من الظواهر اللغوية: الحذف - 1
د. طاهر عبد الفتاح الطويل
تشتهر اللغة العربية بمجموعة كبيرة من الظواهر اللغوية التي شاعت وانتشرت بين نصوصها، واتخذها النحاة واللغويون أداة للتحليل اللغوي، وسبر أغوار اللغة، وتذوق النصوص اللغوية المختلفة، ومن هذه الظواهر: الحذف، والزيادة، والتقديم والتأخير، والفصل، والاعتراض إلى غير ذلك، ولعل الحذف هو أشهر هذه الظواهر اللغوية، وأكثرها انتشارًا في النصوص اللغوية.
والحذف لغةً كما جاء في المعاجم اللغوية: "قَطْفُ الشَّيْء من الطَّرَف كما يُحْذَف طَرَفُ ذَنَب الشَّاة"[1]، وجاء في (لسان العرب): "حذف الشيء: إسقاطه، ومنه حذفت من شعري، ومن ذنب الدابة؛ أي: أخذتُ منه"[2].
أما اصطلاحًا فنجده يرتبط بمعناه اللغوي، فيعرفه الزركشي بأنه: "إسقاط جزء من الكلام، أو كله لدليل أو قرينة"[3].
وجاء تعريفه في معجم المصطلحات بأنه "إسقاط كلمة من بناء الجملة، وقد تكون هذه الكلمة ركنًا من أركانها؛ كالمبتدأ أو الخبر أو الفاعل، وقد تكون حرفًا، وقد تحذف الجملة"[4].
كما يعرفه أحد الباحثين المعاصرين بأنه: "إسقاط لصيغ داخل النص التركيبي في بعض المواقف اللغوية، وهذه الصيغ يفترض وجودها نحويًّا لسلامة التراكيب، وتطبيقًا للقواعد، ثم هي موجودة، أو يمكن أن توجد في مواقف لغوية مختلفة "[5].
"والحذف خلاف الأصل"[6]، وهو الصورة المقابلة للزيادة[7]، وكلاهما يعد عدولًا عن النمط المعياري للجملة، وهو "ظاهرة في اللغة لا تقل أهمية عن الذكر، وكما أن التصريح باللفظ في التراكيب أمر يقتضيه السياق والتركيب، فإن الحذف أيضًا ظاهرة لا تقل في أهميتها عن اللفظ المذكور، وتقديره أمر يعود إلى السياق، والمذكور هو الذي يفسر المحذوف، ويشير إليه، ويعطي القارئ القدرة على تحديد المحذوف مهما كان نوعه"[8].
وليست العربية وحدها هي التي انفردت بظاهرة الحذف، ولكنها تميزت عن غيرها من اللغات بوجود هذه الظاهرة فيها بشكل واضح، يقول أستاذنا الدكتور طاهر سليمان حمودة: "الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، وتبدو مظاهرها في بعض اللغات أكثر وضوحًا، ونحن نرى أن ثبات هذه الظاهرة في العربية ووضوحها يفوق غيرها من اللغات، لِما جُبلت عليه العربية في خصائصها الأصيلة من ميل إلى الإيجاز، جعلها مثلًا تُضمر فعل الكينونة في الربط بين جزأي الجملة الاسمية، ولا تذكر لفظًا للتعبير عن الكون المطلق؛ أي: مجرد الوجود، فهو واجب الحذف"[9].
لذا فإن المتأمل في لغة العرب يجد أنهم لم يأتوا في جميع الأحوال بكل الألفاظ التي يتطلبها النسق التعبيري، أو تركيب الجملة، بل إنهم تصرفوا فيها بالحذف في أحيان كثيرة، إما بحذف اسم، أو فعل، أو حرف، أو جملة، أو جمل[10].
والحذف نوع من الإيجاز والاختصار، وهو أحد الأساليب العربية والبلاغية القديمة التي يلجأ إليها الشاعر أو الأديب استغلالًا لإمكانته الإيحائية[11].
كما أن "الحذف من عجائب اللسان العربي وأسراره التي تفرَّد بها عن غيره من الألسن، فليس الحذف في العربية لمجرد الاختصار والإهمال"[12]، بل هو من شروط الفصاحة كما يرى (ابن سنان الخفاجي)؛ إذ يقول: "ومن شروط الفصاحة والبلاغة: الإيجاز والاختصار، وحذف فضول الكلام"[13].
وقد ذكر )ابن جني( الحذف في أول الأنواع التي تحدث عنها في الباب الذي عقده بعنوان: "باب في شجاعة العربية"[14]، وذكره (ابن قتيبة) بقوله: "وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه"، وذكر منها (الحذف والإيجاز[15].
أما (الجاحظ( فقد جمع في حديثه بين الحذف والإيجاز من ناحية، والإطالة أو الإطناب من ناحية أخرى، مبينًا أنهما من أساليب العرب الفصحاء التي جاء بها القرآن، ولكلٍّ موضعه، يقول: "وللإطالة موضع، وليس ذلك بخطلٍ، وللإقلال موضع وليس ذلك من عجز"[16]، ثم يقول بعد ذلك: "ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مُخرَج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعله مبسوطًا، وزاد في الكلام"[17].
كذلك نجد (عبدالقاهر الجرجاني) ممن تحدثوا عن الحذف، بل أفاضوا في الحديث عنه في كتابه القيِّم (دلائل الإعجاز)، فالحذف عنده من الأساليب البلاغية المهمة، لذا "فإنك ترى به ترْكَ الذِّكرِ أفصحَ من الذكرِ، والصَّمْتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدُك أنطقَ ما تكونُ إذا لم تنطِقْ، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ، وهذه جملة قد تُنكِرها حتى تَخبُرَ، وتدفعُها حتى تنظر"[18].
إذًا فالعدول عن الأصل إلى الحذف قد يكون أبلغ وأفصح وأبين.
ومن المعلوم أن النحو العربي قد قام على استقراء كلام العرب، وأن النحاة قد استخلصوا من هذا الاستقراء مجموعة من القواعد المطردة، قام عليها النحو العربي، ثم إنهم بيَّنوا أنه قد يعدل عن هذه القواعد التي جعلوها أصلًا؛ كالذكر، والتقديم، والوصل، وغير ذلك.
ويعد الحذف من أحد أهم صور العدول عن الأصل في النحو العربي؛ فهو المقابل للأصل (الذكر)؛ لذا فإننا سنجد له ارتباطًا واضحًا بأحد أهم النظريات النحوية، ألا وهي )نظرية العامل) ، فإذا كان الحذف إسقاطَ صيغٍ داخل النص التركيبي، فإنَّ ما بعد المحذوف سيكون متأثرًا به، وإنْ سقط المحذوف الذي يعد العامل فيما بعده من الكلام، "فمثلًا (أهلًا وسهلًا)، تفترض القواعد النحوية أن فيه حذفًا مردُّه إلى أن كُلًّا من الكلمتين منصوبة، فهي معمولة، ولا بد لها من عامل، وليكن العامل هنا (قَدِمْتَ) في الكلمة الأول، و(نَزَلْتَ) في الثانية، فسنجد أن العاملين المحذوفين اللذين قدَّرنا وجودهما في الكلام يوجدان فعلًا في مواقف لغوية أخرى؛ أي: في نصوص مغايرة"[19]، وهذا التقدير ليس فقط في العامل، وإنما يكون أيضًا في المعمول؛ كحذف الضمير العائد على الاسم الموصول؛ كما في قوله تعالى حكاية على لسان الكافرين: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ [الفرقان: 41]؛ أي: بعثه.
كذلك يرتبط الحذف بمصطلح (التأويل) الذي يعد أيضًا أحد آثار القاعدة النحوية التي وضعها النحاة، و(التأويل) "محاولة إرجاع النصوص التي لم تتوافر فيها شروط الصحة نحويًّا إلى موقف تتسم فيه بالسلامة النحوية، أو بتعبير آخر هو صبُّ ظواهر اللغة المنافية للقواعد في قوالب هذه القواعد"[20]، وهذا ما يحدث مع الحذف لإعادة بناء الجملة والتركيب بشكل صحيح ليتطابق مع القاعدة النحوية؛ فالحذف هو "الوسيلة المعتمدة التي تُمكِّن النحاة من تأويل ما خرج عن الأصول التي وضعوها"[21]، أو هو على حد تعبير أستاذنا الدكتور علي أبو المكارم: "أسلوب من أساليب التأويل النحوي، وواحد من طُرقه التي استخدمها النحاة لتبرير الاختلاف بين الواقع اللغوي والقواعد النحوية، وتبرير هذا الاختلاف في نظر النحاة يسلم إلى نتيجتين مهمتين: أولاهما: صحة القواعد، ثانيتهما: سلامة النصوص، والنظر الدقيق لقضية التأويل النحوي وأبعادها ومظاهرها، يُسلم إلى أن هدف النحاة الأصيل إنما هو تصحيح قواعدهم التي ذكروها، عن طريق تسويغ ما يختلف مع هذه القواعد من نصوص تقبل التسويغ، ورفض ما سواها"[22].
________________________________________
[1] كتاب العين للخليل بن أحمد، مرتبًا على حروف المعجم، ترتيب وتحقيق: د. عبدالحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1424هـ - 2003 م، 1 / 297.
[2] لسان العرب لابن منظور الإفريقي، اعتنى بتصحيحه: أمين محمد عبدالوهاب، محمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1419هـ - 1999م، 3 / 93.
[3] البرهان الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر الطبعة الثالثة، منقحة ومحررة 1400هـ - 1980 م، 3/ 102.
[4] معجم مصطلحات النحو والصرف والعروض والقافية، د. محمد إبراهيم عبادة، الطبعة الثانية، مكتبة الآداب، القاهرة،2001 م، صـ 85.
[5] الحذف والتقدير في النحو العربي، د. علي أبو المكارم، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2008 م، صـ 200.
[6] البرهان الزركشي، 3 / 104.
[7] انظر أصول التفكير النحوي، د. علي أبو المكارم، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2007 م، صـ 249.
[8] ظاهرة الحذف والذكر، بحث بمجلة علوم اللغة، المجلد ( 13 )، السنة 2010 م ، العدد الثاني، د. فايز أحمد محمد الكومي: صـ 224.
[9] ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي، د. طاهر سليمان حمودة، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1998 م، صـ 9.
[10] انظر الحذف والإضمار في أسلوب القرآن الكريم، د. عبدالفتاح بحيري إبراهيم، المكتبة السعدية، 1975 م، مقدمة الكتاب.
[11] انظر شعر محمود أبو الوفا، دراسة نحوية دلالية، رسالة ماجستير، دار العلوم، جامعة القاهرة، إعداد مصطفى مصيلحي، 2012 م، صـ 46.
[12] الأسلوب الخبري وأثره في الاستدلال واستنباط الحكام الشرعية، د. محمد بن مشبب جبتر، دار المحدثين، القاهرة، ط 1 1429 هـ - 2008 م، صـ 145.
[13] سر الفصاحة، ابن سنان الخفاجي، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1402 هـ - 1982 م، بدون محقق، صـ 205.
[14] الخصائص لابن جني، تحقيق الأستاذ: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية: 2 / 360.
[15] تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، تحقيق الأستاذ: السيد أحمد صقر، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1954م، صـ 87.
[16] الحيوان للجاحظ، تحقيق وشرح الأستاذ عبدالسلام محمد هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1384 هـ - 1965م، 1 /93.
[17] الحيوان للجاحظ، 1 / 94.
[18] دلائل الإعجاز، عبدالقاهر الجرجاني، قرأه وعلَّق عليه، الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، الطبعة الثالثة 1413هـ - 1992م، صـ 146.
[19] الحذف والتقدير، د. علي أبو المكارم، صـ 201.
[20] الحذف والتقدير، د. علي أبو المكارم، صـ 204.
[21] الجملة في كتاب سيبويه، أمحمد الطيب بنكيران، ابن مسيك للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1990م، صـ 260.
[22] الحذف والتقدير، د. علي أبو المكارم صـ 204.
|