للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

البحث عن بيت شِعر

أ.د. محمد عبد الله سليمان
 
يحلق بنا شيخ شعراء السودان عبد الله الشيخ البشير في رحلة إسرائية معراجية في قصيدته (البحث عن بيت شعر) شأنه شأن الأدباء والشعراء العالميين الذين حلقوا من قبله في البحث عن قضايا فلسفية وأدبية، ومنهم الشاعر دانتي أبو الأدب الإيطالي في ملحمته (الكوميديا الإلهية)، والشاعر الفيلسوف العالمي محمد إقبال في "جاويد نامة" (رسالة الخلود).
فعبد الله الشيخ البشير استعدادا لرحلته المعراجية في محاولة (البحث عن بيت شعر) يستن شفرتي سيفه على حدِّ الضوء ، ويودع القرى الأولى، ويمتطى فرسه الكميت محلقا في أجواء بعيدة. 
علي حدِّ السنا أمهيتُ سيفي      فرفّتْ شفرتاه كما ابتغيتُ
وودعتُ القرى الأولى وشيكاً      وما استصحبتُ إلا ما انتويتُ
فهاأنذا يُعادي بي مِراحاً           بشطِّ الغيبِ مِرِّيحٌ كُمُيتُ
فطاف به فرسه على وادي عبقر، وكانت العرب تعتقد أن من يزور وادي عبقر يعلو كعبه في الشعر وتقول الروايات أن من أمسى فيه ليلة جاءه شاعر أو شاعرة تلقنه الشعر، وشيخ شعراء السودان مر على وادي عبقر فهرت كلام الجن تبتغي إخافته ولكنه لم يلق لها بالا فجاوز بفرسه إلى أن صاهل نجم الشعرى:
فطاف بعبقرٍ ليلاً فهرَّتْ           كلابُ الجنِّ: عِرفيط وشيتُ
وطار فصاهلَ الشِعرَى فماجتْ     عرائشُ من بشائرها جنيتُ
ولكن الشاعر حار في تلك المجاهيل وكاد يضل الطريق لولا أن لاح له نجم بارق سار على هداه وجاز الآفاق طربا، ومشى على فقاعات زبد موشى، وهو في تلك الغمرة وفي ذلك المعراج ناداه صوت من المجهول فقال له: (بدأت) حين كان الشاعر يحسب أنه ضل طريق الشعر ولم يعد قادرا على قرضه فهو يطير في ذلك الطريق المموه وتلك المجاهيل يسمع تلك الهماهم، ويرى تلك اللجة الزرقاء نارا من الياقوت وهو بين الوعي واللاوعي فظهر له ذلك البحر الزاخر المطَّرِب الأمواج فانطلق وقد ودع ظنونه فتحولت تلك اللجة الزرقاء إلى ماء يفيض عليه فيشرب حتى يرتوي وبعدها ينهمر عليه الشعر انهمارا وكأنه قد وصل إلى الموحى الشعري الذي يترقبه :
وناداني من المجهول صوتٌ:    بدأتَ وكنتُ أحسبُني انتهيتُ       
وصيَّرني الحنينُ إليه معنىً       بلا مبنىً فغبتُ وما اختفيتُ
ومدّ الرَّغو قُدامي طريقاً           مموهةً ولكني مضيتُ
وصرَّح منهُ عن بحرٍ زخورٍ         فلما راقني عجباً هويتُ
فودّعتُ الظنونَ ورافقتني         مآذنُ أثبتت ما قد نفيتُ
كأن خوات أمّ الرعدِ فوقي       هماهِمُ ما استمعتُ وما ارتأيتُ
رأيتُ اللجَّةَ الزرقاءَ ناراً           من الياقوتِ فيما قد رأيتُ
فجاشت ثم فاضت ثم ساحت     جداولَ مايحتني فارتويتُ
لغة القصيدة لغة ثرة تنم عن بيان ساحر آسر، وأسلوب نادر زاخر بالمعاني، وعمق السرد وحلاوة الحكي والقدرة على التنقل في الفضاء الشعري في سلاسة ورقة دون عناء مما يؤكد على تمكن الشاعر من أدواته الشعرية فيصوغ أفكاره وعواطفه في حس أدبي شفيف، وتحليق مع الأبراج والنجوم وملامسة جناح جبرائيل ليبلغ سدرة المنتهى الشِعرِي.
لقد استعمل الشاعر في لغة القصيدة وعباراتها ما يناسب الغرض الشعري وهو العروج في البحث عن بيت شعر فاستعمل لفظ الوداع وهو يستعد للاقلاع " وودعت القرى الأولى "والتطواف "فطاف بعبقر" والطيران "وطار فصاهل الشعرى" والمعارج "ونصت لي معارج من دخان"والجناح" فلو كانت جناح من عقيق" الرقي " له لمع البوارق لارتقيت" الرعد "كأن خوات أم الرعد فوقي"الآفاق " ولما زاحم الآفاق مني". 
كما وظف الشاعر في قصيدته الاسطورة توظيفا واعيا يدل على إدراكه التام بأهميتها الفنية ولا سيما أنه يمتلك ناصية الثقافة واللغة وعمق التجربة الفنية في بناء القصيدة فوظف اسطورة وادي عبقر،وقد غشيه ليلا وطاف به برغم أن كلاب الجن التي اخترع لها اسمي (عرفيط) و(شيت) هرت عليه وحاولت أن تخيفه وتمنعه من دخول وادي عبقر إلا أنه لم يأبه لها، فدخله دون خوف أو وجل لأن الاسطورة مغزاها أن من دخله امتلك ناصية الشعر.
فطاف بعبقرٍ ليلاً فهرَّتْ           كلابُ الجنِّ: عِرفيط وشيتُ
ووظف أسطورة قوس قزح  وقد كنا نعتقد قديما في السودان أن قوس قزح إذا ظهر في السماء فإن المطر لن ينزل لأنه يشرب ماء السحاب.تحاشي شيخ شعراء السودان استعمال كلمة (قزح)  فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أنَه قال: لا تقولوا قوس قُزح، فإن قُزح من أسماء الشياطين ولكن قولوا: قوس الله عزَّ وجل" وتفاديا للدخول في معمعة قضايا المعتقد وحساسيته وبوعيه الديني والاجتماعي والثقافي استبدلها بلفظة (الغمام) حتى يخرج من المأزق، وقد وفق في ذلك توفيقا كبيرا.       
وعاد السيفُ ينبوعاً فمالي          سوى قوسِ الغمامِ إذا ادّريتُ
وعاد الشاعر من معراجه وكان يتمنى لو بقي في هذه الرحلة المعراجية الممتعة ولم يعد منها أبدا، ولكن الشاعر يشده الحنين والشوق فيقرر العودة إلى الأصل بعد الانطلاق في الفضاءات البعيدة فهو مهما طار وحلق يعود إلى وكره وأصوله وجذوره التي ارتبط بها من طين وماء ونخل وطير يطرب وينتشي لغنائه.
وعدتُ وليتني ما عدتُ دهري       وهل تأسو عليل الحظ ليتُ
هبطتُ وأجنُحي أدغالٌ نخلٍ          إذا غنَّتْ عصافرُها انتشيتُ
وحامت صادحاتُ النيل حولي        تغلِّفها المواسمُ فاحتفيتُ
وأعلم أنها جاءت عجالى            تُقاضي رحلتي وأياً وأيت
وكأنه يقول إن من الموحيات لديه بالشعر النيل  والنخل والطير والرباب وهذه العناصر من بيئة الشاعر فالنيل يمر بالقرب من قريتة (أم درق) فهو رمز النماء والخير والخصب، والنخل هو السمة البارزة للزراعة في المنطقة ويعني للشاعر الأنفة والسمو والشموخ والتجذر، والطير الصادح الذي يشجيه ويطربه بأنغامه العذبة، والرباب يغذيه بنغماته الحنينة المطربة المركوزة في حسه الفني.
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية