غالية خوجة
تولي الإمارات العربية المتحدة، اللغة العربية اهتماماً بالغاً، لأسباب عديدة، أهمها منهجيتها في الانتماء إلى الأمة العربية، والمحافظة على الهوية، والإحساس الحضاري المشترك، مع تفعيل الإيجابية المنتجة إرثاً ومعاصرة وحداثة، بطريقة مستدامة، محورها استشراف المستقبل.
وهذا ما انتهجه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه»، وما تواصله القيادة الرشيدة، في مجمل الإمارات العربية المتحدة السبّاقة بالمشاريع والمبادرات والرؤى الحافلة بتأسيس الإنسان، وإطلاق طاقاته الإشراقية من الإمارات إلى العالم التي تحتفي هذا العام بالتسامح كقيمة عربية وإنسانية عليا.
واحتفاء بيوم اللغة العربية في 18 ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي تم فيه الإقرار عام (1973) اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة، ويحتفي به العالم العربي، كما تحتفي به اليونسكو.
ولأن اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ويتحدثها أكثر من (422) مليون نسمة، إضافة لعدد كبير من متعلميها من الناطقين بغيرها، ولأهميتها الحضارية الدائمة، فإن الإمارات العربية المتحدة، أطلقت العديد من المبادرات والمشاريع في مجال اللغة العربية، حفاظاً على اللغة العربية، والهوية العربية، واستمرارية النهوض الحضاري علمياً، ومعرفياً، وثقافياً، واجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وهذا ما أكده الأب المؤسس، وأكده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله: «اللغة العربية هي قلب الهوية الوطنية ودرعها وروح الأمة وعنصر أصالتها ووعاء فكرها وتراثها»، وهذا ما يجسده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، القائل: «لغتنا العربية هي لغة حية غنية نابضة بالحياة بقيت محافظة على أصالتها لأكثر من ألفي عام، وتتميز بقدرتها على مواكبة الحاضر والمستقبل، والمساهمة في الحفاظ على اللغة العربية هي قيمة إسلامية وفريضة وطنية وترسيخ لهويتنا وجذورنا التاريخية».
وهو ما شدد عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بقوله: «إن العالم يحتفي باللغة العربية باعتبارها إحدى اللغات الرئيسية العالمية، بما تملكه من حضور وفصاحة وبلاغة وبيان»، مشيراً سموه إلى أهمية حماية اللغة العربية والنهوض بها وتعزيز حضورها في المبادرات والمشاريع الثقافية الرائدة.
ميثاق ومعاهد
ومن مبادرات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد المهمة المتنوعة، «ميثاق اللغة العربية»، الذي أعلنه سموه في أبريل عام (2012)، من أجل حماية اللغة العربية، وتعزيز مكانتها وحضورها في المجتمع والحياة العامة، وأطلق هذا الميثاق الذي يعتبر مرجعاً لجميع السياسات والقوانين الحامية للغة العربية، عدة مبادرات، منها الإعلان عن المجلس الاستشاري للغة العربية، الراعي والداعم للجهود الهادفة لتطبيق مبادئ وتوصيات ميثاق اللغة العربية، ويرأسه وزير الثقافة وتنمية المعرفة، كما أعلن الميثاق عن تشكيل لجنة خبراء عربية دولية، تهدف إلى إعادة إحياء اللغة العربية لغة للعلم والمعرفة، وتحديث أساليب تعليمها بين مرسل ومرسل إليه.
وتضمن الميثاق تنظيم مسابقات مدرسية في المدارس الحكومية والخاصة، من أجل إبراز المبدعين والمتميزين في اللغة العربية ورعايتهم، وتتنوع المسابقات بين الكتابة والقراءة والشعر العربي والخط العربي، وتشرف على هذه المسابقات وزارة التربية والتعليم.
ومن أهم تلك المبادرات، نذكر تأسيس «معهد للغة العربية لغير الناطقين بها»، عن طريق جامعة الشيخ زايد، ويتعامل هذا المعهد مع الجامعات المتخصصة حول العالم، لإيفاد الطلاب والبعثات لعلم اللغة العربية في الإمارات العربية المتحدة.
ومبادرة تأسيس «كلية للترجمة» ضمن كلية محمد بن راشد للإعلام في الجامعة الأميركية بدبي، ومبادرة معجم محمد بن راشد للغة العربية المعاصرة، والذي يعتبر مرجعاً أساسياً للدارسين والمدرسين والباحثين والمستشرقين والمستعربين، ويهتم بتأصيل اللغة العربية والبحث في مفرداتها سنوياً، جملة وتفصيلاً كلغة معاصرة وبأسلوب معاصر.
ومبادرة «جمعية حماية اللغة العربية»، الموزعة على (12) مساراً، منها أن تكون العربية لغة الحياة في المعاملات الحياتية والعلاقات الاجتماعية كافة، والعمل على استمرارية التعريب في المجالات كافة، بما في ذلك اختبارات الطلاب، وإيجاد شهادة مؤهلة للطلاب لدخول الجامعات لتكون اللغة العربية جوازاً للمرور إلى الجامعات، وتعريب المصطلحات العلمية والأدبية والمعرفية والثقافية والطبية والهندسية وسواها، وإنشاء جمعيات مصغرة باسم «أصدقاء اللغة العربية»، في المدارس والجامعات والمعاهد، وصقل المواهب من خلال برامج تشجيعية، بالتعاون مع وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، والتركيز على المراكز الثقافية، سواء في رياض الأطفال، أو في المؤسسات الأخرى الحكومية والخاصة.
مؤتمر وجائزة
كما يعقد سنوياً في دبي «مؤتمر اللغة العربية» الذي يناقش مئات الأبحاث العلمية في اللغة العربية، ويشارك فيه ممثلون عن مجامع اللغة العربية ومختصون في اللغة العربية والعلوم الأخرى، وتتطرق محاورها إلى العديد من القضايا المهمة، مثل: الاستثمار في اللغة العربية ومستقبلها الوطني والعربي والعالمي، وجماليات لغة الضاد، وكيفية تطوير واقعها من خلال الوقوف على التحديات ومواجهتها ومعالجتها، واستقراء قضايا اللغة العربية، وكيفية تطويرها نظرياً وتطبيقياً، سواء على صعيد المفاهيم، والمناهج التعليمية، والعلمية، والمعرفية والثقافية والأدبية والتكنولوجية.
بينما تبرز جائزة محمد بن راشد للغة العربية كجائزة متفردة للمساهمين في رفعة اللغة العربية في العالم، هادفة إلى المزيد من الاكتشاف المعرفي باللغة العربية، وذلك ضمن (10) فئات، استهدفت العديد من المجالات، منها البرامج التلفزيونية، والتشجيع على ثقافة القراءة، وأفضل مشروع تعريبي، وأفضل مبادرة وبرنامج أو مشروع لتعليم اللغة العربية في مؤسسات التعليم العالي، وأفضل مبادرة لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وأفضل مبادرة على صفحات التواصل الاجتماعي من أجل نشر اللغة العربية، وأفضل تطبيق ذكي لتعليم لغة الضاد، وأفضل موقع إلكتروني، وأفضل مبادرة للحفاظ على التراث العربي اللغوي.
وتتمتع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، بالعديد من المبادرات، منها مبادرة «بالعربي»، التي هي بالأصل فكرة مجموعة من طلبة الجامعات، ليعبروا عن حبهم للغة العربية، وتستمر فعالياتها لمدة أسبوع بدءاً من يوم الاحتفاء باللغة العربية عالمياً، موظفة الوسائل التقنية الحديثة لخدمة اللغة العربية والتواصل بها عبْر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وهي مبادرة متواصلة إلكترونياً، وتطرح أسئلة باللغة العربية.
ومشروع «قنديل» للطباعة والنشر، ومؤتمر مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة الذي يناقش بمنهجية تطوير المعرفة واستثمارها وبرامجها في كافة المجالات لتكون لغة الفرد والأسرة والمجتمع والعلم والمعرفة.
وضمن هذه الثورة التكنولوجية حقق «خط دبي» في العالم إنجازاً للغة العربية، إضافة إلى الحملات الإلكترونية المتنوعة لتمكين المحتوى العربي على الشبكة الإلكترونية.
سياسات حكومية
ولا بد من الإشارة إلى الفعاليات الأخرى المحتفية باللغة العربية، المتمحورة حول مواضيع عديدة، كالعلوم والتخطيط اللغوي، ودوره في تعميم الهندسة اللغوية واللغة العربية، وتوظيفها في التكنولوجيا الحديثة، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في تعليم ونشر وانتشار اللغة العربية، مع كيفية تطوير اللغة العربية كلغة للحاضر والمستقبل.
ومن تلك المبادرات، اعتماد اللغة العربية في التعاملات الحكومية الداخلية والخارجية، وضرورة إعطاء الأولوية للغة العربية في كافة مناحي الحياة، بدءاً من البيانات والمعلومات الموجهة للمستهلك، عبوراً إلى المواد الإعلامية المعروضة على القنوات التلفازية، والشاشات الالكترونية، وغيرها.
ويساهم في هذا المجال مجلس الشيخ محمد للسياسات من خلال مبادرته الإلكترونية، الهادفة إلى تعزيز اللغة العربية على الشبكة المعلوماتية من أجل النهوض بها وتطويرها، ويشرف على هذه المبادرة صندوق نظم المعلومات التابع للهيئة العامة للاتصالات، بالتعاون مع المؤسسات والأفراد المختصين والمهتمين في هذا المجال.
وفي مجال الاهتمام المميز بلغة الضاد، نجد «لجنة تحديث تعليم اللغة العربية» التي شكلها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، من خبراء تربويين وأكاديميين وسياسيين وإعلاميين بارزين لتقدم تقرير شامل عن تحديث تعليم اللغة العربية، واقتراح أساليب تعليمية وآليات متطورة لمناهج جديدة للغة العربية تعلماً وتعليماً، ويرأسها عالم الفضاء العربي فاروق الباز.
وللمجلس الاستشاري للغة العربية دوره المهم في مبادرة عام الهوية التي ساهمت في نشر اللغة العربية بطريقة محببة ومعززة للهوية الوطنية، إضافة إلى توليه اقتراح ومناقشة المشاريع المرسخة للغة العربية، وجهوده في الحفاظ عليها، ودعمه للمبادرات المطبقة لتوصيات ميثاق اللغة العربية، والتنسيق بين الجهات الحكومية والخاصة لتطبيق الميثاق.
تحدي القراءة
وتعتبر مبادرة «تحدي القراءة العربي»، من المبادرات المهمة في تجذير «ثقافة القراءة» التي من الممكن أن تنجز مبدعين مستقبليين في المجالات كافة، وهي المبادرة العربية الأولى من نوعها التي أشركت جميع الطلاب في العالم العربي، والعالم، في هذا التحدي، الذي رفع نسبة القراءة بالملايين بين الطلاب العرب داخل الوطن العربي وخارجه، مفعلاً الطاقات العقلية التي سجلت أرقاماً مرتفعة على صعيد الطلاب المشاركين والكتب المقروءة في كافة المجالات المعرفية والعلمية والثقافية والأدبية والاجتماعية والنفسية، منجزة أهدافاً متعددة، منها الاهتمام باللغة العربية قراءة وكتابة وتفكيراً، تفعيل دور النشر، تفعيل ذائقة القارئ، اكتشاف مواهب أدبية وعلمية وإعلامية وثقافية بين الطلاب المشاركين، والذين تضمهم المبادرة منذ الصف الأول الابتدائي ولغاية الثاني عشر، إضافة إلى اتساع المبادرة لتشمل الطلاب الجامعيين أيضاً.
وتتناغم جميع هذه المبادرات في كافة أرجاء الإمارات من خلال المشاريع والبرامج والفعاليات والمؤتمرات الأخرى، وتجسدها الأنشطة المتواصلة على مدار العام، سواء في معارض الكتب، أو المكتبات، أو الأمسيات والندوات والجلسات الحوارية وورش العمل الثقافية والعلمية والأدبية والفنية، إضافة إلى معارض الفن التشكيلي المهتمة باللغة العربية وحروفياتها وخطوطها ومعانيها النورانية المتألقة دائماً.
وأخيراً، لا بد من دور فاعل للإعلام في مجال اللغة العربية، ليكون متضافراً مع البنية التكاملية الهادفة للنهوض المستمر والمتواصل باللغة العربية، وهكذا، فإن دور اللغة العربية الفاعل يكتمل ويتكامل في الحياة الإنسانية، داعماً حوار الحضارات والثقافات والشعوب من أجل السلام والأمان والتسامح والمحبة، وهذا ما تجسده الإمارات العربية المتحدة.
الاتحاد