كتاب «تَارِيخُهُم مِنْ لُغَتِهِم» لعبد الحق فاضل: الألفاظ في جذورها الأولى كما نطقها الإنسان القديم
محمد محمد الخطابي
«ما أكثرَ الأسرار والمجهولات التاريخية التي اندثرت وضاعت، فخرجت عن متناول المنقب الآثاري فعلاً، وهي ما تزال في متناول الباحث اللغوي وحده! لأن الأقدمين من أبناء المعربة لم يسجلوها في مسطورات لهم كتابية، ولا نقوش جدارية، ولا صور كهفية، ولا شقف فخارية وإنما سجلوها تسجيلاً عفوياً في لغتهم وانصرفوا، سجل اللغة هذه المضبرة الهائلة تختبئ في زواياها المُهملة كنوز أي كنوز». (من الكتاب)
لم يكن في ظننا يوماً أن اللغة ستغدو مفتاحاً ذهبياً لأبواب مُوصدة، ونوافذ مُغلقة نطل منها على التاريخ وعلى ماضيه الغابر، إنها المفتاح السحري الذي طالما بحثنا عنه، ها هو الآن معنا وبيننا في كتاب بعنوان «تاريخهم من لغتهم» للباحث العراقي الراحل عبد الحق فاضل، المعروف بعطاءاته في مختلف مجالات الفكر والأدب واللغة والإبداع. من أعماله: (مجنونان)، (حائرون)، (طواغيت)، (ثورة الخيام)، (ملحمة جلجامش) و(ملكة اللغات) وسواها. هذا الكتاب الأخير يسير في نسق «تاريخهم من لغتهم» نفسه، الذي يشير الباحث فيه أن اللغة العربية هي أم اللغات الآرية لا السامية والحامية فقط، وأن أصحابَها كانت لهم حضارة عريقة، كما استحدث فيه عِلماً سماه بعلم «الترسيس» الذي نقله المستشرق الفرنسي جاك بيرك إلى الفرنسية باسم Racinisme، ويعني به رد الكلمة إلى رُسها الأول، أو إعادتها إلى جدتها الأولى في صورتها التي نطق بها الإنسانُ الأول (البدائي) تقليداً لأحد الأصوات المسموعة مثل محاكاة أصوات الطبيعة أو الحيوانات، مع تعقب المراحل التطورية التي قطعتها تلك اللفظة حتى وصلت إلى الصورة التي نعرفها اليوم. أما التأثيل وهو (دراسة أثل الكلمات) فهو رد الكلمة إلى أمها المباشرة أو إلى جدتها المباشرة أو القريبة.
اللغة كائنٌ حي
اللغة كائن حي متجدد يعيش فينا وبيننا، بواسطته نأمل ونتألم، نتواصل ونتعايش، ومن خلاله نستجلي حقائقَ مثيرة عن الذات والنفس والكون والحياة. ولكل لغة قانون يحكمها، وينظم مخارجَ النطق الصحيح، ومدارجَ التعبير السليم، والبناء المُحكم فيها. وليس للكلمات رابط ولا ضابط، فهي تفلت أحياناً من قبضة هذا القانون الصارم فتصبح شاذة أو شاردة، وأحياناً سوقية حوشية، وهي طيعة حرة متمردة، مهاجرة تسافر من بلد إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، تتزيا بزيه وتتلون بلونه، وقد تعود إلينا مُلفعةً بمعطفٍ إنكليزي، بعد أن غادرتنا متدثرةً بعباءة قحطانية، وقد ترجع إلينا بقلنسوة إفرنجية أو سواها، بعد أن برحت موطنها الأصلي بعقال حجازي بهيج، ما شأنها؟ ما سرها؟ وما هو سبب هجرانها، وما هي خباياها وأسرارها وطلاسمها؟
اليمين واليسار!
في بحث المؤلف عن اليمين واليسار تقابلنا حقائق لغويةٌ وتاريخيةٌ مثيرةٌ، إنه يخبرنا أن كلمة (اليمين) مشتقة من اسم أرض اليمن، واسم الشمال من بلاد الشام، ومن «اليَمَن» جاءنا اليُمن، والتيمن، اليامن، الميمون، اليمين، أيمن الله، أيم الله، أمن (بالتشديد)، آمن، الإيمان، وآمين، هذه المعاني جاءت من «اليم» أي البحر أقصى ما تنتهي عنده رحلة الأعرابي الشتوية جنوباً، وكلمة اليم نفسها يرجع رسها الأول إلى صوت هبوب الريح هكذا: هو ووو- هو- هواء- هباء- هباب- أباب- آب- آم ـ ماء- ماي- مي – يم- يمن- يمين! ومن غريب الصدف أن كلمة (أَمَنْ) (بالتحريك) بلغة أهل الريف الأمازيغية في المغرب تعني الماء، وهي قريبة في المعنى والنطق مما سبق ذكره! ويخبرنا الباحث أن صيغة الشمال تنحدر من لفظة (شم) التي حاكى بها الأعرابي الأقدم صوتَ استنشاق الروائح تعبيراً بالشين من صوت دخول الهواء من الأنف، وبالميم من انطباق الشفتيْن عند الشم، وتكون نشوء الكلمة إذن على هذه الوتيرة: شم- شام – الشام – الشآم – الشمال- الشِمال.
ولا تعجب إذا تساءل الكاتب عن بعض الصيغ الإسمية فأخبرك بأسرارها وتأثيلاتها، بل تأن حتى تستبين لك الحقيقة ناصعة كبلج الصباح – لا تعجب مثلاً إذا أخبرك أن لفظة (فونيكس) اللاتينية إنْ هي إلا كلمة فينيقية وهي من بني كنعان، وهي العنقاء مع شيء من التحريف بعد أن أبدلت العين في أول الكلمة، فالنون والقاف ما زالا ظاهرين، وأما مسألة إبدال العين أو حذفها فذلك أمر لا بد منه عند الأجانب، حيث يتعذر نطقها أو عدم وجودها عندهم، وأن أطلنطة من الأطلس، وأن كلمة أرز ليست لاتينية ولا صينية بل عربية! وكذلك عشتار سيدة الآلهة، وعظيمة الربات، إلهة الحب والخصوبة، والجمال عند البابليين، هذا الكتاب يفتح بابَ التأثيل على مصراعيْه ليقول لك أن مصدر هذه الكلمة هي الجزيرة العربية وليس العراق القديم، كما كان يُظن من قبل، وأن الأثل القديم لهذه الصيغة وصيغ أخرى مشابهة لها وهي صيغة ثائية وهي الثور! فالمؤلف يقدم لك نتيجة بحثه بخصوص لفظة أو صيغة (عشتار) على سبيل المثال في ما يقارب الثلاثين صفحة حتى يصل بك إلى النتائج التي انتهى إليها.
نقرأ في هذا الكتاب «أن الظواهر اللغوية كثيراً ما تنصرف إلى قوم آخرين ثم تزول من أصحابها الأولين»، ويضرب المؤلف للقارئ مثلاً لذلك بظاهرة أهل الموصل اللغوية الذين ينطقون (الراء) غيناً، ويقول وهي من أبرز خصائص اللهجة الموصلية التي يتندر بها البغداديون.
ولا تذهل إذا أنت ألفيْتَ في هذا الكتاب بأنَ صيغ: عربي- آرامي- عبري- إنْ هي إلا صيغة واحدة، وأن صيغة عِبري التي كنت تعتقد أنها من العبور (عبور قوم موسى) ليست صحيحة، بل إنها كلمة عربية أصيلة، ويقول المؤلف مُستدلاً على صحة نظريته: «ويوحنا ذهب اسمُه في الأرض فصار يُدعىَ يحيىَ، يوهان، أوهانيس، إيفان، جُوهان، جُون، خْوَان، وجوفاني، في مدى نحو ألفي عام، فلا غرابة أن يشتق آرامي من أعرابي، أو أرمي من عربي، وعبري من عربي، وعبراني من عرباني في مدى ألوف لا نعرف عددَها من الأعوام.
حقائق كشفتها لنا اللغة
ويؤكد المؤلف أن اللغة العربية حافلة بالألفاظ الثمينة ذات الدلالات المختلفة، وقد توصل بواسطة بعض الألفاظ إلى حقائق مثيرة منها: أن سكان الجزيرة العربية كانوا أقدمَ الفلكيين بين شعوب الأرض، وأقدمَ معرفة بالفلك وحركات النجوم حتى من أبناء الرافديْن وأبناء النيل، كما تبين للمؤلف عن طريق اللغة أن هؤلاء السكان نقلوا عبادة الشمس إلى مصر منذ قديم العهود، بل إن اللغة باحت لنا بسرها المكنون عن حقيقة ما يسمونه قارة أطلنطة التي غمرها البحر والتي اختلفت فيها الظنون، بل عينت لنا اللغة موضعَها وهو المحيط الأطلسي كما كان يُعتقد، ويقدم لنا الكتاب الكثيرَ من المفاجآت اللغوية الطريفة ويجيب عن العديد من الأسئلة المحيرة التي طالما شغلتنا في مجال اللغة أو التاريخ. ويذهب إلى القول إن «الإرث» كان يعني الأرض أول الأمر، مستدلا بكونه ما يزال يعني في اللغة الإنكليزية الأرض ERTH (إِرْثْ)، ومما يؤكد ذلك هو أن غالبية ما كان يرثه المرءُ عن أجداده في القديم كان هو الأرض باعتبارها أولى وأهم الممتلكات قبل الأخلاق أو المال أو العمائر!
بين عيشة .. وعشتاروت
جاء في الكتاب تحت عنوان (عيشة قنديشة) ما يلي: «إن م. خوليو الأستاذ في جامعة مدريد كان قد ألقى في مدينة «تطوان» (شمال المغرب) محاضرة بسط فيها مدى تأثير الحضارة البابلية في الشمال الإفريقي، وذكر أن عيشة قنديشة (سيدة المستنقعات) كانت امرأة جميلة تغوي المارين المنفردين كلما استوحدتهم، وارتأىَ هذا الباحث أنها من مخلفات آلهة الحب الفينيقية عشتاروت». وبالنسبة للأنثروبولوجي الفنلندي وستر مارك، يتعلق الأمر بمعتقدات تعبدية قديمة، ويربط بين هذه الجنية المهابة و(عشتار) إلهة الحب القديمة لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، وأشير إلى أنه حسب بعض الروايات فعيشة قنديشة شخصية حقيقية، وهي امرأة تنحدر من الأندلس، من عائلة موريسكية نبيلة طردت عائلتها من هناك، عاشت في القرن الخامس عشر وسماها البرتغاليون بعيشة كونديشة أي الأميرة عيشة (الكونتيسا contessa). وبالنسبة للكاتب فإن اسم (عيشة) تحوير آخر لواحدة من الصيغ الكثيرة التي مرت بنا يقصد تحوير لاسم عشتار. وتجدر الإشارة إلى أن ما أورده المؤلف بشأن عيشة هو تحوير عشتار أو عشتاروت، فاستبعد ذلك لسببٍ بسيط وهو أن هذا الاسم (عيشة) إن هو إلا تصغير لاسم عربي أصيل وهو «عائشة» وتصغيرُه التلطيفي: عويشة، ثم حُذفت الواو، وكسرت العين للتخفيف، وهناك صيغ أخرى كثيرة ومشهورة في العامية المغربية لهذا الاسم منها: عائشة، عايشة، عيشة، عشُوش، عشوشة، عيوش.
«الراء» الباريسية وفوائد أخرى
ونقرأ في هذا الكتاب «أن الظواهر اللغوية كثيراً ما تنصرف إلى قوم آخرين ثم تزول من أصحابها الأولين»، ويضرب المؤلف للقارئ مثلاً لذلك بظاهرة أهل الموصل اللغوية الذين ينطقون (الراء) غيناً، ويقول وهي من أبرز خصائص اللهجة الموصلية التي يتندر بها البغداديون، مورداً الكثير من الأمثلة، أسوق منها ما يلي: مثل قولهم في البصرة البصغة، وغُمان في رُمان، وجغة في جرة، ويروي المؤلف أن أصل ذلك راجع إلى بعض المليحات من إماء وحرائر يعجزن عن نطق الراء، ولا سيما بعض الأعجميات منهن فيلثغن فيها، وقد استحب عشاق الجمال ذلك في تلك المليحات أو الحرائر، فصارت طالبات التأنق والتجميل والتملح يقلدنهن، فانتشرت اللثغة حتى عمت بمرور الأجيال أهلَ بغداد كالذي حصل لأهل باريس مثلاً. ومن أغرب ما مرّ بي في هذا الكتاب لفظة طريفة يستعملها الأشقاء التونسيون في عاميتهم بكثرة وهي (بَرْشَا) بمعنى كثير، ولما حِرْتُ في معناها أجابني الكتابُ بالصدفة قائلاً: «وأرض برشاء كثيرة العُشب مختلفة ألوانُه»!
نبوءة شاعر النيل
وإذا كان المؤلف قد أرسىَ في كتابه «مغامرات لغوية» (نظرية الترسيس) Racinisme، فإنه في كتابه «تاريخهم من لغتهم» يفتح باباً جديداً في عالم (فقه اللغة) و(التاريخ)، حيث أوجد لنا وسيلة أخرى للتعرف على بعض الظواهر اللغوية الغريبة، كما انه اقتحم ميداناً كان وما يزال يعد من باب المباحث الميتافيزيقية، نظرا ً لكونه يبحث في ما وراء حدود المعلوم، وأستعيرُ من المؤلف العبارة التي ختم بها كتابَه فأقول: ليت حافظ إبراهيم كان يدري أي نبوءةٍ إعجازيةٍ قذف بها في مَسْمَع الدهر يوم حكىَ لنا أن اللغة العربية قالت عن نفسها: أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ/فهل سألوا الغواصَ عن صدفاتي؟!
القدس العربي