العربية في بيت المقدس - 2
أ.د. ياسر الملاح
كانت أولى نفحات التعريب المبارك لبيت المقدس ما أوحاه رب العزة إلى رسوله العربي الهاشمي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في القرآن الكريم في سورة الإسراء حيث قال:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" الإسراء 1. فهذه الأية ربط مقدس مباشر، من رب العالمين، بين المسجد الحرام في مكة موطئ قدم العربية الأصلي منذ أقدم العصور وبين بيت المقدس الذي أسري بالرسول إليه في رحاب المسجد الأقصى المبارك، ثم عُرِج به إلى السموات، وقد كان هذا قدرا مقدورا ولم يكن الفتح الإسلامي قد حصل بعد لهذه البلاد. وبهذا الربط المقدس الذي أصبح قرآنا يُتلى على ألسنة المسلمين في مختلف بقاع الأرض، بالعربية الفصحى. ومنذ ذلك الإسراء المبارك إلى يوم الدين، طبعت لغة بيت المقدس بالعربية التي لا تقوى لغة على وجه البسيطة مزاحمتها ومدافعتها، في ثبات هذه الحقيقة، ما حافظ أهلها على تلك المباركة اللدنية الأبدية.
وبهذا الإسراء الذي أضفى على بيت المقدس هذه الصفة العلوية المقدسة أصبح بيت المقدس مكانا مقدسا يرحل إليه المسلمون للتبرك والتعبد، لأن الصلاة فيه، أي في المسجد الأقصى، تعدل ما يقرب من خمسمائة صلاة أو يزيد. ولبركة هذا المكان، عند الله، وارتفاع مستوى قداسته عند المسلمين، كان بعض من ينوي الحج إلى بيت الله الحرام يحرص على بدء إحرامه من بيت المقدس طمعا في زيادة الأجر والثواب من الله العزيز الحكيم. ولهذا أصبح للعربية تداول يفوق تداول أي لغة أخرى ليلا ونهارا في فلسطين بعامة، وفي رحاب المسجد الأقصى بخاصة، منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، لكثرة ما يفد إليه من حجاج وزوار، ولكثرة ما يُتلى في أروقته من آيات القرآن، وما يقرآ في ساحاته من أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، من أهل فلسطين وممن وفد إليه من خارجها.
ولم تكتف العربية بقراءتها في الكتاب المبين والأحاديث الشريفة، بل أخذت أصواتها تصدح في أرجاء فلسطين كافة لتردد الأذان في اليوم خمس مرات. وهكذا أصبحت العربية لغة رسمية وشعبية على مدار اليوم والشهر والسنة بمناسبة الأعياد والصلوات الجامعة في الليل والنهار. فإذا قرنا هذا كله بما أخذ ينهال على المسجد الأقصى من كتب ومؤلفات، وما كان يلقيه العلماء الوافدون إليها من محاضرات، وما يتردد على دروس العلم من طلبة، أخذنا نتخيل أن هذا المسجد قد تحول إلى جامعة كبيرة تزخر بالنشاط والحيوية والتنامي، وأخذنا ندرك أن حياة العربية بوجهيها المسموع والمنطوق قد تكاملت على نحو مبهج ومبشر بالخير الوفير.
ونظرا لانبساط سلطان الإسلام على مساحة شاسعة من الأرض المترامية الأطراف على ثلاث قارات هي: آسيا وأفريقية وأوربا، أصبح العالم الإسلامي متسعا باتساع هذه المساحة الكبيرة بحيث يمكن لكل فرد من رعايا هذه الدولة أن يتخذ المكان الذي يناسبه وطنا أو مستقرا لحين من الدهر، ثم يطيب له أن ينتقل إلى مكان آخر، وإلى ثالث، إذا شاء، دون أن يخضع لأية موانع أو مساءلات تحد من حركته أو نشاطه أو تمنعه من العيش والاستقرار والعمل أو الدرس متى شاء وكيفما شاء. ولهذا كانت للمواقع المختلفة مسميات تاريخية متداولة، ولكن لم يكن لها شخصيات سياسية مستقلة كما نلاحظ هذه الأيام. فمصر وفلسطين والعراق وخراسان مسميات ثابتة تاريخيا وثقافيا، ولكن يصعب على كثير منها تثبيت حدود مستقرة لها لما يتقلب عليها من حكام أو سلاطين، من هنا وهناك، على الرغم من ثبات شخصيتها الفكرية على أنها جزء من دولة إسلامية كبيرة تمتد من أقصى الشرق الآسيوي إلى أقصى الغرب الأفريقي والأوروبي. إن هذا الوضع لم يُتح لفلسطين أن يكون لها شخصية اعتبارية مستقلة في السياسة والثقافة والتاريخ والاجتماع على النحو الذي نعرفه هذه الأيام، لأنها على الرغم من لمعان شخصيتها المقدسة لارتباطها بالإسراء والمعراج وبيت المقدس عموما، فقد استقر وضعها على أنها جزء صغير من بلاد الشام ومن عالم إسلامي واسع. ولذلك كثر وصف العلماء الذين نبغوا في تلك الأزمنة بعدة أوصاف جغرافية تنبئ عن المواطن التي استقروا فيها فتعلموا أو علّموا أو ألفوا كتبهم فيوصف العالِم مثلا بالمصري والمقدسي والمكي والبغدادي والأندلسي والإفريقي وهكذا. وينبئ هذا الوصف عن الحرية التي كان يتمتع بها كل فرد في الحركة والاستقرار كيفما شاء، ومتى شاء، وأينما شاء من أنحاء العالم الإسلامي.
ومن هذا الواقع الذي كان يتلبس شخصية فلسطين على مدى واسع من الزمن التاريخي كان علينا إذا أردنا رسم هذه الشخصية بالمنظار الحديث، على الرغم من استقامة الصورة التاريخية لأنها رمز لوحدة جامعة لمختلف أوطان الأمة، ومَرَضية التصور المعاصر لما فيه من تمزيق وتشرذم جغرافي ضيق، أن ننتخب من هذا الكم الأدبي والعلمي والثقافي المنتج في حدود الدولة الإسلامية، وارتبط حينا من الدهر ببيت المقدس، أو غيرها من مدن فلسطين، وبهذا يمكننا رسم خط بياني لثقافة العربية وامتدادها في هذه البقعة الجغرافية المسماة بفلسطين، ليسهل علينا أن نزعم بأن العربية كانت تحيا حياة قوية على هذا الثرى المقدس والمبارك الموسوم ببيت المقدس أو فلسطين بعامة.
وهكذا فإنه لمّا تعذر علينا رسم صورة لغوية عربية فلسطينية وفق النموذج الذي نحياه اليوم لتعذر وجود سياسي مستقل في فلسطين، فقد يجوز لنا أن نتخيل وجود العربية في فلسطين عقدا عربيا ثمينا تتلألأ جواهره وفق الزمان الإسلامي الممتد وبركة المكان الماجد في بيت المقدس. وعليه فإن واسطة العقد في وجود العربية في فلسطين ستكون المسجد الأقصى الذي كان يجتذب إليه العلماء والتلاميذ والشعراء والسياسيين من كل حدب وصوب من أصقاع العالم الإسلامي ليعقدوا في صحنه المبارك حلقات دروس العلم في القرآن والحديث وغيرهما من ألوان العلوم المشتهرة في كل حقبة من حقب الحياة الإسلامية الموّارة بالنشاط العلمي الذي لا يعز عليه تناول أي جانب من جوانب العلوم المشتهرة في مختلف الأزمان والحقب. ولنتخيل هذه الحياة المتدفقة بالحيوية والعطاء المثمر عندما تكون العربية الفصحى هي اللسان الناطق باسم كل عِلم من هذه العلوم، ففي التفسير حينا، وفي الحديث الشريف حينا آخر، وفي النحو والصرف والبلاغة أحيانا كثيرة، وفي الفلك والتاريخ والجغرافيا والعقائد ومختلف أصناف العلم الذي كانت تمتاز به الحياة الإسلامية آنذاك، وعندئذ يحق لنا أن نقول: أي رقي وصلت إليه العربية في هذا النشاط العلمي الذي لا يُدانيه إلا نشاط جامعة مشهورة في هذا الزمان الذي نحياه اليوم !!!
وأما بقية حبّات العقد العربي الجميل لحياة العربية في فلسطين فتتمثل في هذه النفوس الكبيرة التي صنعت ذاتها من الشعر حينا، ومن النثر حينا آخر، ومن الخطابة حينا ثالثا، ومن مختلف ألوان المعرفة التي سطر فيها بيان عربي نظما أو نثرا أو تأليفا حتى استوت صورة عقد العربية على النحو الذي يتطلبه الإبداع والانتماء والتثبيت لهذه اللغة الشريفة في أرض الإسراء والمعراج. وكانت ثمرات هذا العقد ماثلة للعيان في ما ازدانت به مكتبات فلسطين الخاصة والعامة، وبخاصة مكتبة المسجد الأقصى المبارك التي ضمت من المخطوطات ما يصعب علينا حصره، وما تعكف هذه الأيام على ترميمه ونشره وإخراجه إلى النور من عتمة خيمت عليه زمنا طويلا، هيئة علمية فتية في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس راجين لهم النجاح في مسعاهم والبركة في جهودهم إن شاء الله تعالى، إنه نعم المولى ونعم النصير.
فأول حبة من حبات هذا العقد اللغوي الجميل عثرنا عليها في فلسطين، بعد الواسطة التي تحدثنا عنها، قبل قليل، والتى تمثل القلب اللغوي والعلمي والمعرفي للحياة العلمية والثقافية في فلسطين، لؤلؤة شعرية ( أطلقنا عليه لؤلؤة انسجاما مع أسلوبنا التصويري في هذه المقالات ومن سنتحدث عنهم حيث يشكلون صورة للعقد العربي الذي تتألف حباته من 25 حبة، منها اثنتا عشرة ترتبت على هذا النحو: اللؤلؤة والفريدة والزبَرْجدة والجُمانة والمَرْجانة والياقوتة والجَوْهرة والزمُرّدة والدُرّة واليتيمة والعَسْجدة والمُجَنّبة ثم الواسِطة ثم اثنتا عشرة حبة تالية وهي اللؤلؤة الثانية والفريدة الثانية... وهكذا، إلى أن تصل إلى نهاية السرب حيث تكون المُجنبة الثانية، وبذلك تكون حبات العقد خمسا وعشرين )، واللؤلؤة التي سنخصها بالحديث هنا، ربما لم يَسْمع بها، ولم ينبهرْ بجمالها كثير من الناس، إنها الشاعر المشهور كشاجم الرملي الذي ولد وترعرع في فلسطين في الربع الأخير من القرن الهجري الثالث حوالي (290هجرية) . كان هذا الشاعر، في حدود اطلاعنا على المراجع القديمة، الاسم الوحيد الذي نسِبَ إلى الرملة، وهي إحدى مدن فلسطين المعروفة، ومن المحتمل وجود أسماء أخرى من الشعراء والكتاب نمت وترعرعت على أرض فلسطين، قبل هذا الوقت من التاريخ الإسلامي، لأن فلسطين ومدنها، منذ أن ذاع الحديث الشريف المشهور الذي يدعو المسلمين إلى البناء والاستقرار في بيت المقدس قد أصبحت مهبط أفئدة المسلمين من مختلف المناطق العربية والإسلامية. ومن الملحوظ اليوم وجود حارات تضم جاليات كثيرة حول المسجد الأقصى من المغرب والسودان وغيرهما من الأفارقة جاؤوا إلى بيت المقدس لحمايته، فاستقروا فيه وشكلوا جالية وطنية لها مواقفها المهمة في حماية الأقصى وإعماره والمجاورة في ساحاته والأماكن القريبة منه.
فمن هو كشاجم؟ هو أبو الفتح محمود بن محمد بن الحسين بن السِّندي بن شاهك الذي اشتهر بلقبه كشاجم. وعلى الرغم من أن والده يعود إلى أصول فارسية فإن ارتباطه بفلسطين يعود إلى أبيه الذي ولاه الأمين بن هارون الرشيد أمر الشام، وتوفي بها، وبقيت أسرته بعد وفاته حيث استقر بها الوالد السندي، أي في الشام، وقد شب كشاجم في بلدة الرملة بفلسطين، وفي المراجع ينسب كشاجم إلى شعراء الشام. ولما كان أبو الفتح هذا كاتبا وشاعرا وأديبا وجميلا ومغنيا أخذ من كل وصف من هذه الأوصاف أول حرف منه ثم ألف من هذه الأحرف لقبه كشاجم. ويقال إنه لما اشتهر بالطب أو الطبخ حيث عمل طاهيا عند سيف الدولة الحمداني، أضاف إلى هذا اللقب حرف الطاء فأصبح ينطق (طكشاجم). ولما كانت الرحلة من بلد إلى آخر سمة من سمات الشعراء والعلماء والكتاب تردد هذا الشاعر بين مصر والشام والعراق مددا طويلة من حياته، فذهب إلى الموصل بالعراق، والتحق هناك بخدمة والد سيف الدولة الحمداني، ثم التحق بعده بخدمة سيف الدولة نفسه في حلب بالشام، ثم نزل مصر وأقام بها زمنا، ثم جرب أن يلتحق بخدمة أمير الزاب جعفر بن علي في العراق، ثم عاد إلى مصر وهو ينشد:
قد كان شوقي إلى مصر يؤرقني فالآن عدت وعادت مصر لي دارا
وقد عرف عنه أنه شاعر قوي الديباجة وتناول في شعره مختلف الأغراض الشعرية المعروفة كالمديح والرثاء والشكوى والهجاء والوصف والخمريات والصيد والطرد. ولعل نبوغه الشعري في فلسطين والشام يشي لنا بالمناخ العلمي والأدبي في الشام بعامة، وفي فلسطين بخاصة، مما هيأ له تربية لغوية قوية مكنته من قرض الشعر الفصيح. ومن المعروف أنه كان شيعيا إماميا كوالده السندي الذي كان كذلك، ويدل على هذا بيتان من الشعر نسبا له حيث يذكر فيهما أئمة الشيعة الاثني عشر :
نـبـيي شفيـعي والبتـول وحيـدر وسبطاه والسجّاد والباقر المجــــد
بجعف بموسى بالرضا بمحمد بنجل الرضا بالعسكريين بالمهدي
وفي ديوانه قصائد يرثي فيها الحسين، رضي الله عنه، ويبكيه ومن قتلوا معه في كربلاء، منها:
يا بؤس للدهر حين آل رسو ل الله تجتاحهم جوائحه
أظلم في كربلاء يومهم ثم تجلى وهم ذبائحه
ومن هذه القصائد قصيدة بكى فيها الحسين واعتبر أن الأمويين ثأروا في مقتله لقتلاهم في بدر :
لئن وتر القوم في بدرهم لقد ثأر القوم في كربلاء
ومن القصائد كذلك قصيدة ذكر فيها علي بن أبي طالب، سيد الأوصياء، كما يقول، والجواد البطل وعدد فضائله نذكر منها:
وكم شبهـــــة بهداه جــــلا وكم خطـــة بحـــجاه فصـل
وكم أطفأ الله نار الضلال به وهي ترمي الهدى بالشعل
وكــم رد خالـــقه شمـسه عليــه وقد جنـحـــت للطـفل
وفي شعره مبالغة لا يقرها الدين، إنها مبالغة يؤمن بها هو ومن ينتسب إليهم، ومن المؤكد أن عليا، رضي الله عنه، كان ومازال في غنى عن هذه المبالغة، لأنه هو من هو عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولعل هذه المبالغات لم تكن تلقى قبولا عند أهل فلسطين، ولذلك لم يستقر الشاعر كثيرا فيها، ففي سن مبكرة عجل بالترحال عنها إلى الموصل بالعراق، وفيها التحق بخدمة أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة، وقد كان عبد الله هذا قد ولي الموصل مرارا، ثم التحق ببلاط سيف الدولة في حلب، ويبدو أنه لم يمكث عنده طويلا، فاتجه إلى مصر وأقام بها فترة من الزمن، ثم رجع إلى الشام، وظل يتنقل بين مصر والشام فترة طويلة إلى أن وافته منيته في مصر حيث دفن فيها سنة 350 هـ أو بعد ذلك، والله أعلم.
|