للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

روعة اللغة العربية - 3

أ. د. يحيى صالح دحامي


الفارس والشاعر عروة بن الورد العبسي من قبيلة عبس هو أحد أكثر الشخصيات المؤثرة والمشوقة لما قام به من مآثر خالدة ومثل ذلك لفصاحة القول تعبيراً يسلب لب السامع من تأثير النفس لما تسمع من حكمةِ القولِ المرتبط بالواقعِ المعاشِ، عاش عروة بن الورد في فترة زمنية ليست بطويلة قبل مجيئ الإسلام ورسالته التي بُعث بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي كان عروة يتوق إليها ويرجو تغير واقع مجتمعه إلى مجتمعٍ متراحمٍ متعاطفٍ يُؤِثرُ على نفسهِ ويكرمُ ويجودُ مما استُخلِفَ من مالٍ، اكتسب عروة بن الورد سمعة وشهرة عظيمة وغامرة وتاريخية ومجيدة في عصره وبعد زمانه من خلال موهبته الشعرية وشجاعته وكريم نخوته، وإحسانه العارم وجوده وخيريته وسخائه كما كانت طبيعة وماهية وفطرة كُرَمَاِ العرب.

كان هناك إيمانٌ عميقٌ لدى شعراء الصعاليك العرب وأمراء الغارات أن ما يحصلون عليه من النعم والغنائم نتيجة لغزواتهم وغاراتهم هو حقٌ من حقوقهم الذي منعهم إياه البخلاء من الأغنياء، كون زعماء العشائر كانوا غالباً ما ينظرون إلى الصعاليكِ، قبل أن ينخرطوا في هذا المجال وينعزلوا عن قبائلهم وعشائرهم، هو أنهم كانوا يعاملون بدونية وأنهم كانوا مجرد خدمٍ أو عمالة عادية ليس لديهم أو لهم الحق في منافسة الأسياد في المكانة أو في الممتلكات، ونتيجة لذلك الشعور بالظلم ترسخت لديهم تلك القاعدة والتي مفادها أنهم يحصلون على ما يغنموه كحق منحهم الله إياه ومنعهم إياه الأغنياء البخلاء، وبذلك ندرك ما ترسخ في نفوسهم وعقلياتهم وانعكس في سلوكهم أن الله قد أرسل لهم هذا الرزق حتى ولو من خلال مداهمة من يعتقدون أنهم السبب في ما وصلوا اليه، وجعل ذلك سبباً وحجةً لهم، في البيتين التاليين يصور لنا عروة بن الورد جانياً من هذا المشهد، الذي يقول فيهما:
لعلّ انطلاقي في البلاد وعزمتي وشديّ حيازيم المطيّة بالرحـل 
سيدفعني يوماً إلى رُب هجـمة يدافع عنها بالعقوق وبالبخـل 
تتجلى بلاغة الشاعر والفارس عروة بن الورد اللغوية في البيتين أعلاه، مثل معظم أشعاره المعبرة بمعانيها العميقة، في إبراز لوحة خلابة في الاستخدام اللغوي ذات الدلالة الشعورية الفائقة، واقعياً نعرف أن الشاعر هدفه الغزو والاغارة من أجل إعالة من يحتويهم من الفقراء والضعفاء وجزء يسيراً من ذلك لأهله، لكنه يختار مصطلحات تعبيرية بعيدة نوعاً ما عن الحرب والصراع والقتل والأسر والسلب والاغارة ويستبدل كل تلك الاصطلاحات بعبارات ذات مدلول جمالي آخر وكأن الشاعر يوحي أنه خارجاً للنزة أو للصيد والاستمتاع بالتجوال في أراضٍ مختلفة، البيت الشعري الأول يوحي بذلك من خلال قوله ’انطلاقي في البلاد‘، ومثل ذلك قوله ’بالرحل‘، فهذه المصطلحات تشير بشكل واضح إلى أن الشاعر نيته التجوال ومتعة الرحيل، لكن البيت الأول يصطدم بالبيت الثاني الذي يتحول مباشرة الى توضيح الهدف من الانطلاق، ألا وهو مهاجمة أصحاب الأموال من البخلاء الذين لا يعرفون للجود والكرم والسخاء طريقا. 
البيتان أعلاه يوضحان استعداد الفارس للانطلاق في مسعاه، وهنا إشارة إلى قائد وأمير الصعاليك عروة بن الورد نفسه، الذي يخبر أعضاء مجموعته وكل من يستمع إلى شعره قائلاً: من المحتمل أن مسعاي وهمتي بالسير وتحكمي بالخيل التي أمتطيها وأقودها راحلاً ومرتحلاً من مكان إلى آخر وفي أراض متنوعة والنابع من قرارٍ حازم ومؤكد بشد سرج الخيل، كل هذا سيدفعني إلى شن هجوم متوقع ضد أولئك الذين لا من خصائصهم ولا سجاياهم الشعور بالأخرين ولا يعترفون بالامتنان أو الفضل بل يتصفون بالجحود ونكران الجميل، وسلوكهم جاف، فظ، خشن، وأسوأ من ذلك هو اتصافهم بالشح والبخل، فردت الفعل لمن كانت هذه بعض صفاتهم، لا شك في ذلك، أنها ستقود الشاعر الفارس إلى شن هجوم ضدهم، والشاعر يشير أيضاً إلى أن أسواء صفات أولئك تتمثل في العناد والبخل.
من الجائز أن الشاعر في البيتين السابقين يريد القول أن استعداده وتهيئته للرحيل والانطلاق نحو أفاق الحياة مثل الرحّال الذي يجوب الأرض إما لغرض الترويح عن النفس واكتساب المعارف وإما لكسب الرزق وهذا هو أرجح التفسيرات ولكن بطريقة غير مباشرة حيث أن شاعرنا وفارسنا الصعلوك النبيل أبن الورد اَلمحَ إلى استعداده للغزو ولكن بطريقة أراد أن يجعل معنى الغزو والاغارة عمل نبيل مقبول ومشروع له ولرفاقه كأنه ذاهبٌ في رحلةِ صيدٍ، وهو بذلك يُلمحُ إلى أن الغزو والإغارة بالنسبة له شيء غير ذات صعوبة وأن قدرته وامكانيته تجعل غزواته كأنها رحلة صيد واستكشاف، هذا ما يخص البيت الأول والذي يستمر فيه الغموض وعدم الاكتمال إلا بعد ربطه بالبيت الثاني الذي من خلاله تتضح رؤية ومغزى الشاعر عندما يخبرنا أن ربط الاحزمة للمطية إنما ذلك مسعاه، الغزو وشن الغارات والهجمات ليس على أعداء القبيلة وإنما على أعداء الكرامة والجود والسخاء ممن طبعهم البخل والشح سوأ من داخل عشيرته وقبيلته أو من خارجها، هذا هو هدف أمير الصعاليك عروة بن الورد الذي هيئ الاستعدادات الذهنية لدى المستمع بإبراز وإظهار صورة بديعة مليئة بالمحسنات اللغوية مثل قوله ’رب هجمة‘ وقبلها ’ لعلّ‘ ومفادها كما ذُكِرَ آنفاً أن هدفه الظاهري هو عدم سعيه للغزو  ولكن ذلك لا يمنع إخفاء ما يبطن مثله مثل المحارب الذي لا يصرح متى يبدأ المعركة.
حَمَلَ عروة بن الورد، كإنسان لديه شعور الإنسانية، مسؤولية أخلاقية نحو كل من يقصده من الفقراء والضعفاء والمعوزين وذوي الحاجة واستطاع أن يجعل منهم كتيبةً من الفرسان، تمكن بهم ومن خلالهم أن يغّير أحوالهم من الضعفِ إلى القوةِ ومن الدونيةِ إلى الصلابةِ وجَعَلَ لهم مكانة تَقُضُ مضاجع قبيلته والقبائل المجاورة الذين ضاقوا بهم ذرعاً وتبرؤوا منهم، ونتيجة لفقرهم وتخلي عشائرهم عنهم لُقبوا بالصعاليك، ومهما يكن من سوءِ تصرف البعض منهم كبشر لهم نزعات وعواطف مختلفة، فالفضل يعود للشاعر الإنسان والفارس - ابن الورد العبسي - الذي يوردُ لنا المؤرخون وفقهاء اللغة والأدب جانباً واسعاً من صفاتهِ النبيلة التي أراد أن يشكل منهم قوة انتزاع الحق من الباطل ولو بالقوة، فقد كلفَ نفسهُ للمهمةِ الصعبةِ والمتمثلةِ في استغلالِ طاقات وقدرات جماعته لتوظيف مآثرهم وتوجيهها نحو الذين يحتاجون إلى العون ومد يد المساعدة، إن هذا هو مسلكهُ مع رفاقهِ الذي جعله يُلَقبُ ’بعروة الصعاليك‘.
 يذكر لنا الناقد الدكتور شوقي ضيف في كتابه تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي ’أن عروة كان صعلوكاً شريفاً، وأنه استطاع أن يرفع الصعلكة (قولاً بشعره وعملاً بمآثره) وأن يجعلها ضرباً من ضروب السيادة والمروءة، إذ كان يستشعر في قوة فكرةَ التضامن الاجتماعي وما يطوي فيها من إيثار وبِرًّ بالفقراء فهو لا يسعى لنفسه فحسب وإنما يسعى قبل كل شيء للمعوزين من عشيرته حتى يدفع عنهم كل ما يجدون من بؤس وشقاء‘ (أنظر ص 387)، عروة فارس سماته الصدق في القول والعمل ولديه الرغبة في رفع الظلم من على كاهل الفقراء وكسر قيوده والرفع من ازرهم ليجعلهم يتبوؤون شكلاً من أشكال السيادة، وكان أكثر ما يشده بقوةٍ هو فكرة الائتلاف والتضامن الاجتماعي بما يضفي عليهم نوع من التضحية والإيثار فيما بينهم.
ووفقًا لرأي آخر فإن عروة قد اكتسب أحد ألقابه، من المحتمل، بسبب الأبيات التالية التي قالها مصورا أتباعه، رافعاً بعضهم وحاطاً بعضٌ آخرين، فيقول:
لحى الله صعلوكًا إذا جن ليلُه مُصافي المُشاشِ آلِفًا كلَّ مَجِزَرٍ
(ينظر في كتاب خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، 2000، لعبد القادر البغدادي ص 13، وايضاُ كتاب الأغاني 2008 للأصفهاني، ومثل ذلك ديوان عروة بن الورد 1998)، يبدأُ الشاعرُ في الإخبارِ عن نوع من الصعاليك حيث يشير البيت إلى سبِّه ولعنهِ، ليُعلِن أننا أمام فرد ذو سمات مذمومة محتقرة، فهذا النوع من الصعاليك إذا ولج عليه الليلُ تراه وفي فمه العظام مصاً لها كأنه العاشق لها، ومن السمات لهذا الصعلوك المنبوذ من شاعرنا ومن كل من يأنف الدونية أنه تعوّد وألِف المواضع التي تذبح فيها الإبل والأغنام، منتظراً ما يجود به الآخرون من عظامها وشيء من لحمها.
تفرد الشاعر النبيل أبو الصعاليك عروة بن الورد باستخدام مصطلحات لغوية عربية معبرة عن ابداعات شاعر أصيل، ويجوز لمن اطلع على سيرته الحياتية الشعرية منها والبطولية أن يطلق عليه أنه من الشعراء العرب الفحول في حقبة ما قبل الإسلام، عروة هو أبو الصعاليك ولكن أي نوع من الصعاليك أطلق عليه هذا اللقب؟ إنه عروة الصعاليك، اسم على عكس المسمى، إنه لقب والسلوك إلى الضد يتجه، إنه أتجاه النبل والشهامة والكرم والجود والسخاء والتضحية والإيثار.
 كل هذه الصفات النبيلة كان لعروة بن الورد نصيب الليث منها حيث يتضح من البيت الشعري أعلاه الفرق بين صعلوك وآخر، كما يشير عروة أنه ليس من العيب أن يكون المراء صعلوكاً بمعنى الفقير ولكن العيب كل العيب أن يكون المراء متصف بتلك الخلات التي ذكرها عروة في هذا البيت وهي أنه ذلك الفقير الذي يرضى على نفسه الذل والمهانة وهو الذي صفاته الأقرب من صفات  اللصوصية، استخدم الشاعر مصطلح ’لحا الله‘ ليوضح ويشير إلى نوع من اللوم الموجه إلى طائفة من الصعاليك الذين يرضون بحياة البؤس وإذا قاموا بالإغارة فإنهم يغيرون في الظلام ويقبلون بالمشاش أي سقط المتاع، عروة ينكر على هذه الطائفة سلوكها، ومن خلال هذا البيت المؤثر يؤكد شاعرنا النبيل مدى احتقاره وازدراؤه ورفضه لمن ينأى بنفسه عن معالي الأمور ويقنع أن يعيش عالةً واتكالي على غيره.
لم يكتفي الشاعر الفارس عروة بن الورد بالتصويرُ الفعلي واختيار المشاهد بعنايةٍ واهتمام بل جعل ذلك سمةٌ واضحة، ومثل ذلك فهو لم يلجأ إلى الوصف التقريري لذلك الصعلوك الذي وَسمه بالأنانية والكسل والطمع وذلة النفس وهوانها؛ وإنما أتى بالأدلة، وفقاً لتصوره، التي تُجسِّد تلك الصفات، من خلال عرض ما يعمله في يومٍ كامل من بداية الليل وفي العشاء وفي الصباح حتى الضحى، وتصوير ذلك في قوله:
يُعُدُّ الغنى من (نفسه) دهره كلَّ ليلة   أصابَ قراها من صديقٍ ميسِّرِ
هذا البيت له صورتان من حيث الاقتباس فالأصفهاني نقل التالي "يُعُدُّ الغنى من دهره" اما في ديوانه فنجد "يُعُدُّ الغنى من نفسه"، ومهما يكن فالمعنى للمصطلحين المختلف حولهما – دهره و نفسه – يبدو متقارب ولا يخل بالمعنى العام للبيت، فكلمة ’دهره‘ تعني الشاعر وحياته ونفس المعنى ينطبق على كلمة ’نفسه‘، ويشير الشاعر عروة بن الورد  أن الغنى عند هذا النوع من الصعاليك وهو المنبوذ أن يعطيه صديقه الغني ما يُشبِع به بطنه، ومن طبيعته أنه لا يشعر بفقراء قومه، فهو قليلاً ما يطلب المال لغيره وإن طلبه فهو يطلبه لنفسه.
ويستمر الشاعر في وصف النوع السلبي من الصعاليك فيقول: 
ينام عِشاءً ثم يصبحُ قاعدا يحتُّ الحصا عن جَنبِه المتعفِّرٍ
يُعين نساءَ الحيّ ما يَستَعنَّه ويُسمي طليحاً كالبَعير المحسَّرِ 
هذان البيتان تكملة لأوضح صورة يرسمها الشاعر عروة بن الورد لغوياً لاستكمال بيان صعاليك السوء الذي من صفات الفرد منهم أنه في الضحى تلمحه هاجعاً كالخَيمة المنهارة، ويستطرد الشاعر تصويره لهذا الصعلوك السيء أنه في فترة العشاء فهو يهجع ليُصبِح وقد اكتفى نومًا كما اكتفى أكلًا، وتراه يعرك الحصى الذي التصق بثيابه المعفرة بعد نومه الطويل على الأرض، وإذا أبصرته يقدم العون لأحداٍ فإنه يكنفُ نساء الحي إذا ما طلبن العون منه؛ في هذا الوقت من النهار ترى الرجالَ في مهامِّهم مبكرين، وتفسير آخر وهو حين ينام الصعاليك الذي يفيئون بعد الغزو، فيجيئ الضحى وقد أصبح هذا الصعلوك كالبعير المتعب من الإعياء والضعف.
هذا هو وصف عروة بن الورد العبسي لفصيل من الصعاليك الذي لا ينتمي اليه بل يقدحه ويذمه ويجرح سلوكه المنافي للفطرة الإنسانية التي تتمثل في النبل والشهامة والجود والإحسان لدي الانسان العربي حتى وإن كان صعلوكاً فإنه الصعلوك النبيل الكريم وعروة بن الورد هو ذلك الفارس النبيل والصعلوك الذي صفاته الإيثار والجود والإحسان، وبيان ذلك في الأبيات التي استهل بها المقال الرابع.
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية