الألسنية اللغوية الحديثة وأصولها عند العرب
أ.د. علي عمار
اللغة وتعريفها :
اللغة نظام من الرموز المسموعة ، وقد عرفها اللغوي العربي ابن جني المتوفى عام 392هـ : " حدّ اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " (1) ، وهذا التعريف يقصد به أن كل جماعة لغوية تصطلح فيما بينها على الرموز التي تستخدمها في عملية التفاهم فيما بينها، وأن هذه الرموز مجرد اصطلاح ، وليست هناك أية علاقة منطقية تربط بينها وبين المعاني التي تدل عليها.
وظيفة اللغة :
اللغة وظيفة اجتماعية ، هي الاتصال بين أفراد الجماعة اللغوية الواحدة ، ولإيضاح معنى هذا الاصطلاح وكيف يتم ، فإننا نورد المثال التالي : فإذا افترضنا أن لدينا متكلما نرمز له بالحرف (أ) وسامعا نرمز إليه بالحرف (ب) ، وأن (أ) يريد أن يقول لـ (ب) شيئا ما ، وأن (ب) سيفهمه ، هنا حدثت عملية اتصالية عن طريق اللغة ، وتتكون من الخطوات التالية :
1ــ اختيار الدلالات :
بالطبع سيكون عند (أ) معنى ما ، ويرغب في نقله إلى (ب) ، وأول خطوة سيقوم بها هي
تحديد الدلالات ، التي تعبر عن المعاني ، التي يريد التعبير عنها ، وهذا يشبه عملية تحرير الرسالة ، فالكاتب يحدد أولا الدلالات التي يرغب في التعبير عنها.
2ــ اختيار الأنماط النحوية :
بعد أن يحـدد المتكلم الوحـدات الدلاليـة الملائمـة لرسالته يقوم بتنظيمها بالطريقـة التـي
يتطلبها النظام النحوي في لغته ، فمثلا إذا كان لدى المتحدث الدلالات الآتية : محمد فريد، علي حمزة، ويريد أن يقول أن محمدا قابل عليا، سيضطر أن يجعل محمدا فاعلا وعليا مفعولا به ويقول قابل محمد عليا، أما إذا أراد أن يقول إن عليا هو الذي قابل محمدا، فعندئذ سيغير في النظام ، بحيث يجعل الذي قابل هو الفاعل ، والذي قوبل هو المفعول به، ويقول : قابل علي محمدا. (2)
ومن هنا نجد أن اللغة العربية تستخدم طريقتين لتنظيم الدلالات في قالب نحوي هما :
1ــ علامات الإعراب ، فالإعراب يدل على المعاني المقصودة.
2ــ موقع المعاني النحوية ، فلا شك أن رتبة الفاعل قبل رتبة المفعول به، والمنعوت قبل النعت وهكذا...
والوحدات الأساسية المستخدمة في تحويل الدلالات إلى علامات نحوية تسمى الوحدات الصرفية (Morphème)، والوحدة الصرفية قد تكون كلمة ، وهذه بدورها تنقسم إلى اسم وفعل وضمير وصفة وظرف وأداة وحرف ، (3) ولكل واحدة منها وظيفة نحوية خاصة ، وقد تكون جزء من كلمة مثل: الواو والنون، أو الياء والنون الدالة على جمع المذكر السالم، أو الألف والتاء الدالة على جمع المؤنث السالم.
3ــ تحويل الوحدات الصرفية إلى رموز ذهنية " فونيمات ".
4ــ تحويل كل فونيم إلى صوت.
5ــ نطق الصوت.
6ــ عندما ينطق الفم هذه الأصوات بطريقة متتابعة وسريعة تنتقل إلى محيط الهواء، وهنا
تحدث عملية خلخلة للهواء بمقتضاها تنتقل جزئيات الهواء التي تحمل كل صوت من هذه الأصوات إلى أذن السامع،التي تنقلها بدورها إلى جهازه العصبي، فيحولها إلى فونيمات أولا، ثم إلى وحدات صرفية ثانيا، ثم إلى علاقات نحوية ثالثا، ثم إلى دلالات رابعا فيفهم السامع مراد المتكلم.
طابع الدراسات اللغوية في العصور الوسطى :
اقتصرت الدراسات اللغوية في العصور الوسطى على النحو ، ويعتبر الكتّاب الأوروبيون (4) أن أفلاطون مؤسس علم النحو، وأفلاطون بالتالي هو ما أوجد ما يسمى بالأجناس النحوية، فهو الذي قسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، وقسم الاسم إلى مذكر ومؤنث، وإلى مفرد ومثنى وجمع، وإلى حالات الإعراب الثلاثة : الضم والفتح والجر. كما درس أفلاطون الجملة ورأى أنها تتكون من جنسين منطقيين هما : المسند والمسند إليه، ورأى أفلاطون أن القواعد النحوية هي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على نقاء اللغة، وأنه جزء من دراسة أوسع هي دراسة الفلسفة، ومن هنا فسّر القواعد النحوية تفسيرا فلسفيا، وكان يعتقد أن لدراسة الفلسفة أهمية كبيرة لفهم تركيب الجملة وتركيب الكلمة، وأكد أن الفرق بين الأحمق والحكيم يشبه الفرق بين النحوي الذي يجهل قوانين المنطق، والنحوي الذي يجيد هذه القواعد والقوانين، وكان يرى أن الفيلسوف وحده هو المؤهل لدراسة الأحكام النحوية، وكان يعتقد أنه لا يكفي أن يقوم النحو على مجرد الدراسة الشكلية للغة، ولكنه يقوم على قوانين العلة، لأن تعليل القواعد النحوية أهم في رأيه من القواعد نفسها.
ظهور المنهج المقارن :
تنسب أول محاولة للابتعاد عن الطابع الفلسفي في الدراسات اللغوية إلى المحاولة التي قام بها دانتي، ووصف بها اللغة الايطالية، فقد أصدر كتابا عنوانه (لغة الشعب) تحدث فيه عن أصل اللغة الايطالية، والعلاقة بينها وبين البروقسية. (3)
وقد شاءت الأقدار أن ينمو هذا الاتجاه فيما بعد في عصر الاكتشافات الجغرافيا، فقد اكتشفت فيه لغات كثيرة لم تكن معروفة من قبل، ودعت الضرورة إلى دراستها، ومن ثم اضطر اللغويون إلى التفكير في منهج غير منهج أفلاطون لدراسة هذه اللغات، وقد وجدت الدعوة إلى تقليد محاولة دانتي لدراسة اللغة الايطالية أذانا صاغية، ثم حدث بعد ذلك أن أعلن السير وليام جونز الانجليزي عن أرائه بالنسبة إلى العلاقات اللغوية بين السنسكريتية والفارسية القديمة واللاتينية واليونانية والجرمانية والكلتية. وقد كانت دراسة السير وليام جونز بمثابة تمهيد لمنهج تبلور فيما بعد، عرف باسم المنهج المقارن، وكان من رواد هذا المنهج شليجل (Schliegel) وراسك (Rask)، وبوب (Bopp)، وجريم (Grimm)، وفرنر (Ferner). (5)
ويقوم المنهج المقارن على ما يلي :
1ــ الحصول على أقدم المفردات والصيغ الصرفية والعلاقات النحوية في كل لغة من لغات المجموعة الهندو أوروبية.
2ــ وضع كل مفردة، أو صيغة، أو علاقة، بجانب الأخرى.
3ـ وصف ما بينها من أوجه التشابه والاختلاف 4ــ استخلاص المفردات أو الصيغ أو العلاقات المشتركة بين كل هذه اللغات، مع محاولة رسم صورة واضحة لما كانت عليه اللغة الأم. و كان من أهم نتائج المنهج المقارن أنه طبق على مجموعة اللغات التي كانت سائدة في
الشرق الأدنى القديم، واثبت أن بينها علاقات الجوانب الصوتية والصرفية والنحوية.
أــ الجانب الصوتي :
يتميز الجانب الصوتي بغنى ملحوظ في الحروف الصامتة، ففيها حروف كثيرة مخرجها من
الحنجرة والبلعوم واللهاة، وفيها ما نسميها الحروف المطبقة أو المفخمة، مثل : ص - ض - ظ -ط ، أما الحركات ففقيرة للغاية، لا يوجد فيها إلا ثلاث حركات فقط، هي الفتحة والضمة والكسرة، وهذا لا يعبر عن كتابة عن الحركات القصيرة وإنما يستنبطها القارئ من وضع الحروف الصامتة.
بــ الجانب الصرفي :
1ــ تقوم الصيغ على نظام الجذور، فهي إذا قوام الأسماء والأفعال، وتتكون من ثلاثة حروف صامتة، تعبر عن المعنى الأساسي للكلمة، ثم يحدد معنى الكلمة الدقيق ووظيفتها بإضافة الحركات، وبإضافة مقاطع في صدر الكلمة أو وسطها أو طرفها، فالحروف الثلاثة : ك - ت- ب ، مثلا هي الجذر، ومعناه الأساسي : الكتابة، ويمكن أن يصاغ منه : كتب - وكتبت -وكاتب - وكتاب - ومكتب.
2ــ يمتاز الفعل في هذه اللغات بسلسلة من الأوزان المزيدة، التي تعبر عن معان مشتقة من المعنى الأساسي، وتصاغ بتغيير الجذر تغييرات ثابتة، وهكذا يعبر عن شدة الفعل أو تكراره، وعن السببية، وعن البناء للمجهول والمطاوعة والمشاركة في الفعل، فمثلا : إذا كانت الصيغة الأساسية للفعل هي كتب، فإننا نستطيع أن نكون منها صيغة أخرى تدل على المشاركة بإضافة ألف بعد الكاف، فنقول كاتب، أي أن يكتب شخصان كل منهما إلى الآخر، وإذا أضفنا في الصدر همزة مفتوحة وأسقطنا حركة الفاء قلنا: اكتب، ومعناه أن يملي شخص على آخر شيئا يكتبه.
3ــ الاسم المعرب، ويرفع بالضمة وينصب بالفتحة ويجر بالكسرة، إذا كان مفردا، أما إن كان مثنى فيرفع بالألف وينصب ويجر بالياء، والجمع يرفع بالواو وينصب ويجر بالياء، أما جمع المؤنث السالم فيرفع بالضمة وينصب ويجر بالكسرة، ثم حدث أن أهمل الإعراب في كل هذه اللغات ماعدا اللغتين الأكادية والعربية.
جــ الجانب النحوي :
1ــ هناك نوعان للجملة في هذه اللغات، هي الجملة الاسمية، والجملة الفعلية، والجملة الاسمية تبدأ باسم، والجملة تبدأ بفعل.
2ــ تميل هذه اللغات إلى الجملة البسيطة، ولا تفضل الجملة الفرعية، وإنما تضع الجمل بعضها جانب بعض، ويستنتج القارئ من السياق العلاقة التي تربط بينهما، فمثلا : نعم أخلاق المؤمن محمد، فهنا نحن أمام جملتين، الأولى: نعم أخلاق المؤمن، والثانية : محمد ، وقد فهمنا هذا من السياق، والدليل على ذلك إعراب هذه الجملة، فنعم فعل المدح، والفاعل مضاف إلى ما فيه ال، ومحمد مخصوص بالمدح خبر المبتدأ محذوف، الم تكن جملة ثانية، وهذه الجملة موجودة، ولم توضح بأداة خاصة، إنما فهم السامع الجملتين بالرغم من وضعهما بجانب بعض. (6)
اللغات السامية :
اصطلح الباحثون على تسمية اللغات التي تشترك في هذه الجوانب باسم اللغات السامية، وأول من استخدم هذا المصطلح هو شلوتر الألماني في بداية القرن الثامن عشر، (7) وقسم الباحثون هذه اللغات إلى شمالية وجنوبية.
اــ القسم الشمالي :
ينقسم إلى شمال شرقي وشمال غربي : القسم الشمالي الشرقي : ويضم اللغة الأكادية، أو
البابلية الآشورية، وموطن هذه اللغة أرض الرافدين أو العراق حاليا.
• القسم الشمالي الغربي : ويضم شعبتين أساسيتين هما : الكنعانية والآرامية.
• الشعبـــة الكـنعــانيــة : وتضم العبرية والفينيقية والأوجاريتية.
• الشعبـــة الآراميــــة : وتضم الآرامية القديمة، والآرامية الدولية، وآرامية العهد القديم.(8)
بــ القسم الجنوبي :
ويضم العربية الشمالية وهي المعروفة بالعربية الفصحى، والعربية الجنوبية وتضم عدة
لهجات مثل : الحميرية والسبئية والمعينية والقتبانية والحبشية أو الجغرية.
بعد أن استعرضا خصائص هذه اللغات التي أطلق عليها اسم اللغات السامية وحصرها
كنتيجة مباشرة من نتائج علم اللغة المقارن، نؤكد أن العرب قد تنبهوا إلى العلاقة التي تربط بين اللغات التي كانت سائدة في بيئتهم في ذلك الوقت، وهي العربية والعبرية والسريانية، فقد توصل ابن حزم الأندلسي (9) إلى وجود قرابة بين العربية والعبرية والسريانية وشبه هذه القرابة بقرابة لهجات اللغة الواحدة وقال في هذا :
" والذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة
لا لغة حمير واحدة، تبدلت مساكن أهلها، فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلس، ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط ، وهي على ليلة واحدة من قرطبة، كاد يقول أنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلا لا يخفى على من تأمله وإذا تعرب الجيلقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول، مهمدا، إذا أراد أن يقول محمدا، ومثل هذا كثير.
فمن تدبر العربية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرناه، فمن تبديل ألفاظ
الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وإنها لغة واحدة في الأصل ". (10)
المنهج الوصفي :
بعد استقرار المنهج المقارن بدأت الأبحاث اللغوية تبتعد أكثر وأكثر عن التأثير الفلسفي، واتجه اللغويون الأوروبيون إلى التعمق في دارسة المادة اللغوية وتقسيمها إلى التعمق في دراسة المادة اللغوية وتقسيمها إلى عدة مستويات : مستوى صوتي وصرفي ونحوي ودلالي ومن الذين اهتموا بالمستوى الصوتي الباحث الدانماركي أو توجسبرسن (1860-1943 م) وتروبتسكوي (1890- 1938 م) وهو من أعضاء مدرسة براغ اللغوية ،وألف كتابه المشهور " أسس الفونولوجيا " عام 1939 م (11) ، غير أن أهم باحث لغوي ظهر في أوروبا في ق 20 هو الباحث السويسري فرديناند دي سويسر، فهو يعد بحق رائد الدراسات اللغوية الحديثة ، وقد صدر بعد وفاته كتابه المهم " دروس في علم اللغة العام "، ركز فيه على الأسس التالية :
1ــ اللغة ظاهرة اجتماعية تحيا بحياة المجتمع وتموت بموته.
2ــ تدرس اللغة من جانبين بارزين ، نظرة وصفية (Diachronique)،ونظرة تاريخية (Synchroniques).
3ــ تدرس الجملة من زاويتين، زاوية معنوية أطلق عليها مصطلح علمي لغوي Paradigmatique))، ويقصد بها المعاني النحوية المجردة التي تحتوي عليها الجملة ، مثل : الفاعلية والمفعولية والابتداء والخبر... الخ،
وزاوية لفظية (Syntagmatique) ويقصد بها الألفاظ التي تستخدم للتعبير عن المعاني النحوية المجردة، ووسائل ارتباط هذه الألفاظ في الجملة.
أسس المنهج الوصفي في الدراسات اللغوية :
يقوم المنهج الوصفي على الأساس الذي وضعه دي سويسر لدراسة اللغة، وهو أنها تتكون من عدة أنظمة مترابطة ترابطا عضويا هي النظام الصوتي والصرفي والنحوي.
المستوى الصوتي :
يهتم بالبحث في هذا المستوى علمان هما : علم الفونيتكس (Phonétique) وعلم الفونولوجيا (Phonologie).
أولا : علم الفونيتكس (Phone tex)
يهتم بدراسة الأصوات الإنسانية، وعدم التقيد بالأصوات الموجودة في لغة معينة ويدرسها من زوايا ثلاث، ويتناول كل زاوية فرع مستقل.
اــ علم الأصوات النطقي : (Phonétique Articulatoire)، ويهتم بدراسة إنتاج الأصوات الإنسانية.
بـ ـ علم الأصوات الأكوستيكي (Phonétique Acoustique)، ويهتم بدراسة انتقال الصوت من فم المتحدث إلى أذن السامع.
ج ـ علم الأصوات السمعي (Phonétique Auditoire) ، ويوضح كيف يستمع الإنسان إلى
الصوت ويفهمه.
ثانيا : علم الفونولوجيا : ( Phonologie)
يبحث هذا العلم في أصوات اللغة المعينة، ويقسم هذه الأصوات حسب دورها في تكوين المعنى إلى صوت أساسي يساهم بدور في تكوين المعنى، وأطلق عليه مصطلح خاص هو الفونيم (Phonème)، وإلى صوت غير أساسي في تكوين المعنى وأطلق عليه مصطلح الألوفوت أو الفوت، ومثال ذلك إذا نطق شخص كلمة أكبر أجبر بالجيم القاهرية، فهل يمكن اعتبار أن صوت الجيم يساهم في تكوين معنى كلمة أكبر، بالطبع لا، أي أن الجيم لا يمكن أن تحل محلّ الكاف، لهذا سمي الكاف فونيم و يسمى الجيم الوفوت. (12)
والمنهج الذي يتبعه هذا العلم في الدراسة هو المبدأ التقابلي، كأن يقابل بين الصوت الانفجاري والاحتكاكي، والمرقق والمفخم، والمجهور والمهموس، والأنفي الفهوي، والأمامي والخلفي.
وتدرس الفونولوجيا كذلك تتابع الأصوات التي تشترك في تكوين الكلمة والتغييرات التي تطرأ عليها، فمثلا اصطبر أصلها : ا - ص - ت - ب - ر، ثم قلبت التاء طاء والسبب في ذلك يعود إلى تأثير الصاد المفخمة على التاء المرققة فقلبت إلى نظيرها المفخم وهو الطاء، وأهم القوانين التي تؤثر على تتابع الأصوات قانونا المماثلة والمخالفة.
المستوى الصرفي :
يدرس هذا المستوى تقسيم الكلمات إلى أجناس صرفية معينة حسب الوظيفة النحوية التي يقوم بها كل جنس صرفي. وقد قسم الباحثون الوصفيون الكلمة إلى ثمانية أقسام هي : الفعل الاسم والضمير والصفة والظرف والمصدر والخوالف (13) [وتشمل أسماء الأفعال مثل صه،وصيغة التعجب مثل ما افعل، وأفعال المدح والذم] والأداة مثل : أداة التعريف وأداة جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم، والتنوين باعتباره أداة للتنكير. كما يدرس هذا المستوى كذلك البنية الداخلية لكل جنس صرفي.
المستوى النحوي :
ويقصد به دراسة الجملة، وتدرس الجملة في مستويين، المستوى الأول معنوي، ويقصد به المعاني النحوية وطرق ارتباط بعضها مع بعض لتكوين الجملة.
والألفاظ التي تعبر عن المعاني النحوية قد تكون مفردة، أي تتكون من لفظ واحد، مثل: محمد ، عمر، أكل محمد الطعام، وقد تكون غير مفردة، وفي هذه الحالة قد تكون عبارة، والعبارة إما أن تكون اسمية مثل : كتاب الولد في جملة كتاب الولد جديد، وفي الحديقة في جملة في الحديقة ولد، وإما أن تكون العبارة مثل : المصدر إطعام في قوله تعالى : " أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما "، وقد تكون جملة مثل : محمد أبوه قائم. ووسائل ارتباط الألفاظ مع بعضها البعض لتكوين الجملة هي العلامة الإعرابية، والصيغة والموقع والتضام والتطابق.
المستوى الدلالي :
ويقصد به دلالة الألفاظ وتقسيمها إلى دلالة حقيقية ودلالة مجازية.
ونرى أن العرب سبقوا الأوروبيين في هذا العلم، فقد التزم العرب في أبحاثهم المنهج الوصفي منذ نشأت الدراسات اللغوية في ق. 02 هـ ، فقد اعتمدوا على الاستقراء التام في جمع المادة اللغوية قبل استنتاج القواعد، وقد بحثوا في الأصوات والصرف والنحو والدلالة. (14)
أ- الأصوات :
درس الأصوات أصحاب المعاجم والنحاة وعلماء التجويد والمؤلفون في إعجاز القرآن الكريم. وأصحاب المعاجم تناولوا الأصوات في مقدمة معاجمهم كأساس لترتيب هذه المعاجم وقد قام بهذا الخليل بن احمد في معجمه (العين)، وابن دريد في معجمه (الجمهرة) . (15)
أما النحاة فقد تناولوا الأصوات باعتبارها مدخلا لدراسة الإدغام والإعلال والإبدال ، وقد تناولها سيبويه في نهاية كتابه (الكتاب) فأوضح مخارجها وصفاتها بدقة بالغة، وكذلك انتهج نفس النهج المبرد في كتابه (المقتضب)، والزجاجي في كتابه (الجمل)، والزمخشري في (المفصل) وأما علماء التجويد فقد اهتموا بدراسة الأصوات لتجويد القرآن الكريم، وكان مصطلح التجويد عندهم مرادفا لمصطلح الأصوات عند المحدثين، ويبدوان أول من استخدم مصطلح التجويد هو ابن مسعود الصحابي الجليل، فقد كان ينصح المسلمين بقوله : " جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات "، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكى حينما سمع بعض القرآن من ابن مسعود.
وقد اشتمل كل كتاب في التجويد على فصل في مخارج الحروف، وطريقة نطقها واختلاف النطق باختلاف السياق، فقد ميزوا مثلا بين اللام والراء المفخمتين والمرفقتين وأوضحوا أحوال هذه وتلك، واهتموا بإيضاح إشباع الحركة في ألف المد وباء المد و واو المد واختلاس الحركة كما هو الحال في الإشمام والرّوم، وأوضحوا أحوال التسكين التام للحرف والتسكين غير التام، وهو الذي أطلقوا عليه مصطلح القلقلة، ويأتي مع حروف قطب جد. (16)
وأما المؤلفون في إعجاز القرآن الكريم فقد اهتموا بظاهرة تلاؤم الحروف وتنافرها وتحدثوا عن مخارج الحروف، وأوضحوا اثر قرب مخارج الحروف أو بعدها في تلاؤم الكلمة أو تنافرها، يقول علية بن عيسى الرماني، الذي عاش في ق. 04 هـ في رسالته (النكت في إعجاز القرآن الكريم): " التلاؤم نقيض التنافر "، (17) والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف والتأليف على ثلاثة أوجه : متنافر ، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا.
ب- الصرف :
اهتمت الدراسات الصرفية عند العرب بالمزايا التالية :
1ـ دراسة البنية الداخلية للكلمة وتصحيح ما يطرأ عليها من لحن : يروي أن أبا الأسود الدؤلي اهتم بتصحيح الأبنية الداخلية للكلمات، فقد نسب إليه قوله :
ولا أقول لقدر اليوم قد غليت ولا أقول لباب الدار مغلوق (18)
يريد أبو الأسود الدؤلي من ذلك أن العرب لا تقول غليت القدر أو الدار مغلوق بل تقول :
غلى القدر والباب مغلق .
ونسب إلى أبي عمر بن العلاء أنه سمع رجلا ينشد قول المرقش الأكبر :
ومن يلقى خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (19)
فقال : أقومك أم أتركك تتسكع في طمتك ؟ فقال : بل قومني
فقال: ومن يغو بكسر الواو، ألا ترى إلى قوله تعالى :
" وعصى آدم ربه فغوى ".
1ـ تحديد الأبنية الفصيحة : يقال عن يونس أن العرب تقول : طسّ وطست، فمن قال : طسّ قال : طساس، ومن قال : طست قال : طسات.
2ـ تحليل أبنية الكلمات : يقول سيبويه نقلا عن يونس أن لبيك اسم واحد ولكنه جاء على هذا اللفظ في الإضافة كقولك عليك، وزعم الخليل أنها تثنية بمنزلة حنانيك، لأنا سمعناهم يقولون حنان.
3ـ تقسيم الكلمات إلى اسم وفعل وحرف، ونرى أن هذا التقسيم أصح من تقسيم الكلمة إلى ثمانية أقسام كما ذهب المحدثون، بل أن فريقا منهم رفض هذا التقسيم وأيد تقسيم العرب.
4ـ التغيير الذي ينتاب الكلمة بزيادة أو حذف أو غير ذلك وتأثيره على المعاني.
يقول ابن جني في مقدمة شرحه لكتاب تصريف المازني : " وهذا القبيل من العلم، أعني التصريف يحتاج إليه جمع أهل العربية، لأنه ميزان العربية وبه تعرف أصول كلام العرب، من الزوائد الداخلية عليه ". (20)
يقتضيننا منهج البحث هنا أن نتحدث عن النحو باعتباره يدرس تركيب الجملة ، ويرى
الباحثون الأوروبيون أن مصطلح التركيب النحوي استخدم أول مرة في الدراسات اللغوية في البحث الذي قدمه عدد من أعضاء مدرسة براغ إلى المؤتمر الدولي الأول لفقه اللغة السلافية الذي انعقد في براغ عام 1919م. والواقع أن اللغويين العرب كانوا أسبق إلى استخدام هذا المصطلح، فقد استخدمه الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه " دلائل الإعجاز " ، فقد قال : " واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلام ولا ترتيب حتى يعلق بعضه ببعض، ويبني بعضه على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس " (21)
وإذا كنا كذلك فيجوز بنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله، وإذا نظرنا في ذلك أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعول أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة أو حالا أو تمييزا أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاميا أو تمنيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تزيد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى هذا الحرف، وعلى هذا القياس ". ومن الواضح أن عبد القاهر هنا يتكلم عن التراكيب وهي التي سماها التعليق وأوضح أن المقصود بالتعليق شيئان هما :
اـ المعاني النحوية وتشمل الفاعلية والمفعولية والابتداء والخبر.
بـ ـ وسائل ارتباط الألفاظ التي تعبر عن هذه المعاني النحوية لتكوين الجملة. واعتقد أن ما قال به عبد القاهر هو نفسه ما يقول به المحدثون اليوم. (22)
الدلالـــــــة :
بحث العرب الدلالة، وأوضحوا أن الأصل يدل اللفظ الواحد على شيء معين، ولكن تتسع الدلالة وقد تضيق.
اـ إذا اتسعت الدلالة فيدل اللفظ الواحد على :
2ـ معاني مختلفة فيقال مثلا : مشى يمشي مشيا، إذا سار، ومشت بطنه تمشي مشاء، إذا أصيبت بإسهال ، ومشت ماشية الفلاح، إذا كثرت ماشيته، وهذا هو يسمى بالمشترك اللفظي.
3ـ المعنى وضده، نحو الجون، فإنه يدل على الأبيض والأسود ، ومثل الناهل فإنه يدل على العطشان ويدل على الذي شرب الماء حتى روى، وهذا هو ما يسمى بالأضداد.
4ـ إذا ضاقت الدلالة فيدل اللفظان على معنى واحد ، وهذا هو ما يسمى بالترادف ، مثل : السيف والمهند.
الإحـــــــــــــــــالات
1- ابن جني : الخصائص، ج1 ، ص 33 ، تحقيق محمد علي النجار، ط 3 ، دار عالم الكتب
1983م ، بيروت.
2- كمال محمد بشر : جهود العرب في الدراسات الصوتية ، مجلة الثقافة العربية ، عدد 04
ص51 ، 1975م.
3- تمام حسان ، مناهج البحث في اللغة ، ص 64 / 65.
4- محمود حجازي : مدخل إلى علم اللغة ، ص 22.
5- إبراهيم أنيس : الأصوات اللغوية ، ص 8 وما بعدها.
6- احمد قدور: مبادئ اللسانيات ، ص 147.
7- عبد القادر الحديدي : مدخل إلى علم الأصوات العربية الفصحى ، الحياة الثقافية ، ص 75
عدد 36 / 37 ، 1985 ، تونس.
8- عمار ساسي : اللسان العربي وقضايا العصر ، ص 82 / 83، دار المعارف للإنتاج والتوزيع
بوفاريك ، الجزائر، 2001م.
9- ابو العباس البرد : المقتضب ، ج1 ، ص 328 ، تحقيق محمد عبد الخالق عظيمة ، 1979م
القاهرة.
10- الخليل بن احمد الفراهيدي : العين ، ج 1، ص 53 / 54، تحقيق مهدي مخزومي، إبراهيم
السامرائي، دار الرشيد، 1981م/ بغداد.
11- سيبويه : الكتاب ، ج 1 ، ص 431 ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، 1977م
القاهرة.
12- كمال محمد بشر : علم اللغة العام الأصوات ، ص 90، دار المعارف ، ط 7، 1980م
مصر.
13- محمد محمود غالي : أئمة النحاة في التاريخ ، ص 47، دار الشروق ، ط1 ، 1976 م، جدة.
14- ابن جني : سر صناعة الأعراب ، ج1 ، ص 46 / 47 / 48.
15- د. إبراهيم السامرائي : الفعل زمانه وابنتيه ، ص 110 ، ط3 ، مؤسسة الرسالة ، 1983
بغداد.
16- نجاة عبد العظيم الكوفي : أبنية الأفعال ، دراسة لغوية قرآنية ، ص 1 ، دار الثقافة للنشر
والتوزيع ، 1989م القاهرة.
17- د. احمد عبد المجيد هريدي : نشوء الفعل الرباعي في اللغة العربية ، ص 33، مكتبة
الزهراء، 1988م ، القاهرة.
18- د. أمين فاخر : ثنائية الألفاظ في المعاجم العربية وعلاقتها بالأصول الثلاثية (دراسة
معجمية إحصائية)، ص 298 ، مكتبة الكليات الأزهرية ، ط 1، 197م ، القاهرة.
19- د. اسعد احمد علي : تهذيب المقدمة اللغوية للعلايلي ، ط 2، ص 99 / 100، دار السؤال
للطباعة والنشر، 1981م ، دمشق.
20- عبد الرحمان دركزلي : الجذر في اللغات لسامية ، ص 61 ، جامعة حلب ، سوريا.
21- جمال الدين عبد الله : شرح الحدود النحوية ، تحقيق وتقديم الدكتور محمد الطيب إبراهيم
ص 68 ، ط 1 ، دار النفائس ، 1996م بيروت.
22- أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد : جمهرة اللغة ، ص 207 ، ج 1 ، طبعة حيدر آباد
1944 هـ.
|