"أيام الأدب العربي" في برلين.. لغاتٌ مُجرّمة بين ثقافتين
يومان من الشعر والموسيقى واللغات المجرّمة احتفلت فيهما "بيناتنا" المكتبة العربية في برلين بعدد كبير من المبدعين كتّاباً وشعراء وموسيقيين ضمن برنامج "أيام الأدب العربي" الألماني، أيام استقطبت شريحة كبيرة من الجمهور الألماني إضافة إلى جمهور الجالية العربية الكبيرة التي تتمركز في برلين فاكتظت قاعة المكتبة بهم في حفل الافتتاح الذي كان مثالاً مشرفاً يدل على الجهد المبذول من قبل المنظمين للخروج بتظاهرة تليق بالثقافة العربية ولغتها التي لن تكون مُجرّمة.
في كلمته التي ألقاها في حفل افتتاح "أيام الأدب العربي" في برلين تحدث غسّان زقطان، الشاعر الفلسطيني والرئيس الفخري لدورة "لغات مجرّمة"، عن قيمة هذا العنوان وأنه موضوع مركّب وعابر للزمن وغالباً ما ارتبط بانكسارات الإنسان المغلوب وخساراته وهجرات الشعوب المنكوبة، وأنه بقدر ما يبدو هذا القول قاسياً إلا أنه حقيقي حيث أن تحطيم اللغة - أي لغة- هو تبديد لجزء من عقل البشرية وذاكرتها، لأن ثمة ما سيبقى ناقصا ويصعب استعادته. كما تحدث عن اللغات التي تعرضت للهدم والإقصاء والنفي والاختفاء عبر التاريخ الطويل للبشرية، مشيراً إلى كيفية إقصاء الاحتلال الاسرائيلي للغة العربية وإلى كونها تبدو الآن لغة مجرّمة عدوّة ومنبوذة ومطاردة في الشوارع ولافتات الطرق وأسماء القرى والبلدات والجداول التي تحمل اللغة العبرية على يافطاتها في حين تسكن العربية فيها.
مسؤولية الناطقين بالعربية
الأمسية الأولى التي أدارتها د. إينس كابرت، رئيسة "معهد غوندا فيرنر للنسوية والديمقراطية الجندرية"، جمعت بين الكاتبتين المصرية بسمة عبد العزيز والنمساوية كاترين روغلا اللتين قرأتا مقتطفات من نصوصهما ثم استعرضتا تاريخ الحركة النسوية وتطلعاتها، فيما تحدثت عبد العزيز عن اللغة السياسية أو التي تستخدمها المنظومة السياسية مشيرة إلى نقطة مهمة لا يدرك الكثيرون مدى خطورتها وهي أن تجريم اللغة لا يقع فقط بسبب الغرب وممارساته تجاه اللغة العربية وحسب إنما هناك مسؤولية كبرى تقع على عاتق الناطقين بها. واستعرضت عبد العزيز المشاكل التي تواجهها اللغة العربية من إهمالها في المدارس وعدم التركيز على أهميتها وضعف الاستخدام الرسمي لها حيث أصبح من النادر الآن أن تجد مسؤولاً يتحدث لغة عربية سليمة مؤكدة أن إهمال اللغة بهذا الشكل هو ما قد يسبب موتها أو انقراضها.
تلا الأمسية عرض أدائي باللغتين العربية والألمانية بعنوان "لم يستطيعوا الحضور" لأدباء وأديبات لم يستطيعوا أن يكونوا حاضرين بسبب اعتقالهم أو اختطافهم، في حين قام الفنان عقيل أحمد برسم حي مع نصوص الكتّاب المعتقلين/المختطفين وهم: سميرة الخليل، أشرف فيّاض وناظم حمّادي، وقام كل من الشعراء: جدل القاسم، رامي العاشق، عمر أبو الفول، لارا سيلمان، رونيا عثمان، وتيلمان سيفيرين بقراءة النصوص في جو متناغم لفت انتباه الحاضرين لمتابعته بشغف. واختتمت المغنية الفلسطينية رشا نحاس وفرقتها الموسيقية فعاليات اليوم الأول من أيام الأدب وقدمت عدداً من أغانيها المعروفة لدى قسم كبير من الشباب هناك.
بداية فعاليات اليوم الثاني كان من خلال صالون الكوميك مع التونسي عثمان سلمي والألماني بورجو توركر، وعرضت فيه تجربتان للقصة المصورة تحدث من خلالهما عثمان عن الثورة في تونس وعن العنصرية داخل المجتمع التونسي بين البيض وذوي البشرة السوداء وهو موضوع تمت إثارته سابقاً في برامج تلفزيونية ويبدو أنه يشكل ظاهرة في المجتمع التونسي، بينما عرض بورجو باستخدام قصته المصورة تفاصيل متظاهرات أصحاب السترات الصفراء في باريس واعتصامات الناس هناك وفي هذه النقطة اجتمع الشرق مع الغرب في نظرتهما للتظاهر والتعبير عن الحريات وما يمكن للصورة أن تقدمه للقارئ أكثر من كونها نصاً والعكس تماما، وما الذي يمكن إضافته إلى رواية هي عبارة عن صور من إلحاق نص مكتوب بها، وقد أدارت الندوة ليليان بيتان، رئيسة تحرير مجلّة فن.
إشكاليات الترجمة
"الاهتمام بالثقافة من قبل المؤسسات المانحة ليس في أحسن أحواله، تحديداً المؤسسات العربيّة"
تلت هذا العرض الشيق ندوة عن الترجمة مع نخبة من المترجمين والمترجمات من العربيّة إلى الألمانية والعكس، وهم المترجمة اللبنانية ليلى شمّاع التي ترجمت أعمال الياس خوري إلى الألمانية، والألمانية ساندرا هتزل التي قامت بترجمة عدد من الكتاب السوريين الجدد في ألمانيا، والمترجم المصري أحمد فاروق، في حين أدار الندوة الكاتب والمستعرب والمترجم شتيفان فايدنر، الذي يعتبر أحد أهم المترجمين من العربية وهو الذي ترجم أدونيس للألمانية وقدّمه للمجتمع الأوروبي، وهو نفسه من انتقده حينما اتخذ خيار عدم الوقوف مع الثورات. وتركزت الندوة حول إشكاليات الترجمة من كلتا اللغتين وصعوبات وجود دور نشر ألمانية تتبنى أعمالاً مترجمة من العربية خاصة لشعراء شبّان، كما أثير نقاش حول فكرة الاستشراق وهل ما تزال موجودة لدى الغرب عند النظر إلى الأدب العربي.
انتقل الجمهور المتعطش لمثل هذه الفعاليات بعدها إلى الأمسية الأدبية الحواريّة مع الشاعر غسان زقطان والشاعرة جدل القاسم وأدارها الشاعر رامي العاشق، رئيس تحرير مجلّة فن، وهي أمسية كان هدفها تجاور الأجيال، وهذا ما ركز عليه العاشق في مداخلاته، وكم هو من المهم تقديم جيلين مختلفين، جيل يمثله شاعر معروف مثل زقطان وتجربة شابة وصوت جديد وهي الشاعرة القاسم التي صدر لها كتاب واحد وهذه هي أول مرة تتم ترجمتها للألمانية. ودار النقاش معهما حول الشعر والترجمة وأهمية الترجمة بالنسبة للشاعر وانتشاره عالمياً. ومن جهة أخرى تناولت الندوة تجريم اللغة النسوية أي صوت النساء داخل اللغة العربية، وأنه لا يوجد كثير من النساء الشاعرات في عالما العربي وهو الأمر الذي علق عليه زقطان بمداخلة فقال إنه ليس فقط لغة النساء هي المجرّمة في عالمنا العربي للأسف إنما حضورهن جسدا وروحا ونصاً هو المجرّم.
اختتم "أيام الأدب العربي" الألماني فعالياته بأمسية شعرية كبرى بمشاركة الموسيقي أندي فازول واثني عشر شاعراً وشاعرة من ألمانيا والعالم العربي نذكر منهم من سورية وفلسطين رشا حبّال وعرفات الديك (رام الله) وغياث المدهون ومن ألمانيا أليكساندرو بولوكس وتريستان ماركوارد وشارلوت فارسان.
الأدب والنديّة
"المهرجان لا ينطلق من نظرة دونيّة تجاه الأوروبيّين لنريهم أننا نملك ثقافة، بل لنضع الثقافة العربيّة والأدب العربي على مستوى من النديّة"
كان لـ"ضفة ثالثة" بعد انتهاء الفعاليات حديث مع منظم المهرجان للوقوف على أهمية تنظيم هكذا فعاليات في أوروبا والرسالة التي تحملها، حيث أوضح رامي العاشق أن "المشاريع الجادة تستطيع ذلك، فالرهان هنا على الأدب والنديّة لا على العلاقات ولا على استجداء تعاطف. هذه حقيقة وليست ادعاءً، هناك جهد حقيقي تبذله إدارة المهرجان منذ عامين وهذا الجهد لا يمكن إنكاره، وهو جهد جمعي لمجموعة صغيرة، وشراكات حقيقية بين مؤسسات ثقافيّة وأفراد يملكون رؤية وهدفاً بتقديم منتج أدبي ثقافي عالي الجودة، لا ينطلق من نظرة دونيّة تجاه الأوروبيّين لنريهم أننا نملك ثقافة، بل لنضع الثقافة العربيّة والأدب العربي على مستوى من النديّة مع الثقافة والأدب الأوروبي، وأعتقد أننا نجحنا بشكل كبير على مدار هذين العامين. كانت الفكرة حاضرة في بالي منذ أكثر من أربع سنوات، واستطاعت أن ترى النور في العام الماضي حين قرّرنا تحويل افتتاح المكتبة العربيّة في برلين (بيناتنا) إلى مهرجان".
وأضاف أن " المهرجان استطاع أن يستضيف أسماء مهمّة، وتجاربَ مهمّة، والثانية تعني لنا كثيراً، فهناك أصوات شابّة وتجارب جديدة متحرّرة من الأبوية الأدبية واستطاعت أن تحدد ملامح تجربتها الشعريّة والأدبية من دون أحزاب سياسيّة أو مؤسسات كبرى أو دول ترعاها".
ويؤكد العاشق أن المعايير التي يتم بناء عليها اختيار الشعراء المشاركين هي "الجودة، أوّلاً وأخيراً، وفي المرحلة التالية تأتي الميزانيّة، إذ لا نستطيع دعوة جميع من نرى أنهم كتّاب/كاتبات مجيدون/مجيدات في وقت واحد، دائماً ثمّة من هو غير مدعو، وبالتالي في كل سنة تكون هناك مجموعة جديدة من الضيوف. إدارة المهرجان مختصّة بالأدب، وتتناقش لفترة طويلة لتخرج بقائمة الضيوف لكل عام. نحن مهرجان صغير يمتد ليومين، يستقبل 30 ضيفاً كحد أقصى سنوياً، ونطمح لأن يكبر في الأيام القادمة".
أما عن الصعوبات التي تواجه المنظمين من أجل إتمام هذا المشروع فأوضح العاشق أنه "ككلّ المشاريع المستقلّة، نواجه صعوبات في التمويل، وللأسف الاهتمام بالثقافة من قبل المؤسسات المانحة ليس في أحسن أحواله، تحديداً المؤسسات العربيّة، وفي هذه الدورة تم دعم المشروع بشكل جزئي من مؤسسة القطّان وهي المؤسسة العربية الوحيدة، بينما بقيّة المؤسسات الداعمة هي مؤسسات ألمانيّة. ولكن المشروع يكمل طريقه، عدد الضيوف هذا العام أكبر، وأصدر المهرجان كتاباً باللغتين العربيّة والألمانيّة لجميع المشاركين، منهم من تتم ترجمته لأول مرة إلى الألمانية، وجميع الضيوف الألمان يترجمون إلى العربيّة للمرة الأولى". أما عن أسباب اختيار الشاعر الفلسطيني غسان زقطان ليكون رئيسا فخريا لهذه الدورة فهي حسب ما يؤمن العاشق أن "زقطان من أهم الشعراء العرب الأحياء، وهو شاعر متجدّد بالشكل والمضمون، ولا يحتاج إلى شهادة أحد"، معبراً عن فخر إدارة المهرجان بقبوله الدعوة، ومعرباً عن أمنياته بأن يعود إلى رام الله سعيداً بهذه التجربّة، وكذلك الضيوف جميعهم.
العربي الجديد
|