العربية وبطن الحوت !؟!؟
أ.د. ياسر الملاح
إن من يدقق النظر في وضع اللغة العربية هذه الأيام يجد أنها مغيّبة عن حياتها الطبيعية، ويجد أن لها جمهورها الخاص بها من بعض المثقفين ومريدي هذه اللغة الشريفة، بحيث يمكن القول: إن العربية الآن لا تحيا حياة طبيعية كسائر اللغات التي تستخدمها شعوب الكرة الأرضية، ولا تكاد تحيا على ألسنة الشباب وأفراد الأسر المجتمعية وجمهور المؤسسات الاجتماعية والخدمية والدواوين الحكومية والمعاهد التعليمية في الحياة العربية المعاصرة. ولذلك دفعني هذا الواقع الشاذ إلى تشبيهها بمن التقمه الحوت وظل في بطنه إلى أن أخرجه الله من هذه البيئة التي كانت ستقضي عليه لولا أنه كان من المسبحين!!! والمسبحون هم الذين يقولون ما قاله ذو النون وهو في بطن الحوت :" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" بثقة وإيمان عميق، وهم كذلك الذين يحاولون أن يتقنوا عملهم في الحياة على الرغم من المعوقات التي تدفع بهم إلى بطن الحوت في أحيان كثيرة، ولذلك فإننا نرى أن عملهم الباني في ظروف قاسية كأنه تسبيح لله سواء أكان هذا التسبيح في بطن الحوت أم كان في بطن الحياة المدمرة لطاقات الإنسان وطموحاته.
هجر يونس،عليه السلام، قومه بعد أن ضاق بهم ذرعا لأنهم لم يستجيبوا لدعوته التي أرسله الله بها إليهم، لينعموا بالحياة الهادئة المستقرة المؤمنة بالله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فما من حياة تبنى على حب الله وطاعته وأنظمته العادلة إلا ازدهرت وأعطت عطاء غير مجذوذ، وما من حياة تبنى على غير هذا إلا أصابها الويل والثبور. وقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم في سورة الأنبياء في قوله تعالى :" وذا النون إذ ذهب مغاضبا. فظن أن لن نقدر عليه. فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم. وكذلك ننجي المؤمنين". الأنبياء، 87-88. كما وردت في سورة الصافات حيث قال الله تعالى:" وإن يونس لمن المرسلين. إذ أبق إلى الفلك المشحون. فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم. فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون. فنبذنه بالعراء وهو سقيم. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فآمنوا فمتعناهم إلى حين." الصافات، 139- 148.
ومغزى هذه القصة أن حمل رسالة الله إلى الناس لهدايتهم أمانة كبيرة لا يجوز أن تضيق بها صدور من يحملونها لإخراجهم من الظلمات إلى النور. فإذا ضاق بالدعوة من يحملها وتبرم بها فإن هذا دليل على ضعف، ولتصحيح المسار قد يبتلي الله من يحمل هذه الدعوة ابتلاءات قاسية وموجعة، كما امتحن النبي يونس بهذا الابتلاء المذهل وهو عيشه حينا من الدهر في بطن الحوت !!! وما أشبه قصة رسل العربية في الوقت الحاضر بهذه القصة المعبرة !! فمن أوجب المسؤوليات الحضارية على الأمة هذه الأيام أن ينصروا لغتهم التي تعني لهم ما تعنيه من هوية وانتماء وذاتية ووطنية، ولكن الأمة الآن تضيق بهذه الرسالة اللغوية وتبرم بها، ولذلك فإن عقابها حاصل لا محالة، ونكاد نراه رأي العين في كل صقع من أصقاع العالم العربي والإسلامي، فمن انفصام حاد بين الفصحى والعامية أدى إلى ازدواجية عقيمة ومدمرة لأنها قادت إلى انفصام في العقل والشعور، ومن اغتراب وتهميش فسح المجال الرحب للغات الأجنبية. وهكذا فإن حملها إلى بطن الحوت اللغوي متحقق إذا لم يعمل أهلها العمل الصادق لنشر رسالتها اللغوية بصدق ونية مخلصة حتى يتحقق ما يصبو إليه الصادقون والمخلصون في هذه الأمة من حياة لغوية عربية مستقيمة.
كان يونس، عليه السلام، صادقا في حمل الدعوة إلى الناس، وكان صادقا في قبول أمر الله، وكان دليل ذلك الصدق والقبول أن أمضى فترة وجوده في بطن الحوت، ويا له من وجود صعب، مسبحا نادما متطلعا إلى رحمة الله التي تتمثل في إعادة تكليفه بأمر الدعوة لتخليص قومه من آفة الانحراف عن الإيمان بهدي الله ومنهجه القويم. وقد كان له ذلك فأخرجه الله من بطن الحوت، وكلفه بإعادة الكرة فدعا قومه إلى الحق فآمنوا به ونجح في هدايتهم، بإذن الله، فأصبح مثالا يحتذى في تحمل الابتلاء والصبر والنجاح، لأنه كان من المسبِّحين. فهل سنقتدي بيونس، عليه السلام، في تسبيحنا اللغوي لنهضة اللغة العربية وإكسابها حياة طبيعية ترفع شأنها وتأخذ دورها في الحياة البشرية المحتاجة إلى كل جهد بناء وإلى عطاء وتخفيف من الويلات المتلازّة المتلاحقة؟!؟!
وليونس، عليه الصلاة والسلام، في مسألة حمل دعوة الله، وإيصالها إلى الناس وابتلائه، وإخراجه من الابتلاء وحمله دعوة الناس ثانية بعد خروجه من بطن الحوت، ونجاحه في تربيتهم وإعادتهم إلى الطريق القويم نظراء في مسألة اللغة العربية وحمل رسالتها إلى أهلها أولا، وإلى الناس أجمعين ثانيا. فالأب في الأسرة، وكذلك الأم فيها، نظيران أساسيان في موضوع تربية النفوس على حب العربية، والتخاطب بها بين أفراد الأسرة. ولا يقتصر الحب للعربية على مجرد الشعور بالحب، بل يجب أن يتطور هذا الشعور الجميل إلى برنامج عملي يرسخ التحدث بالعربية الفصحى بين أفراد الأسرة ترسيخا منهجيا عمليا يثبتها في القلوب والألسن، ويرسخ الاستمتاع بقراءة نصوصها الجميلة من قرآن وشعر وخطب ووصايا لتعميق وجودها الجمالي في النفوس التي ستحمل هذه اللغة إلى العالمين.
ومما يساعد على ترسيخ هذه التربية اللغوية المنافسة في القراءة الجادة والنافعة. ولعل من الذائع هذه الأيام أنه يسيطر على أبنائنا المنافسة في تعلم مهارات لا تربي ولا تنشط العقول والأذهان، بل يغلب عليها اللعب العبثي الذي لا طائل تحته في قراءة نافعة أو تربية مستقيمة أو خلق كريم، وما أكثر أن ينصاع الوالدان لرغبات أطفالهم الطائشة دون أن يحكم هذا منهج صارم يصنع الرجال، وهم في أعمار صغيرة، كما كان يحدث مع جذورنا التي كانت توجه الأبناء إلى حفظ القرآن الكريم نطقا فصيحا وتجويدا ونحوا وغير هذا من المهارات القرآنية الخاصة بالمصحف الشريف، فينتج عن هذا رجال أيُّ رجال فتحوا العالم القديم في سنوات معدودات ونشروا الدين في أرجاء المعمورة، وليعلم الناس أن تثبيت مهارة اللغة في نفوس الأبناء من أهم المهارات التي يسعى الأهل إلى تثبيتها في نفوس أبنائهم لأنها تصنع شخصياتهم في الصبا والشباب والرجولة القوية على أساس من المنطق والفكر والفهم المستقيم.
إن عددا لا يُستهان به من العرب والمسلمين هذه الأيام يتمنى أن يسمع أولاده وهم يتحدثون العربية ويستظهرون نصوصا فصيحة كنصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والشعر الجميل والخطب النادرة المؤثرة، ولكن من المعروف بوضوح :
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
والمطلوب من هؤلاء الذين يعيشون على الأحلام والتمنيات أن يوفروا شروط تحقيق هذه الأماني وتحويلها إلى واقع ملموس. والوصفة المقترحة لحل المشكلة اللغوية العربية جذعا هي تحفيظ أبنائنا القرآن الكريم. وإن من يبادر إلى الاعتراض على هذه الوصفة بحجج واهية كصعوبة النص القرآني على الأطفال فهذا تصور خيالي غير حاصل، إذ كيف تسنى للأجيال التي حملت إلينا هذا الكتاب الكريم الذي يعتبر أساس الوجود العربي والإسلامي ومستودع الحضارة التي انبثقت عن تلك الأجيال، وهي حضارة راسخة البنيان عميقة الجذور، كيف تسنى لهم بناء الصرح الحضاري اللغوي والأدبي الذي تشي بوجوده المخطوطات المحفوظة في مكتبات العالم إلا بحفظ القرآن في كتاتيب منتشرة في كل بقاع العالم الإسلامي؟! وكيف تسنى لانطفاء هذا الوهج الحضاري بحيث نجد الطفل العربي المعاصر لا يعرف إلا القليل عن لغته وقرآنه إلا تلك الهجمة الشرسة على الكتاتيب المرتبطة بتحفيظ القرآن وعلم التجويد والنحو لأن هذه جميعا تشكل أثافي الموقد الحضاري العربي والإسلامي لصناعة الرجال الممتازين لتغييبها من الوجود لإتاحة المجال للنمط التربوي الغربي أن يحل محل النمط الإسلامي. ليس عند الغرب ما عندنا، وما يصلح لهم لا يصلح لنا، تلك أمة لم يكلفها الله بالمحافظة على رسالة هذه الأمة، وفي جوهر هذه الرسالة القرآن الذي لا يكون له حياة أو تأثير إلا بالحفظ والترتيل وما إلى ذلك من صفات وعادات لغوية وغير لغوية درجت عليها أجيال هذه الأمة في شبابها فأعطت ما أعطت من صروح خالدة في اللغة والفكر والأدب وغير ذلك من فنون العلم.
إذا فالعربية في بطن الحوت، وليس لها من خروج من تلك الظلمات إلى الحياة المثمرة البانية إلا بما أخرج به ذو النون من بطن الحوت، وهو التسبيح. وجوهر التسبيح اللغوي تغذية أبنائنا التغذية اللغوية الصحيحة حتى يتسنى لنا الحصول على النتائج التي حصلتها الأجيال التي تربت على القرآن والثقافة المنبثقة عن ممارسته في الحياة. والعجيب أن المستشرقين الأوائل عرفوا هذا السر فكان أحدهم إذا أراد تعلم العربية على أصولها بدأ رحلته بتعلم القرآن وتجويده، لقد عرفوا السر وعرفوا الحل، ونحن في غينا سادرون !!!
قل لي بربك متى تخْرج العربية من بطن حوت البيت العربي الذي تسيطر على حياته العامية المفرطة في السوقية؟ وإن تعجب فعجيب أن ترى بعضهم يعتقد أن اللغة مسألة غير مهمة !! فالمهم، في حياة الأسرة، هو المال والغذاء واللعب، وليست الثقافة أو اللغة أو الأخلاق أو غير ذلك من القيم والفضائل التي امتاز بها الإنسان عن الحيوان، إن مثل هذا التصور منطق حيواني معكوس، وهذا ما لا ينبغي أن يكون في المجتمعات التي تتطلع إلى الرقي والحضارة. يجب أن يعي الآباء والأمهات أن حبة الدواء الأولى لإصلاح وضعنا اللغوي تنطلق من البيت لأنه الحاضن الأول النقي الصادق لزراعة الحس اللغوي والملكة اللغوية التي تشكل الأساس للبنيان اللغوي كله في حياة الإتسان. ويجب أن يعلموا، بكل وضوح وصراحة وإخلاص، أن الطريق المستقيم لصيانة البنية اللغوية عند أبنائنا هو البدء بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وتجويدا. ففي دراسة في المغرب وجد أن من التلاميذ من يتكلم اللغة العربية الفصيحة، وعندما يقبل على تعلم الفرنسية فإن الفرنسية لا تؤثر على فصاحته، فتبين لهم أن سبب ذلك هو أن الصبي الذي درج على حفظ الفصحى منذ صباه تحفظ العربية حنجرته، ولا يمكن أن تتأثر بأي لغة أخرى يتعلمها، وأما من غزت اللغة الأجنبية حنجرته قبل العربية وجد أن في فصاحته انحرافا ما.
وعليه فإنه مما تنبغي معرفته أن أول تسبيحة منجية لأجيالنا المعاصرة ولمستقبلنا الحضاري واللغوي وللخروج الآمن من بطن الحوت الذي قدنا أنفسنا إلى داخله هو البدء الفوري والعلمي بإرضاع أبنائنا آيات من القرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم وأن نصنع عندهم مناخا موسيقيا من تعبيراته ومفرداته وتجويده وترتيله حتى تنشرح الأسماع والقلوب على الآيات المباركات التي نحن في أمس الحاجة إليها لإعادة صياغة لغة أبنائنا من جديد. إن هذه الوصفة هي الوصفة الصحيحة لما تعانيه لغتنا بعامة ولغة أبنائنا بخاصة ولا سبيل إلى وصفات أخرى مدمرة نستوردها من هنا أو من هناك لأننا لم نعد نثق بكنوزنا الحضارية والثقافية التي صنعت أمة ما زال وجودنا مرتهنا بوجودها.
ولننتقل إلى المدارس، والمدارس يجب أن تكون مدعمة للغة التلميذ وبانية لها، فلو كان الأمر كذلك هل يعقل أن تخرج علينا دراسة علمية لتقول لنا:" ويُعدُ إتقانُ مهاراتِ اللغةِ العربيةِ لطلبةِ التعليمِ الأساسيِ والثانويِّ مِنْ أكبرِ التحدياتِ التي تحاولُ الدولُ العربية تحقيقـَه باعتبارِه مُدْخلا لِتجويدِ التعليمِ، وَرُغمَ الجُهودِ التي تُبْذلُ لتحسينِ نوعيتِه، إلا أنّه ما زالَ يُعاني العديدَ من المُشكلاتِ، ولعلَّ أبرزَها تَدَنّي المستوى اللغويِّ لدى طلبةِ التعليمِ الأساسيِّ والثانويِّ، وهذا ما تؤكدُه بصورةٍ واضحةٍ نتائجُ العديدِ من الدراساتِ والندواتِ في بلادِنا، فَضْلاً عن الشكوى العامةِ بين أوساطِ التربويين والباحثين والمتخصصين في مجالِ تعليمِ اللغةِ العربيةِ، إضافة إلى الشكوى الصريحةِ مِنَ الأكاديميين والجامعيين التي تشيرُ إلى ضَعفِ المُدْخلاتِ ونوعيةِ إعدادِها وإمكانياتِها الوافدةِ من التعليمِ العامِ، وفي مقدمةِ ذلك التدني في المُسْتوى اللغويِّ".(خضير والخوالدة ومقابلة وبني ياسين 2012، ص 168).
ومما لا ريب فيه أن هذا الوصف للضعف اللغوي في مدارسنا سيؤسس لمستوى لغوي جامعي ضعيف جدا، وهذا ما نلمسه بأعيننا في التقارير التي يعدها الطلبة الجامعيون، والعجيب أنه لا يوجد عند هؤلاء الطلبة أي غيرة على اللغة العربية، فليس هناك طموح لتعلمها أو الإبداع فيها، كما أنه لا يوجد أي تقبل للنقد وأهم أمر عند هذا الطالب أن ينجح في مادة اللغة العربية دون الالتفات إلى مستوى التحصيل اللغوي فيها بتاتا. حتى إذا قادته الظروف إلى العمل في المؤسسات التربوية فهل سيكون له أي تأثير على البناء اللغوي فيها؟ ومع العلم أن فاقد الشيء لا يعطيه؟! وهكذا تصبح اللغة التي هي من أهم آلات التعبير والفهم العلمي غير مجدية بتاتا عند شبابنا، ومن هنا فإن معظم شبابنا وشاباتنا يفتقرون إلى قوة التعبير وضعف الخيال وندرة الإبداع العلمي، لأنهم لم يوسعوا مداركهم باللغة العربية الرصينة، ولم يتدربوا على بلاغتها وقوتها التعبيرية، ومن المؤكد أنهم لا يحبونها ولا يتعاطفون معها، لأنها في الواقع ليست لغتهم إلا في الشكل والانتماء الفارغ.
فإذا تركنا هذا المجال المهم لبناء لغة الفرد واتجهنا إلى الحياة بأمواجها المتلاطمة لم نجد العربية تحيا في المؤسسات التجارية والصحية والمالية وغيرها بل نجدها تقبع في بطن حوت مجتمعي صاخب لا تناغم فيه ولا تواصل في موضوع اللغة العربية، بل إن كلا يغني عل ليلاه، فهناك مؤسسة ترجح التعبير في معاملاتها بالعامية، وهناك أخرى تعبر بالإنجليزية، وثالثة تعبر بالفرنسية، ورابعة تعبر بأي لغة تختارها، ولذلك بدلا من أن تكون العربية لغة التعبير الأولى في جميع المؤسسات أصبح لازما على المواطن أن يستأجر مترجما أو أن يتعلم لغة أجنبية لتسيير أموره.
ولم يبق في هذا المجتمع المتلاطم الأمواج إلا الإعلام، فهو الإضاءة الوحيدة التي تنير للعربية دروبها للخروج من بطن الحوت، وذلك لأن الاتصال الفوري الحي بين الأذن واللسان من أنجع الوسائل للاكتساب اللغوي الناجح، وسرعة التأثير في المتلقي. وعلى الرغم من الأخطاء التي نلمسها عند عدد من المذيعين والمذيعات الذين لم تتوافر لديهم التربية اللغوية الصحيحة، كنطقهم لام لفظ الجلالة مرققا، أو نطق اللام الشمسية كما في (التحضر) و(الناس)، وكنطق الصاد سينا و الطاء تاء، وغيرها من الأخطاء التي لا تتناسب مع صوتيات العربية وتوحي بالعجمة، فإن هناك عددا آخر كبيرا من الإذاعات والفضائيات التي تمهد السبيل للعربية لتحيا حياة طيبة على ألسنة مذيعيها ومذيعاتها. وإني، في هذا المجال، أشيد بما تحرص عليه قناة الجزيرة القطرية من انسياب وتدفق وفصاحة طبيعية للعربية، في مختلف برامجها على ألسنة مقدمي هذه البرامج من مذيعين ومذيعات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والرياضية، بحيث يشعر المتابع لعربية هذه الفضائية كأنما انتدبت بصورة قوية لإخراج العربية من بطن الحوت الذي كاد يقضي عليها.
فلنهبَّ جميعا إلى لغتنا ولنخرجها بالتسبيح اللغوي من بطن حوت الكسل والخنوع والجري وراء خطط الأجنبي الذي لا يهمه ما يهمنا، ولا يرى ما نرى، ولا يتطلع إلى ما نتطلع إليه، ومن بطن حوت جهلنا بحضارتنا، وعدم تقديرها التقدير الذي يليق بها، ومن بطن حوت إبعاد أبنائنا عن التربية العربية والإسلامية الخاصة بنا، والتهافت على استعارة ما عند الآخرين من ثقافات تخرجنا عن قيمنا وأصولنا لتُدخلنا في متاهات مُضيعة. إن علينا أن نأخذ من غيرنا ما يتوافق مع شخصيتنا الحضارية والثقافية واللغوية لا أن نفسح المجال لما يخرب ثقافة أبنائنا وتصوراتهم ولغتهم. إن الامتزاج الحضاري الذي أنتجه أجدادنا في العصر العباسي والذي قام على نهر إسلامي عربي متدفق تصب في جوانبه روافد من كل الحضارات لم تضيع حقيقة النهر ولا تدفقه بل ظل محافظا على إسلاميته وعروبته وتدفقه وأنتج للناس أجمعين حضارة وصرحا ثقافيا لا مثيل له هو النموذج المطلوب في حاضرنا لئلا نرشح وجودنا للاندثار.
|