الجملة العربية عند ابن هشام الأنصاري
د. مي صالح نصر
تأتي أهمية دراسة الجملة العربية من كونها الوحدة الكلامية التي يُعبر بها عن فكرة ،ويستطيع المتكلم بواسطتها أن يوصل أفكاره إلى الآخرين ، وفي النحو لم نجد عند سيبويه تعريفا لمصطلح الجملة منفردا بذاته غير إشارته إلى ما يسند من الألفاظ إلى غيره ويبنى عليه ، وقد كان البحث في الجملة يرد في ثنايا الموضوعات حيث أن مصطلح الجملة تأخر ظهورا واستخداما عن تقدم البحوث النحوية بزمن غير يسير ، فهو لم يظهر عند النحاة الأوائل وإنما ورد بعبارة ( الكلام ) و( الكلام المستغني ) فجاء في باب ( ما يقع موقع الاسم المبتدأ ) من الكتاب ـــــــ قوله : ( ... هذا باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده ، لكن كل واحد منهما ممالا يستغني صاحبه ، جمعا استغنى عليها بالسكوت ) ، وجاء في باب المسند : ( هذا باب المسند إليه ، وهما لا يستغني واحد منهما عن الآخر ، ولا يجد المتكلم منه بدا ، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه وهو قولك : عبد الله أخوك وهذا أخوك ومثل ذلك قولك : زيد يذهب ) يتضح من القولين السابقين لم يرد عند سيبويه مصطلح الجملة وإنما ورد مفهومها لديه بعبارة ( مالا يستغني ) وعبارة ( استغنى عليها بالسكوت ) أي الجملة التامة .و إذا عدنا إلى النشأة الأولى لمصطلح الجملة نجد أن المهتمين بدراسة المصطلح النحوي يرون أن مصطلح الجملة أول ما ظهر كان على يد أبي العباس المبرد فقد تناول مصطلح الكلام وبحثه وتحدث عنه كما تحدث عن الجملة ومضمونها في كتابه ( المقتضب ) فجاء قوله عن الكلام : ( ... فالكلام كله اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ) ولئن كان المبرد قد خالف سيبويه في جعل ما اشتمل عليه الكلام من اسم وفعل وحرف فإنه يلتقي وإياه في المضمون ، فسيبويه يجعل العناصر السابقة منطوية تحت باب ( الكلام) والحق أن ربط الجملة بالكلام أمر درج عليه كثير من النحويين فلا نراهم تناولوا الجملة إلا وربطوا تعريفها بالكلام حيث انقسم النحاة إلى فريقين في تناولهم للجملة ، فريق يرى أن الجملة والكلام مترادفان وأن معناهما واحد ومن هؤلاء أبو علي الفارسي وابن جني والزمخشري وفريق يرى أن الجملة والكلام مختلفان ، و أنهما ليس شيئا واحدا ، ويأتي على رأس هذا الفريق ابن مالك الأندلسي الذي صرّح بالفرق بين الجملة والكلا حيث عرّف الكلام بقوله : ( الكلام ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته ) وقد أراد بقوله ( لذاته ) إخراج ما هو مقصود لغيره كجملة الصلة نحو ( قام أبوه ) من قولنا : ( جاء الذي قام أبوه ) فهي جملة وليست كلاما ؛ لأن الإسناد فيها ليس مقصودا لذاته بل لتعيين الاسم الموصول وتوضيحه ، ومثلها الجملة الخبرية والحالية والنعتية إذ لم تقصد لذاتها بل لغيرها .
وسار على هذا النهج ابن هشام الإنصاري ( ت761 ) مؤكدا عدم ترادف الجملة والكلام ، وأن كلا منهما مستقل عن الآخر ، وأن بينهما عموم وخصوص فيقول : ( وبهذا يظهر لك أنهما ليس بمترادفين كما يتوهمه كثير من الناس ) .
ويعتبر ابن هشام أبرز النحاة الذين تناولوا الجملة بالدراسة ، فقد أفرد لها بابا في الجزء الثاني من كتابه مغني اللبيب حيث أفاض في الحديث عن الجملة وأولاها عناية خاصة فبعد أن عرّفها وبيّن حدودها ذكر أنها على ثلاثة أقسام هي : الاسمية والفعلية والظرفية ، فيقول معرّفا لهذه الجمل : ( فالاسمية هي التي صدرها اسم كزيد قائم ، وهيهات العقيق ، وقائم الزيدان ) والفعلية ( هي التي صدرها فعل : كقام زيد ، وضرب اللص ، وكان زيدا قائما ، وظننته قائما ، ويقوم زيد وقم ) والظرفية ( هي المصدرة بظرف أو مجرور نحو : أعندك زيد ؟ ، وأ في الدار زيد ؟ ) ، كما أنه من ناحية أخرى يقسم الجملة باعتبار المسند إلى قسمين : كبرى وصغرى ؛ فيوضح ذلك بقوله : ( الكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو : زيد قام أبوه وزيد أبوه قائم ) والصغرى هي المبنية على المبتدأ ، ثم شرع يفصّل ذلك على النحو الآتي :
الجملة الصغرى : هي المخبر بها عن مبتدأ في الأصل نحو ( إن زيدا قام أبوه ) أو ( في حال اسمية كانت أو فعلية ) ، والمقصود هنا بـ( مبتدأ في الأصل ) هو دخول أحد النواسخ الابتداء عليه والمقصود ( في حال اسمية كانت أو فعلية ) أن تكون الجملة حال التكلم اسمية أو فعلية .
و الجملة الكبرى : وهي الاسمية التي يكون خبرها جملة كــ(زيد قام أبوه وزيد أبوه قائم ) فجملة ( قام أبوه ) صغرى ؛ لأنها خبر عن زيد وجملة ( زيد أبوه قائم ) كبرى ؛ لأن خبر المسند فيها جملة ، كما قسّم ابن هشام الجملة الكبرى إلى ذات الوجهين وإلى ذات الوجه الواحد ، وعرّف ذات الوجهين : هي اسمية الصدر فعلية العجز ، نحو : ( زيد يقوم أبوه ) ، فاحتوت هذه الجملة في صدرها اسما هو ( زيد ) وجاء عجزها جملة فعلية ( يقوم زيد ) .
أما ذات الوجه الواحد لم يورد لها تعريفا ، وإنما شرحها بمثال هو :( زيد أبوه قائم ) فيتبين لنا من خلال المثال أن الجملة ذات الوجه الواحد هي التي يكون فيها خبر المبتدأ جملة اسمية .ونجد ابن هشام في دراسته للجملة متأثر كغيره من النحاة بنظرية العامل ولهذا يلجأ للتقدير في تحديد أنواع الجمل في سياق واضح لا يقبل التقدير من ذلك نوع الجملة عنده يحده بنوع الكلمة التي تتصدرها ــــ كما ذكرنا سابقا عند تعريفه للجمل الاسمية والفعلية والظرفية ـــــ ـ فقد عدّ الجمل نحو ( فريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) جملا فعلية لأن هذه الأسماء على نية التأخير . وعدّ كذلك الجمل التي يدخل فيها حرف الشرط على اسم كقوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك ...) والجمل المصدرة بأحد حروف القسم كقوله تعالى : ( والليل إذا يغشى ) جملا فعلية لا على أساس الفعل الموجود فيها ؛ وإنما بأفعال مصدرة قبل الأسماء المتصدّرة ومن منطلق العمل ذاته خلط بين أسلوب النداء وهو ليس بجملة خبرية إذ لا إسناد فيه ، ولا يعدو كونه صيغة إنشائية للتنبيه فعدّه جملة فعلية بتقدير فعل عامل بدل ( يا ) وهو ( أدعو ) غير ملتفت إلى أن ليس كل منادى منصوبا وقد استبدت نظرية العامل بدراسة الجملة حتى اضطرب التحديد عندهم حيث نرى الجملة فعلية واسمية في آن واحد في نحو : ( ماذا صنعت ؟ ) حيث تحتمل معنين ؛ أحدهما : ما الذي صنعته ؟ فالجملة اسمية قدم خبرها عند الأخفش ومبتدؤها عند سيبويه . والثاني : أي شيء صنعت ؟ فهي فعلية قدم مفعولها . ومثل ذلك أيضا ما جاء في تفسير ( قاما أخواك ) فهي تحتمل أن تكون جملة اسمية أو فعلية على الرغم من أنها مصدرة بفعل ( فإن الألف إن قدرته حرف تثنية كما التاء حرف تأنيث في" قامت هند" أو اسما وأخواك بدلا منها فالجملة فعلية . وإن قدرت اسما وما بعدها مبتدأ فالجملة اسمية قدم خبرها ) وكل هذا التقدير لأجل قاعدتين من قواعد العمل وليس من أجل فائدة المعنى وهما : أنه لابد لكل فعل من فاعل ، وأنه لا يرفع الفعل فاعلين على جهة واحدة ، وعلى هذا يصح أن تكون الجملة اسمية أو فعلية بناء على نظرية العامل . ولابن هشام تقسيما آخر حسب العمل وهي الجمل لها محل من الإعراب والجمل لا محل لها من الإعراب . كل ذلك يجري بدراسة تتناول جانبا من الشكل بقدر تعلق الأمر بالعامل وقد تتناول جانبا من المعنى بقدر تعلق الأمر بالعامل أيضا .
|