سناء عبدالعزيز
لفتتني ألكسندرا ماريتش حين التقيتها في السودان، بابتسامتها المشرقة من دون تكلف، وقدرتها على مجاراة الحوار أياً كانت لكنة من يحاورها. تساورك الرغبة بمجرد أن تتبادل معها الحوار، في أن تقوم من فورك وتنجز أعمالك المؤجلة وتستثمر طاقتك المهدرة وقد امتلأتَ باليقين بأن لديك الكثير لم يكن بوسعك الإمساك به.
سألت المستشرقة والمترجمة والمحاضرة النمسوية الكسندرا ماريتش عن طبيعة عملها، ومدى أهميته بالنسبة إليها، وعن عشقها للعربية، حتى أني لاحظت وأنا أتحدث معها أنها تلتقط تعبيراتي وتكررها في الرد، لتزيد من مخزونها اللغوي، فردَّت: أعمل محاضرة في جامعة كارل فرانتس التي تعتبر إحدى الجامعات الأربع لمدينة جراتس في جنوب شرقي النمسا وهي ثاني أكبر مدينة في بلادنا، وتشتهر بأنها مدينة حقوق الإنسان، وتحمل أيضاً لقب مدينة التصميم المعاصر City of Design. تحديداً أعمل في معهد علوم الترجمة النظرية والتطبيقية في قسم اللغة العربية، ووقع خيارنا في هذا الفصل أنا وطلابي على قضايا الاندماج في المجتمع النمسوي والأوروبي. أقوم أيضاً بتدريب طلاب وطالبات السنة الأولى في برنامج الماجستير على الترجمة التحريرية والشفاهية، فهناك نقص شديد في مجال الترجمة بين اللغتين العربية والألمانية نظراً لازدياد أعداد المهاجرين واللاجئين العرب في النمسا منذ عام 2014 أضعافاً مضاعفة.
كنتُ بالأساس أرغب في دراسة اللغة العربية وليس بالضرورة الترجمة، وجاء خياري للترجمة مصادفة لأنها الإمكانية الوحيدة لدراسة اللغة العربية في مدينتي جراتس، ولو سألني الطلاب عن اقتراحي أي لغة أنصحهم بتعلمها سأنصح بدراسة اللغات الشرقية خصوصاً العربية والفارسية.
> شاركت في ملتقى جائزة الطيب صالح بورقة بحثية لافتة. حدثينا عن تأثير تلك التجربة عليك والمسافة بين تصورك عن شعب السودان وما وجدته على أرض الواقع؟
- لم أكن قد سمعت عن هذه الجائزة قبل أن يحدثني عنها الأديب طارق الطيب، ذو الأصول السودانية، وهو زميلي في جامعة جراتس. الدعوة لحضور الملتقى كانت موجهة إلى زميلنا شتيفان بروخاتسكا، الأستاذ في قسم اللغات الشرقية بجامعة فيينا، وبما أنه اعتذر عن عدم تلبيتها لانشغاله في تلك الفترة، اقترح الطيب أن أذهب بدلاً منه. قدمتُ ورقة بعنوان «تداخل السرد العربي الأفريقي مع السرد النمسوي: طارق الطيب نموذجاً». حاولت فيها أن أقدم نبذة أولاً عن تطور الأدب النمسوي عبر العصور، وصولاً إلى الوقت الراهن الذي تأثر بوجود أدباء ذوي أصول غير نمسوية. ويمثل صوت طارق الطيب، نموذجاً بارعاً للإطلالة على حياة العربي الإفريقي في النمسا فهو يبحث في منطقة التوافق بين الثقافتين المتناقضتين أحياناً، ويأخذ من كل ثقافة أفضل ما فيها ويساهم بذلك في التسامح بين الثقافات والأديان وهو الشعار الذي دشنت به الدورة السابعة لجائزة الطيب صالح.
كانت المحافل المتعلقة بجائزة الطيب صالح تفوق خيالي. لم أكن أتوقع مثل هذا الإقبال على العروض المختلفة، وأعجبت كثيراً باهتمام الجمهور، وهو اهتمام جاء من صفاء قلوبهم ونزاهة عقولهم ولم يكن اهتماماً تقليدياً أبداً، فأحسست بأن السودانيين يسعون إلى أن يكون لهم دور في الحوار العربي والدولي، وصوتهم لا يجوز أن يستهان به خصوصاً وهو صوت قوي النبرة بل وناعم الأطوار، صوت شعب مثقف وطيب ومضياف لا يعرف عنه حتى العرب كما ينبغي له، وذلك ليس بسبب تقصير من قبلهم وإنما بسبب تجاهل مجهودهم الكبير.
> العمل في مجال اللجوء والتعامل مع المهاجرين العرب، يشغل حيزاً كبيراً من وقتك كما عرفت منك، فما هي طبيعة عملك مع اللاجئين؟
- عندما يأتي اللاجئ إلى النمسا ينبغي أن يُدلي بمعلومات مختلفة عن نفسه وعن الأسباب التي جعلته يغادر بلده الأصلي، وبحسب معايير اتفاقية جنيف للاجئين يكون من حقه أن نوفر له مترجماً، خلال إجراء أهم مراحل عملية فحص طلب اللجوء ليفهم الأسئلة المطروحة عليه ويستطيع الإجابة عليها بطريقة طبيعية وغير منقوصة. عملي يعتبر همزة الوصل بين المحقق واللاجئ، بالإضافة إلى ترجمة وثائق الأخير للتأكد من هويته. أعمل أيضاً في مجال تسهيل الاندماج وتقديم المساعدات الاجتماعية ومكافحة العنف المنزلي، إذ توجد في النمسا وظائف اجتماعية مختلفة ونحن– المترجمين- نرافق هؤلاء الموظفين الحكوميين أو غير الحكوميين في أداء نشاطهم اليومي كي نسهل عليهم التواصل مع العرب الذين وصلوا إلى النمسا منذ فترة وجيزة ولا يجيدون التحدث بالألمانية. ولكن يوجد هناك أيضاً مَن يعيش منذ فترة طويلة ولم يتعلم الألمانية بعد، وهو ما يثير استياء بعض النمسويين الذين يعتبرون الاندماج بمثابة تبني الثقافة الجديدة بالكامل ومن أهم عناصرها اللغة.
بغض النظر عن نشاطاتي الميدانية أستفيد من خبرتي التطبيقية للبحث العلمي في مجال الترجمة الاجتماعية وتوجد لديَّ بعض المؤلفات في هذا المجال، وسأقوم أيضاً بالمشاركة في التدريس في إطار حلقات دراسية خاصة بالمترجمين غير المحترفين الذين يريدون أن يكتسبوا بعض المعارف في مجال حفظ المعلومات والأداء المحترف وما شابه، وذلك في السويد (التي تُعتبر من البلدان الرائدة في تطوير نوع الترجمة الشفاهية هذه) وكذلك في النمسا.
ومن يعلم؟ قد تكون هناك أيضاً دورات من هذا النوع في الشرق الأوسط في المستقبل. وبالمناسبة هناك نشاط علمي عربي في هذا المجال خصوصاً تحت رعاية مصطفى طيبي، الأسترالي الذي صدر له كتاب شيق في هذا الموضوع عام 2016 باللغة الإنكليزية.
> نود أن نتعرف منكِ إلى أهم العوائق التي يصادفها اللاجئ في النمسا؟
- حاولتُ ألا أتأثر بما أسمعه من القصص الحزينة كي أحافظ على درجة عالية من الحرفية، فلا ينبغي لي أن أتوقف عن الترجمة حتى لو بكى وتنهد كل من حولي. ولكني أصبحت أتأثر كثيراً بعد البدء في رعاية طفل سوري وعائلة سورية شخصياً، ولاحظت أن المعاناة لا تتوقف عند الوصول إلى النمسا، فهناك الكثير من العوائق البيروقراطية والقانونية للاجئ حتى ولو تم منحه حق اللجوء.
> لا أتصور أن الجهود المبذولة لحل مشاكل العالم من قبل المنظمات والجمعيات الرسمية وغير الرسمية تؤتي بثمارها المرجوة، كيف ترين رأيي هذا، بمعنى هل تعتقدين بأن ما تقدمونه في إطار تلك الأزمة يسهم بالفعل في تقديم حلول حقيقية؟ أم ترينه مجرد خطوة على الطريق قد تؤدي يوماً إلى حل جذري؟
- هناك الكثير من الحالات المختلفة ووفق تقديري تحتاج كل حالة إلى حل خاص. لن تستطيع النمسا أو حتى أوروبا كلها إيجاد حل لمشكلات العالم كله، خصوصاً أن النمسا بلد صغير ومحايد وليست لدينا أي طموحات في الموضوع سوى أن نؤمّن التعايش السلمي على أراضينا، وأن يتم تطبيق قوانيننا الراعية لحقوق الإنسان ولن يكون هناك أي تدخل في صراعات العالم أبداً لأن حيادنا السياسي مشروط في الدستور النمسوي. ولكن حتى التعايش السلمي لا يكون تأمينه سهلاً في كل مرة، وهو يتطلب مجهوداً من الطرفين النمسوي والعربي (أو الأجنبي الآخر). البنية التحتية اللازمة للتعايش السلمي متوفرة في بلدنا بلا شك بفضل امتيازات الرعاية الصحية والاجتماعية في النمسا وضبط دولة القانون فيها إلى حد ما، وقد يساعد المترجم في التواصل بين الطرفين، بوسعه أن يوضح بعض الأمور، ولكنه في النهاية ينبغي أن يحافظ دائماً على حياده ولا يكون مع هذا الطرف أو ذاك. يُساء فهم دور المترجم أحياناً حتى من قبل المترجمين أنفسهم، أما بالنسبة إلى الطرف النمسوي فقد لا يثق في المترجم، وأحياناً العكس، فيثق فيه على رغم ضعف ترجمته، ويعتقد الطرف العربي أن المترجم يمكنه أن يدبر له كل الحلول وأن يكون محامياً له... وكل هذا لا يسهل عمل المترجم طبعاً. رغم ذلك، فأنا واثقة أننا سننجح في تأمين التعايش السلمي على المدى البعيد، وهذا ما تم إثباته خلال موجات اللجوء السابقة خصوصاً مَن جاء من يوغوسلافيا السابقة قبل 20 عاماً، فكثيرون منهم يعيشون حياة النمسوي ذاتها اليوم. أنا متأكدة من أن جزءاً كبيراً من اللاجئين العرب في النمسا سيتعلمون المزيد عن ثقافتنا مع مرور الوقت وسيبدون الاستعداد للاندماج والعمل، لأن هذا هو هدف غالبيتهم أصلاً.
> ما هو أكثر بلد يعاني من التهجير واللجوء بحكم عملك؟
- وفق أحدث التقارير الصادرة عن هيئة اللجوء النمسوية تمثل فئة اللاجئين الأفغان أكبر فئة من ضمن اللاجئين الوافدين إلى النمسا (حوالى 28 في المئة) يليهم السوريون (21 في المئة) والعراقيون (7 في المئة) والباكستانيون (6 في المئة). يغادر الكثير من الأفغان بلادهم بسبب الوضع الاقتصادي أو الأمني الرديء، ولكن لا يتم منح حق اللجوء للكثير منهم. أما بالنسبة إلى السوريين فهم يغادرون بلادهم بسبب الحرب ولهذا السبب تم منح حق اللجوء لنسبة عالية جداً منهم (89 في المئة)، الأمر الذي يدعو الكثير من العراقيين الفارين إلى النمسا إلى الاستغراب لأن نسبة الاعتراف بمواطنيهم كلاجئين لا تتعدّى 29 في المئة.
* ما هي الأصوات الممثلة للأدب العربي وتعرفونها في النمسا؟
- هناك الكثير من الترجمات التي ظهرت بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، قبله كانت هناك ترجمات قليلة جداً ونادرة. الآن توجد ترجمات تقريباً لكل دول العالم العربي ومن الكتاب المعاصرين باللغة الألمانية. فهناك إدوار الخرَّاط ونوال السعداوي وإبراهيم الكوني وإبراهيم عبدالمجيد ويوسف إدريس وغسان كنفاني وإميل حبيبي والطيب صالح وطارق الطيب وإيمان حميدان وعباس بيضون ومحمد شكري وحسين الموزاني ويوسف المحيميد وعباس خضر. قائمة طويلة جداً من الترجمات. هذا غير الأنطولوجيات الكثيرة التي تحتوي على ترجمات من الكثير من كتاب العربية المقيمين في بلدانهم أو حول العالم. وأنا شخصياً من هواة الأدب العلمي وبحكم عملي أقرأ الكثير من النصوص الصحافية المكتوبة باللغة العربية، وأقرأ كتب ضيوفنا العرب في مدينة جراتس في شكل منتظم. حالياً أقرأ كتاب الكاتب المغربي ماحي بينبين، الذي ألَّفه باللغة الفرنسية. سيشرّفنا هذا الكاتب والرسام المغربي بزيارة قريباً وسأتشرف بتقديمه إلى الجمهور في جلسة أدبية.
* أثناء زيارتك للخرطوم كنتِ ترتدين الملابس الشرقية وتفاجأت بأننا نحن الشرقيات نرتدي ملابس غربية، كيف ترين بحكم اختلاطك بالنموذجين الفروق الجوهرية بينهما؟
- هذا سؤال مهم جداً ولن يكفي حوار واحد لتناول هذا الموضوع. هو موضوع يتكرر طرحه في الإعلام الغربي، أحياناً بصيغ متشابهة. ولكن بحكم عملي وبحكم تجربتي الطويلة الأمد مع السيدات العربيات أرى أن هناك فروقاً كبيرة جداً، ولا يمكن أن يتم تقييم وضع المرأة العربية من ناحية واحدة فقط، لأن كل سيدة عربية تختلف عن الأخرى، وهناك فروق ثقافية ودينية واجتماعية كثيرة داخل الوطن العربي (ناهيك عن السيدات العربيات في الخارج) لا يمكن تجميعها أبداً في بوتقة واحدة. ما هي العلاقة بين السيدة البدوية من البادية وبين الأستاذة الجامعية في بيروت؟ تجمعهما اللغة العربية فقط (وحتى ذلك ليس شرطاً) وربما عزة النفس والكرم. ينبغي علينا نحن الأوروبيين أن نتوقف عن التصور النموذجي للمرأة العربية. ولكن، كي نكون عادلين، ينبغي أيضاً التوقف عن أي تصور نموذجي آخر في الوقت ذاته من دون إهمال قدرة انتقاد الذات، لأنها الشرط الأساسي للتقدم. «الفيد باك» كما أطلقتِها على روايتِك. وتنبغي الإشارة إلى حالات العنف الأسري وعدم تبريرها بالعادات والتقاليد أو ما شابَه، إن كان ذلك في الوطن العربي أو في النمسا أو في أي مكان في العالم.
الحياة