثلهم مثل جلّ علماء اللغة في العالم.
في لقائي مع مستشرق فرنسي هو البروفسور «باربو» أستاذ العربية في جامعة ستراسبورع ركّز على اعتماد اللغة العربية على المنطق وعلى موسيقية الصوت العربي وتناغمية تركيبه وقال: إن هذه الموسيقية الفنية في التركيب اللغوي العربي هي أمر مدهش ومثير للإعجاب، وغير موجود ما يماثلها في هذه الدقة في اللغات الأخرى.
بعد هذا كله أعود فأسترجع ما حرصت عليه سورية في إحياء اللغة العربية ونشر تعليمها واهتمامها في إبراز خصائصها وعلومها المختلفة بعد فترة ذبول وانتشار للأمية التي توسعت في العهد العثماني بسبب الاهتمام بالتركية بديلاً عن العربية في أواخر ذلك العهد. وقد وصلت قمة الحرص على العربية في سورية حين تم تعميم تدريس العربية على جميع الكليات والمعاهد وفق خطة مدروسة شملت جميع السنوات الدراسية باهتمام مباشر من الرئيس الراحل حافظ الأسد... وحين وجهت سورية اهتمامها للتعريب من منطلق أن العربية لغة قادرة على استيعاب جميع العلوم والتي تجلت في تعليم الطب بالعربية منذ تأسيس كلية الطب في الجامعة السورية وتعريب وترجمة جميع الكتب الطبية الأجنبية وجعلها مراجع أساسية لطلبة الطب السوريين من قبل أساتذة رواد أجلاء، والتي قال عنها د.رمضان عبد التواب، الفائز بجائزة آل البصير السعودية العالمية في الدراسات اللغوية: «وما نجاح تدريس الطب بالعربية الفصحى في سورية الشقيقة إلا برهان آخر على قدرة لغتنا الجميلة على استيعاب علوم العصر والتعبير عن مظاهر مستحدثات الحضارة». ومن ثم هذا الالتفاف العربي في تعظيم الجهد السوري والإخلاص السوري للسان العربي، حيث خصّوا سورية باحتضانها لمركز التعريب والترجمة والدراسات العليا في إطار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
وإذا كان البعض قد حاول، في فترات انتقالية ولأهداف تعليمية، التخفيف من اهتمام سورية بتدريس العربية ضمن توضيحات لم تكن كافية أو مقبولة فإن سرعة العودة عن الخطأ كانت مؤشراً واضحاً وكبيراً في صحة النهج التعليمي السوري المستند الى ما بينته آنفاً من مبادئ وأهداف قومية سامية.
وفي هذا المجال يمكنني أن أطرح أفكاراً تتعلق بتدريس العربية في الجامعات السورية من منطلق ضرورة التفكير الدائم في التغيير بقصد التطوير، وعدم الجمود عند أشكال محددة. فتطوير أشكال التدريس وانفتاح المجالات التخصصية ضمن كل حقل علمي يدعو باستمرار الى التفكير في التغيير بقصد الارتقاء والتطوير كما ذكرت. الأمر الذي يدعو الى البحث في أشكال جديدة وطرق وقوالب متغيرة. ومن هنا ونظراً للمكانة السورية في ميدان دراسة علوم اللغة العربية وللخبرة التي حملها أساتذة أقسام اللغة العربية في الجامعة السورية واستفادةً من تجارب الأشقاء والأصدقاء فإنني أجد في إنشاء كلية لعلوم اللغة العربية في تحويل القسم الحالي أمر ينسجم مع ما قدمت فتتحول التخصصات اللغوية الى أقسام ويتم افتتاح أقسام جديدة مثل تعليم العربية لغير الناطقين بها بعد أن حُجّمت مهمة معهد اللغات في دورات تدريبية وتأهيلية فقط ولم يتحول الى كلية للغات أو للألسن، كما في بعض الجامعات العربية الأخرى.
وكلية اللغة العربية وعلومها المأمولة في جامعة دمشق تنسجم مع وجود أول مجمع لغوي عربي في الوطن العربي، هو مجمع اللغة العربية الذي يمكن أن تستفيد الكلية من أعماله ووجوده بالشكل الكبير، كما ينسجم مع الدراسات المقارنة في مجالات اللغة والآداب وكذا اللسانيات والصوت اللغوي (فونيمات اللغة) إضافة الى فن الأداء.
إن إحداث مثل هذه الكلية سيعيد ألق الاهتمام السوري بالعربية وفق معطيات علمية وتعليمية حديثة تخرجها من دوائر الأقسام والتشتت بين الكلية والمعهد وتؤكد المكانة السورية كما توجه الطلبة العرب نحو سورية للدراسة فيها والنهل من أجوائها الثقافية والفكرية مع عدم نسيان برمجة التعليم الافتراضي ضمن تعاون، سبق أن أكدت عليه في مقال سابق، بين الجامعة الافتراضية السورية وجامعة دمشق أولاً وباقي الجامعات الحكومية والخاصة ثانياً.
ولا أجد خاتمة أفضل مما قاله الشاعر الكبير حافظ ابراهيم في وصفه للغة العربية:
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
تشرين
|
|
|
|
|