بين الفرنسية والإنجليزية والعامية.. جدل مستمر حول لغة التدريس في المغرب
وداد الرنامي
لم تفتأ لغة التدريس تثير جدلًا واسعًا في المغرب وسط النخب المثقفة منذ استقلال المملكة عن فرنسا، حتى اليوم.
وتجدد الجدل في الوقت الراهن بعد أن شرع البرلمان المغربي في مناقشة القانون المتعلق بمنظومة التربية والتكوين العلمي، والذي أشار في ديباجته إلى “اعتماد التعددية والتناوب اللغوي”.
لغة المستعمر
في العام 1958 أبرم المغرب وفرنسا اتفاقية تتيح لفرنسا إمكانية فتح مدارس بالمغرب، وهو ما رفضه آنذاك رواد الحركة الوطنية، الذين دعوا إلى “تعريب ومغربة” الحياة السياسية والثقافية في البلاد.
وأبرز رواد الحركة الوطنية وقتها كان الزعيم علال الفاسي، الذي قال إن”هيمنة الفرنسية أو أية لغة أجنبية على مجال التعليم، والإدارة أو على أي قطاعات أخرى، من شأنه القضاء على اللغة العربية، وهو المرمى الذي يدافع عنه ورثة الاستعمار”.
حاول المغرب منذ 1977 تعريب إدارته ومناهجه التعليمية، لكن خطواته في هذا المجال ظلت متعثرة، وبقيت المواد العلمية والتكنولوجية والرياضيات تدرس باللغة الفرنسية في التعليم الثانوي حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي، حينها اعتمد تدريسها بالعربية من الابتدائي حتى الثانوية العامة، مع استمرار تدريس العلوم والاقتصاد والطب والهندسة باللغة الفرنسية في جميع جامعات المغرب.
إلا أن التجربة اصطدمت بمجموعة من المشاكل، على رأسها العراقيل التي يواجهها الطلبة المغاربة الذين تخصصوا في المجال العلمي، عند قيامهم بمتابعة دراستهم العليا خاصة خارج المغرب، إضافة إلى متطلبات سوق العمل والمعاملات التجارية الدولية.
اتخذت وزارة التربية في المملكة المغربية قرارات كثيرة تهم إصلاح المنظومة التربوية، وكان آخرها قرار تدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية، بشعبتي العلوم والتكنولوجيات الميكانيكية والعلوم والتكنولوجيات الكهربائية باللغة الفرنسية، ابتداءً من الموسم الدراسي 2016/2017.
واجه القرار آنذاك الكثير من الانتقادات، واعتبر أنه ينتهك الدستور المغربي، بانقلابه على الهوية المغربية، رغم أنه صادر عن وزارة تنتمي إلى حكومة يقودها حزب إسلامي.
آخر المنتقدين للقرار كانت حركة التوحيد والإصلاح “الذراع الدعوي لحزب العدالة و التنمية”، التي أصدرت بلاغًا على هامش النقاش الحالي لمشروع القانون بالبرلمان، عبّرت من خلاله عن انزعاجها من سياسة الأمر الواقع التي تنهجها الوزارة بفرضها التدريس باللغة الفرنسية.
ودعت الحركة “مختلف الفاعلين للحرص على التزام مشروع القانون الإطار بالثوابت الوطنية الجامعة، وخاصة ما يتعلق بإعطاء المكانة اللازمة للغتين الرسميتين (العربية والأمازيغية) في إقرار لغة التدريس. والتأكيد على ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية باعتبارها لغات مُدرَّسَة”.
الإنجليزية كحل بديل
لكن جيل القرن الواحد والعشرين تجاوز هذا النقاش كله، وبدأ يطالب بالتدريس باللغة الإنجليزية، خصوصًا وأن شريحة عريضة منه ضعيفة جدًا في اللغة الفرنسية، لتقلص مساحة التعامل بها في المناهج التعليمية، باستثناء فئة التلاميذ الذين تلقوا دراستهم في مدارس أجنبية أو في مؤسسات خاصة.
كما أن الكثير من المؤسسات الخاصة والعامة صارت تشجع العاملين بها على تطوير لغتهم الإنجليزية من خلال دورات تكوينية؛ بسبب انفتاح المغرب على أسواق وشركات عالمية.
وفي ذات السياق، أصدر مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية تقريرًا، في وقت سابق، حول لغات التدريس في منظومة التعليم المغربية، رأى فيه أن المغرب بات ملزمًا باعتماد اللغة الإنجليزية في النظام التعليمي كلغة ثانية بعد اللغة العربية، “أملًا في أن تخطو البلاد إلى الأمام”.
واعتبر أن اللغة الفرنسية تراجعت في العالم، “وصارت عبئًا على الثقافة المغربية وتضييقًا لمجال الانفتاح على شعوب العالم، ذلك أن لغة التداول والعلم العالمية هي الإنجليزية، ثم إن المجلات العلمية المفهرسة دوليًا تصدر جلها بالإنجليزية”.
اعتمدت وزارة التربية والتعليم المغربية العام 2015 نظام المسالك الدولية في البكالوريا، ومنها مسلك اللغة الإنجليزية، لكنه مسلك محدود الاستقطاب، حيث يدرس التلاميذ المواد العلمية باللغة الإنجليزية مع الرفع من حصص هذه اللغة، إضافة إلى فرض تدريسها ابتداءً من المرحلة الإعدادية بدل الثانوي.
كما أن وزارة التعليم العالي في الحكومة السابقة عممت مذكرة على الجامعات المغربية بشأن اعتماد الإنجليزية في مناقشة بحوث الدكتوراه، ونص القرار على شروط جديدة لقبول أطروحات الدكتوراه، منها نَشر مقالة واحدة على الأقل بالإنجليزية واعتماد مراجع بهذه اللغة وإنجاز ملخص الدكتوراه بالإنجليزية.
“الدارجة” المغربية
تحول موضوع لغة التدريس بالمغرب من نقاش للنخبة إلى جدل وسط عامة الشعب، بعد ظهور كلمات من “الدارجة المغربية” (العامية) في المقررات الدراسية، حيث قوبلت بموجة عارمة من السخرية.
لكن ظهور “الدارجة المغربية” في المقررات الدراسية لم يأتِ من فراغ ، فقد طالبت فئة قليلة من المثقفين المغاربة بتبني اللغة العامية كلغة للتدريس، أبرزهم نور الدين عيوش الذي كان عضو اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج والتكوينات والوسائط التعليمية، وهو خبير في الإعلام والتواصل.
وكان عيوش قد رفع مذكرة بهذا الشأن إلى ملك البلاد، من أهم ما ورد فيها إعادة استعمال الدارجة أو العامية المغربية في التعليم الأولي.
الطرح قوبل بالرفض أيضًا من طرف الأكاديميين، لعدة اعتبارات، منها أن ذلك سيدفع المغرب والمغاربة إلى الانغلاق على أنفسهم، كما أن اللغة العامية المغربية متعددة الأشكال واللهجات وتختلف من منطقة لأخرى، سواء العربية منها أو الأمازيغية.
وشبّه عبد الصمد بلكبير، عضو الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، الوضع حينها في المغرب “بما عرفته العديد من دول المشرق العربي في القرن 19 من دعوات أخذت صيغًا متعددة، تناولت الكتابة بالحرف اللاتيني بدل الحرف العربي، وتبنت خطابًا إصلاحيًا للغة يصل إلى مستوى التنازل عن الفصحى واصطناع عربية فصحى جديدة من الدارجة، غير أن هذا الخطاب في النهاية فشل في المشرق العربي سواء في العراق أو في مصر أو لبنان، وبالتالي مآله في المغرب أن يفشل”.
واستمر الجدل بخصوص التدريس باللغة العامية في المغرب لفترة طويلة ، قبل أن يحسم رئيس الحكومة سعد الدين العثماني النقاش بالتأكيد على تمسك الدولة باللغة الفصحى وعدم استخدام اللهجة العامية في التعليم.
إرم