المسرح في التراث العربي
د. محمد سعيد حسب النبي
من أكثر ما حير الدارسين في الأدب العربي وتراثه؛ التساؤل عن الأسباب التي جعلت العرب قديماً سواء قبل الإسلام أو بعده لا يعرفون المسرح ولا يحفلون بالتشخيص الذي عرفه اليونان والرومان والمصريون القدماء وغيرهم من قبل، وقد كثرت الآراء حول هذه المسألة، واجتهد المفسرون في تعليلها وردها إلى أسباب عقلية أو اجتماعية أو تاريخية أو دينية أو لغوية. ومن الذين رأو ا خلو الأدب العربي من أدب المسر ح عباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين وغيرهم.
ومن المسلم به أن من يتأمل الظروف والروح العامة التي تهيمن على كل حضارة بعينها، وتطبع كل عصر بطوابعه المتأثرة بالعوامل الدينية والنفسية والبيئية وغيرها من العوامل؛ سيرى أن خلو الأدب العربي من المسرح لا يقدح في حضارة العرب ولا يمثل نقصاً ظاهراً، كان يتعين عليهم أن يتلافوه، وإنما هي طبيعة ثقافتهم التي لم تكن في حاجة إلى التمثيل بمثل تلك الأشكال التي عرفتها الحضارات الأخرى قبل الإسلام كما يرى محمد يونس عبد العال في كتابه في النثر العربي.
ومن المسلم به أيضاً كما يشير عبد العال أن التراث الأدبي العربي كان حافلاً بالأفكار والصور والملامح الدرامية التي تصلح للمسرح، وقد كثر المهتمون بهذا الجانب المهتم بالمسرح العربي في التراث، وعرضوا الشواهد الدالة على ما ذهبوا إليه، بحيث يبدو أنهم لم يتركوا زيادة لمستزيد.
وقد كان أمين الخولي من الذاهبين إلى أن العرب لم يعرفوا فن المسرح، وقد تتبع القائلين بذلك ومصادر حججهم، وقد عرض ذلك مفصلاً مستنداً على أن كل وجهة نظر مقبولة ولها سندها من الأدلة والبراهين. وقد انتهى إلى أن مثنوية اللغة العربية أدت إلى اختفاء المسرح في الأدب الفصيح؛ فقد كان للناس لغتان: لغة عامة يتعاملون بها في حياتهم اليومية، ولغة رسمية يتدينون بها ويحكمهم من خلالها الحكام. وقد عرض ذلك مفصلاً على النحو الآتي:
"قالوا: إن الحياة العربية ببداوتها لم تُعن على وجود المسرح في الأدب العربي الجاهلي، كما وجد في شبيه هذه الجاهلية عند اليونان مثلاً، وأقول معهم: ربما كان ذلك"
"وقالوا: إن الحياة الاعتقادية العربية تختلف كذلك -بسبب عدم الاستقرار- عن الحيوات الأخرى عند من ظهر عندهم المسرح وراج، لأن صلة المسرح بالحياة الريفية قوية ووثيقة، و حيث لم يستقر البدوي لم تستقر المظاهر التجسيمية في وثنيته، ولم يوجد عنده مسرح، وأقول معهم: ربما كان ذلك"
"وقالوا: إن الأدب العربي الإسلامي قد عرف الأدب اليوناني بالترجمة، ولكنه لم يتعمقه، بل صدف عنه، وعني بالفلسفة، فلم تنقل إليهم الصورة الكاملة عن الحياة الأدبية اليونانية، ولم يفطنوا إلى ما فيها من المسرح والمسرحية والقصة مطلقاً، فلم يعنوا بالمسرح في رواج الأدب أيام العصر الإسلامي المزدهر، وأقول معهم: ربما كان ذلك"
"وقالوا: إن الحياة الإسلامية كذلك في دينيتها لم تكن تعين على وجود المسرح، لأنها لا تجسم، بل فُهم أنها تحرم هذه الملامح الفنية، التي يقوم بها وجود المسرح، فلا هي موسيقية، ولا هي تشكيلية، وما ذهبت به الحياة العملية الإسلامية من هذه الفنون قد كان هو الذي تسمح به الحياة، ولا داعي لما وراء هذا من مخالفات لا توفر اللذة الفردية المباشرة التي يطلبها الأفراد أصحاب الصفة البارزة في هذا المجتمع، ومع كل هذا لا يشيع المسرح، وأقول معهم: ربما كان ذلك"
"وقالوا: إن الحياة الإسلامية الاجتماعية وما يتعلق فيها بمركز المرأة وتصوّنها وحجبها لا يعين على وجود المسرح، وإذا قامت الجواري مقام الحرائر في الميادين الفنية كما عرف؛ فبحسبهن أن يقمن بما يحقق المتع الفردية التي يتطلبها طابع الحكم، وصورة المجتمع، ومع هذا لا يوجد المسرح، والذي هو بطبيعته فن للجماهير والجماعات، وأقو ل معهم: ربما كان ذلك"
"وقالوا: إن الحياة الإسلامية بوضعها السياسي، وما أحدثه من طبقية في المجتمع وفردية في الحكم، لم يكن يهون فيه هذا التجمع الجمهوري لجمهور المسرح ورواده، ولم يكن يسهل فيه ما لا بد أن يكون في التشخيص، من تعرّض للأشخاص، والأوضاع، وتنفس ناقد، على نحو ما يعرف في السامر، وفي المسرح الريفي المكشوف.
والوضع السياسي لهذا المجتمع كغيره من الأوضاع المجتمعية المحكومة بمثل حكمه الفردي المستبد، تحدد التجمع، وتمنعه وتراقبه وتقيده، حتى ليظن أن اشتراطهم الفقهي لوجوب صلاة الجمعة المِصْر أو مصلاة، يعني أن تكون في بلد فيه حاكم سياسي وحاكم شرعي، إنما كان استجابة للوضع السياسي الذي لا يطمئن إلى التجمعات، وكذلك اشتراطهم لصلاة الجمعة الإذن العام بأن تفتح أبواب المساجد، مما يمكن أن يفهم هذا الفهم.
"وفي مجتمع هذا شأنه لا يتيسر أن يعيش فن قوامه التجمع والتجمهر، إلا أن يكون ذلك بلون من التحايل لم يتيسر أن يكون لأصحاب الأدب الرسمي، لأنهم حاشية هذا السلطان، وبقية المظهرية في صورته العملية، وأقول أيضاً: ربما كان ذلك، أو هو قد كان"
ويشير عبد العال في كتابه في النثر العربي إلى أن أمين الخولي لخص جل الآراء المعروفة المتداولة التي افترضها الدارسون ممن يعنون بالحديث عن الأدب المسرحي واختفائه من آداب اللغة العربية قبل الإسلام، وذلك لأن الحياة البدوية لم تكن ريفية مستقرة، وقد استتبعت أيضاً حياة اعتقادية وثنية لم تكن مظاهرها التجسيمية مستقرة، أما بعد الإسلام، فلم يكن ثمة تحبيذ للتجسيم ولا ظروف ملائمة تسمح للمرأة المتصونة المحجوبة بأن تشارك في الميادين الفنية. وقد بدا أن العرب لم يعرفوا أو لم يفطنوا -كما يرى عبدالعال- إلى كل ما ترجموه من الأدب اليوناني، والأخطر من ذلك كله أن الحياة الإسلامية السياسية كما رأى بعضهم قد اتسمت بالطبقية واستبداد الحاكم الفرد الذي يأبى أن يتعرض له أحد بالنقد، ويمنع التجهمر أو التجمع ويراقبه ويقيده.
ولكن أمين الخولي مع إقراره بأن هذه النظرات والآراء مما لا يمتنع قبوله، يرى أن ثمة واقعاً أدبياً مباشراً أغفلوه ولم يعيروه اهتماماً يفسر مسألة المسرح في الأدب الرسمي الفصيح، "ذلك الواقع هو مثنوية اللغة التي اضطر هذا الشعب إلى مواجهتها لأسباب لغوية واجتماعية في تكوينه الذي تم في ظل الحكم الإسلامي وتوسعه وجمعه شعوباً مختلفة الألوان والألسنة"
ولذلك كان في المجتمع منذ البدايات الأولى للتاريخ الإسلامي مستويان للغة: لغة عامة يعيش بها المجتمع وينشط ويتفنن، ولغة رسمية أو فصيحة؛ لأن لغة القرآن كتاب الإسلام، يتدين بها ويحكمه بها الحاكمون، ولذلك فهي لغة منعزلة عن الحياة.
"وأصحاب هذه العزلة النفسية هم رجال السياسة الذين ينظرون من عل إلى هذه الجماهير المحكومة، ويقولون في سذاجتها وجهالتها ما سار من أقوال مشهورة، ويسندهم رجال في ذلك رجال الدين، بحكم هذا التعاون بين السلطتين الذي عرفته الحياة في مختلف صورها"
ويخلص أمين الخولي في تحليلاته عند الفروق بين العامية والفصحى–كما يرى عبدالعال في كتابه في النثر العربي- إلى القول بأن أولاهما هي التي ذهبت بمطالب النشاط الوجداني للناس متمثلة في أغاني المناسبات كالأفراح والتأبين، ومواسم الزروع والحصاد ومواسم الحج وصوم رمضان، وفي مجالس السمر عامة والقصاصين والموسيقيين المتجولين، وغير ذلك "من ظواهر التشخيص وعمل المسرح، وتؤديها لغة الحياة، ويتهيأ فيها الاجتماع الذي تتطلبه، والساحات الشعبية، والمقاهي العامة، والشوارع السلطانية، وكل أولئك يفلت من الرقابة قهراً.
فالسبب في عدم وجود المسرح في الأدب الرسمي هو موقف اللغة الفصيحة من الحياة، وما قضى عليها به من عزلة، أما في الأدب العربي الشعبي فقد وجد المسرح بصورة أو بأخرى. ولا شك في أن رأي أمين الخولي لم يحل المشكلة حلاً مُرضياً، ولكنه أضاف سبباً آخر وجيهاً كما يرى عبد العال، ينضاف إلى الأسباب الأخرى التي أفاض في ذكرها المفيضون.
|