الضعف في اللغة العربية-1
د. محمد سعيد حسب النبي
كتب أحمد أمين مقالاً نُشر في بداية القرن الماضي تناول فيه قضية ضعف اللغة العربية، وكأن أحمد أمين بيننا الآن، يتناول القضية نفسها التي نعانيها مع ضعف اللغة العربية. ولقد أشار إلى ما رددته الجرائد والمجلات من الشكوى من ضعف الطلبة وخريجي الجامعات في اللغة العربية، وهي مسألة كما يقول لا يصح أن تمر من غير أن يتداولها الكُتّاب بالشرح والتعليل، ويقلّبوها على وجوهها المختلفة، حتى يصلوا إلى علاج حاسم. وأشار أحمد أمين إلى ضعف الطلاب الواضح والذي لا يحتاج إلى برهان؛ فأكثرهم لا يُحسن أن يكتب أسطراً ولا أن يقرأ أسطراً من غير لحن فظيع يكاد يكون بعدد الكلمات التي يكتبها أو يقرؤها، وهم إذا خطبوا أو قرأوا أو كتبوا أو أدوا امتحاناً رأيت وسمعت ما يثير العجب ويبعث الأسف. وأما أن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد فذلك أيضاً أمر في منتهى الوضوح، لا لأن اللغة العربية لغة البلاد، والضعف فيها ضعف في القومية فقط؛ بل لأنها اللغة التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم وتكوّن عقليتهم؛ فاللغة الأجنبية التي يتعلمها طلاب المدارس الثانوية والعالية ليست هي عماد ثقافة البلاد، وليست هي التي تكوّن أكبر جزء في عقليتنا؛ إنما الذي يقوم بهذا كله هو اللغة العربية التي نتعلمها في الكتاتيب ورياض الأطفال، وندرس بها العلوم المختلفة في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. فالضعف في اللغة العربية ضعف في الوسيلة والنتيجة معاً، على حين أن الضعف في اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان ضعف في الوسيلة فقط، ولهذا يعتقد أحمد أمين أن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته وضعفه تتكون –إلى حد كبير- عقلية الأمة.
ثم يعرض أحمد أمين الأسباب التي نشأ عنها الضعف في اللغة العربية، والتي أرجعها إلى أمور ثلاثة: طبيعة اللغة العربية نفسها، والمعلم الذي يعلمها، والمكتبة العربية.
فأما طبيعة اللغة العربية فهي صعبة عسرة –وهذا ما أختلف فيه معه؛ فاللغة العربية ليست صعبة وإنما تتسم بسمات إذا ما أدركها المتعلم صارت يسيرة ممكنة- ويدلل أحمد أمين على صعوبة اللغة بذكر بعض عوارضها بمقارنتها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، فاللغة العربية معربة، تتعاور أواخرها الحركات من رفع ونصب وجر وجزم حسب العوامل المختلفة، ولا شك أن اللغة المعربة أصعب من اللغة الموقوفة، أعني التي يلتزم آخرها شكلاً واحداً في جميع المواضع، ومع جميع العوامل، كاللغة الإنجليزية والفرنسية.
وهي صعبة كذلك من ناحية أن حروفها وحدها لا تدل على كيفية النطق بها، بل لا بد لصحة النطق من الضبط بالحركات أو المران الطويل، على عكس اللغات الأوروبية التي تدل كتابتها على كيفية النطق بها في أكثر مواضعها. والضبط بالشكل عسير فلا نستعمله في الجرائد والمجلات ولا في أكثر الكتب الأدبية قديمها وحديثها.
وهي صعبة –أيضاً- من ناحية الاختلاف الكثير في الفعل الثلاثي، فله أشكال كثيرة لا يمكن إخضاعها لضوابط حاسمة، وكصيغ جموع التكسير، فهي كثيرة وضوابطها قلما تطّرد، وكنظام العدد والمعدود فإنه معقد تعقيداً شديداً حتى لا يجيده إلا الخاصة وأشباههم. كل هذا ونحوه يجعل اللغة العربية صعبة المنال، وإتقانها يحتاج إلى مران كثير ومجهود كبير من المتعلم والمعلم.
ويعرض أحمد أمين ذلك لتأكيد حاجة اللغة العربية الشديدة إلى عناية كبرى لتذليل صعوبتها، ورسم أقرب خطة للتغلب عليها، حتى يحذقها المتعلم من أقرب سبيل.
أما عن المعلمين فإن أحمد أمين يعدهم نقطة شائكة، ويؤكد أن جزءاً كبيراً من ضعف اللغة العربية يرجع إليهم، مع أنه لا ينكر أن منهم أفذاذاً نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ننشده، ولكن المنطق عودنا أن يكون حكمنا على الكثير الشائع لا على القليل النادر.
ثم أشار إلى مؤسسات إعداد المعلم في عصره، وهي دار العلوم والأزهر وكلية الآداب، وأشار إلى أنها لم تستطع أن تخرّج المعلمين الأكفاء الذين نتطلبهم والذين تتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها، ومحاربة الضعف الفاشي فيها. فأما دار العلوم والتي دعت وزارة المعارف إلى إنشائها بعد أن أحست عجز الأزهر عن أن يمدها بالمعلمين الصالحين لها، إذ رأت الأزهر تنقصه –إذ ذاك- الثقافة الحديثة والعلم بمناهج التربية والتعليم، وقد نجحت الوزارة في تحقيق هذا الغرض إلى حد كبير، وأخرجت رجالاً نهضوا باللغة العربية إلى حد ما، وأحسنوا التدريس على خير مما كان يدرسه الأزهريون، ولكن دار العلوم كانت سادَّة لحاجة الأمة في السنين الأولى من إنشائها، ثم تقدمت الأمة في ثقافتها ووقفت دار العلوم حيث كانت، فأصبحت لا تؤدي رسالتها كاملة، وأصبح خريج دار العلوم –في رأي أحمد أمين- لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو في حاجة إليه، ولا له من المهارة في الوسائل ما يستطيع بها أن ينهض بالطلبة النهوض اللائق، ولا هو يساير الزمن في ثقافته حتى يخضع الطلبة لشخصيته القوية؛ ودليل ذلك أمور كثيرة: منها ضعف المكتبة العربية، ومنها عجز معلمي اللغة العربية عن تشويق الجمهور والطلبة إلى القراءة العربية، حتى إنا نرى الناشئ لا يكاد يستطيع القراءة في الكتب الأجنبية حتى يهيم بها ويفضلها ألف مرة على المطالعة العربية، ومنها نظر الطلبة في صميم نفوسهم إلى أن اللغة العربية مادة ثانوية، وإن وضعت في المناهج في أوائلها، ومنها ثقافة الجمهور فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربي والمعلومات العامة التي تتصل بذلك ضعيفة إلى حد بعيد، والمسؤول عنها معلمو اللغة العربية لأنها لغة البلاد وعليها يعتمد في تكوين العقلية، إلى كثير من مثل هذه الأسباب.
أما الأزهر –كما يرى أحمد أمين- فهو الآن وليد دار العلوم، والمشرف على تعليم اللغة العربية فيه هم خريجوها، فقصاراه أن يبلغ من الرقي ما بلغته مدرسة دار العلوم في تعليمها ونظمها ومناهجها حتى يحل محلها، ويكفي هذا برهاناً على أنه لا يحقق الغرض الذي نرمي إليه.
أما قسم اللغة العربية في كلية الآداب فكذلك ناقص ضعيف –في رأي أحمد أمين- فهو يعلم طرق البحث الجامعي، وهذا يضطره إلى أن يتوسع في مسألة وأن يهمل مسائل، فلا يخرج الطالب دارساً لكل ما ينبغي أن يدرس. أضف إلى ذلك أنه يعتمد في طلبته على طائفة تخرّج أكثرها في المدارس الأميرية وحصلوا على شهادة الدراسة الثانوية، وهؤلاء لا يصلحون صلاحية تامة لدراسة اللغة العربية إلا بعد عهد طويل لا تكفي له سنوات الدراسة الجامعية؛ ذلك أن اللغة العربية متصلة اتصالاً وثيقاً بالدين، ولا يمكن أن يحذقها ويستطيع أن يفهم كتبها القديمة إلا من بلغ درجة عالية في فهم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي، والطلبة الذين تأخذهم الجامعة لهذا القسم لم يثقفوا هذه الثقافة، ولا تستطيع الجامعة أن تكمل هذا النقص مهما بذل المدرسون من الجهد. ومن أجل هذا ترى أن طلبته بينما يجيدون نهج البحث في المسائل إذ يقصرون في مسائل تعد في نظر الأزهر ودار العلوم مسائل أولية وهي في الواقع كذلك.
ثم ينتهي أحمد أمين إلى نتيجة حاسمة هي أن المعاهد التي تدرس اللغة العربية في مصر تعجز عن إخراج المعلم الكفء، ومن العجيب أن توجد هيئات ثلاث لتحضير معلمي اللغة العربية والبلد لا يحتاج إلا إلى هيئة واحدة؛ ثم كل هذه الهيئات معيب لتوزع قواها، ولو وحدت القوى في هيئة واحدة لاستطاعت أن تخرج خير نموذج للمعلم، ولكن يعصف بهذه الفكرة الصالحة تعصب كل فئة لنفسها، وتدخل السياسة عند حلها فضاعت بذلك المصلحة العامة.
|