أَهَمِيَّــةُ اَلْعَرَبِيَّــةِ وَمَكَانَتُهَـا
أ.د. عبد الله جاد الكريم
اللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال ، مع الاستطاعة في التَّعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظرًا لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو؛ فإنَّها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية؛ أي : التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية ، وعلماء اللغة حديثًا يُصنِّفـون كُلَّ السُّلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة (أم) أطلقوا عليها (اللغة السَّامية). وأول مَنْ أطلق هذه التَّسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م , والسَّامية أيضا هي مصطلح يُطلق على كُلِّ الشُّعوب والأمم والقبائل قديمًا وحديثًا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف أنَّ التَّوراة أول مَنْ أشار بالنَّص إلى ذلك التَّقسيم . وبعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة ( عربة ) في بلاد تهامة , وقيل : إنَّها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة ، أول مَنْ تَكَلَّـم العربية على صورتها المعروفة ( ) ، وقيل أيضًا أنَّهم سُمُّـوا كذلك نسبةً إلى فصاحة لسانهم فـي الإعراب , وقـد وردت تسمية " العربية منـذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري "( ).والأقـوام الذين تكلَّمـوا العربية لا يُحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم . وهولاء لم يصل لنا شيءٌ من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومَنْ ينحدر منهم... وأخيرًا العرب المُستعربة ؛ وهم أبناء إسماعيل العدنانيون( ).
إنَّ الموروث الكتابي العربي أعمق جذورًا ممَّا يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون (بابليون وآشوريون) بالخط المسماري ، وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام، وكذلك مخطوطات أوغاريت ـ وتل العمارنةـ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد ( ). يقول الأستاذ مرجليوت الأستاذ بجامعه أوكسفورد : إنَّ " اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية ، وأنَّها إحدى ثلاث لغات استولت على سكان المعمور استيلاءً لم يحصل عليه غيرها الإنجليزية والأسبانية ؛ وهي تُخالف أختيها بأنَّ زمان حدوثهما معروف ، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة ، أمَّا اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كُلِّ تاريخ "( ). وتأسيسًا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر. وإنَّ الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا ( ) .
ولقد كرَّم الله تعالى لغتنا العربية بأن أنزل بلسانها القرآن الكريم دستـور الله القويم ؛ ليرسمَ لهم طريق الفوز في الدارين ، وقـد يكـون الاختصارُ سببًا في ذلك ، فالله سبحانه وتعالى رحيم بعباده ، يريد التعبير عن القيم والمعاني السامية الكثيرة في أقل العبارات، ويقول : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، ويقول : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]، ويقول سبحانه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [طه:113]، وقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7]. ولذلك فاللغة العربية بسماتها وخصائصها المُتفرِّدة في كثيرٍ من الأحيان ؛ كانت ولا تزال قادرةً على حمل الرِّسالة ، وتأدية الأمانة والدور المنوط بها الذي قدَّره الله لها أن تقوم به ، وفي هذا الشأن يقول ابن جني :" إنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةِ لُغَـةُ نَبِيِّكَ التي فَضَّلَهَا الله على سائِرِ اللُّغَاتِ , وفرعت بها فيه سامي الدرجات " ( ) ، " وما مِنْ لُغَةٍ تستطيعُ أَنْ تُطَاوِلَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ فـي شَرَفِهَا , فهـي الوسيلةُ التي اُخْتِيْرَتْ لِتَحْمِلَ رِسَالَةَ اللهِ النِّهَائِيَّةِ, وليست منزلتها الرُّوحيةُ هي وحدها التي يسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قُـوَّةٍ وبيانٍ , أمَّا السِّعَةُ فالأمْرُ فيها وَاضِحٌ , ومَنْ يَتْبَعُ جَمِيْعَ اللُّغَاتِ لا يَجِـدُ فيها على ما سمعته لُغَةً تُضَاهِي اللغةَ العربيةَ " ( ) . والعربية لغة القرآن الكريم، وهو مهيمن على ما سواه من الكُتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة . قال تعالى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192- 195]، وقال تعالى : وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[النحل: 103]، فلمَّا وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها،وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية، خصوصاً حين ناط الله بها كلامـه المنزل ، قال تعالـى : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، وقال تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[فصلت: 3]. وقـال : قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 28]، وقال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا [الأحقاف:12]. وقال حافظ إبراهيم على لسان العربية :
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آيٍ به وعِظَاتِ
فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنَّها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ، وقد تكفَّل الله بحفظها ضمنيًّا في قولـه : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. ومن الرَّاجح أنَّ اللغة العربية هي أقدم اللغات على الإطلاق ، كما بينت الدراسات الحديثة ـ وقد مرَّ بنا ذلك ـ وأنها اللغة التي علّم الله بها آدم الأسماء كلها ، وهي لغة أهل الجنة كما ورد في الحديث : » أَحِبوا العرب لثلاث : لأنِّي عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي « ( ). ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين :" كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولمَّا أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بـدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدلُّ على مبلغ رحلتهم ؛ فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولمَّا سُئل جون فرن عن اختياره للغة العربية, قال إنَّها: لغة المستقبل, ولاشك أنَّه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه "( ).
ويرى كثيرٌ من العلماء أنَّ الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النِّفاق ؛ قال رسول الله : » مَنْ يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فانه يورث النفاق«( ) ؛ فلا نعجب إذًا علمنا أنَّ من العلماء مَنْ أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمـر بن الخطاب :" تعلموا العربية فإنَّها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنَّها من دينكم "( ) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلَّم بغيرها .
وقال ابن فارس :" لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم"( ). وقال أبو هلال العسكري : فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه ، وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها, فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة, حتى أثر عن أبي الريحان البيروني (362 -440 هـ) الفارسي الأصل أنه يقول : والله لأَنْ أُهْجى بالعربية ، أحبُّ إليَّ من أن أُمدح بالفارسية ! ( ).
ويقول وليم ورك : إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ويقول الدكتور طه حسين : إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب ، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضًا . واللغة العربية هي أفضل اللغات ؛ حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة . ( ) وذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية .( ) وقد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتًا لا تُحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية، وشهدوا لها بأنَّها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية ، قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" :" من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل , تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها .." ( ) .
وقال المطران يوسف داءود الموصلي:" من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق ، حيث إن عباراتها سلسة طبيعية, يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنُّع وتكلُّـف"( ). ولقد أكد القرآن الكريم حقيقة عروبته في آيات كثيرة , كما ذكرنا، وقال الإمام الشافعي:" فأقام الله سبحانه وتعالى حجته بأنَّ كتابه عربي في كل آية ذكرناها , ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جلَّ ثناؤه ـ كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه"( ) . فقال الله تعالى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103], وقال الله تعالى : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت:44].
فالقرآن الكريم لم يخرج من مألوف العرب في لغتهم العربية , من حيث المفردات والجمل, فمن حروفهم تألفت كلماته , ومن كلماته ركبت جمله , ومن قواعدهـم صيغت مفرداته , وتكونت جمله , وجاء تأليفه , وأحكم نظمه , فكان عربياً جارياً على أساليب العرب وبلاغتهم , ولكنه أعجزهم بأسلوبه وبيانه ونظمه الفذ , إلى جانب نفوذه الروحي , وأخباره بالغيوب , ومعانيه الصادقة , وأحكامه الدقيقة العادلة , والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان , وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى منزله ـ جل جلاله ـ البشر كافة أن يأتوا بمثله . كمـا يجب علينا أن نلاحظ أن القرآن الكريم , لم يعبر بكلمة (لغة), وإنَّما عبَّر بـ ( اللسان ) بمعنى اللغة . وقبل نزول القرآن الكريم كان العرب يتكلَّمـون اللغة العربية بالسَّليقة والسَّجية , فصيحة معربة , سليمة من اللحن والاختلال , ولم تكن لها قواعد مدونة , والنحو المدون لم يظهر حتى ظهر نور الإسلام , ونزل به القرآن , فخرج جيل الفتح الأول داعين إلى توحيد الله, مبشرين بدينه , حاملين كتابه بلسان عربي مبين , فانتشرت العربية بانتشار الإسلام , وكتب العلماء المسلمون من غير العرب أكثر من علماء العرب , وبذلك أصبحت العربية عالمية مقدسـة , ومنتشرة في كثير من أقطار الأرض . ولقد أصبحت اللغة العربية , لغة الدين الحق الذي يؤمن به مئات الملايين من الناس خارج الوطن العربي , ويغارون عليها , ويفضلونها على لغاتهم الأولى , ويرون أنها أفضل اللغات وأحقها بالحياة , وهي أقوى وسيلة من وسائل الترابط والوحدة بين العرب أنفسهم , وبينهم وبين المسلمين الذين يتكلمون بها في البلاد الإسلامية , وهي أقوى من رابطة النسب والدم , لأنَّ الدم لا يمكن استصفاؤه بسبب التصاهر والتزاوج , والعربية بما تحمله من رسالة هـذا الدين وكتابه , هي أساس العلاقات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين العرب والمسلمين , بها تتوحد أساليب التفكير والتعبير, ويمكن التفاهم والتعاون على البر والتقوى , ونصرة الإسلام , وهي الحصن الحصين الذي يحول دون احتلال عقول أبنائها بآراء وأفكار وافدة ( ).
تلك من بعض حكمة الباري ـ جل جلاله ـ الذي أرسل كل رسول بلسان قومه , ولغة أمته التي بعث إليها , لدعوتها إلى الله باللسان الذي تفهم به وليكون لبيان الرسول أثر وتأثير , قال الله تبارك وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]. ولمَّا كانت رسالة المصطفى خاتمة وعامة , فقد وجب على جميع الناس والأمم الإيمان به واتِّباعه , ولا يكمل دين المرء إلا بتلاوة شيء من الكتاب العربي الذي أنزله الله تعالى , ممَّا يجعل لغته لغة أتباعه وأمته , وأمة العروبة ليست أمة بالنسب والدم فقط , وإنَّما من تكلم العربية فهو عربي اللسان والثقافة والانتماء , وقد كان العرب يقولون : كل من سكن بلاد العرب وجزيرتـها ونطق بلسان أهلها ، فهم عرب ( ). وورد عن النبي قوله : » أيها الناس إنَّ الرَّبَّ ربٌّ واحدٌ , والأبُّ أبٌ واحدٌ , والدينُ دينٌ واحدٌ , وإنَّ العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم, إنَّما هي لسان , فمَنْ تكلم بالعربية فهو عربي « ( ). واللغة العربية لغة الفصاحة والبيان ، قال الفارابي في (ديوان الأدب) :" هذا اللسان كلام أهل الجنة, وهو المُنـزَّه من بين الألسنة من كل نقيصة , والمعلى من كل خسيسة , والمهذب ما يستهجن أو يستشنع , فبنى مباني باين بها جميع اللغات من إعراب أوجده الله لـه , وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به " ( ) .
يقول ابنُ الأثير:" اللُّغَةُ العَرَبِيَّةِ سَيِّدَةُ اللُّغَاتِ ؛ فهي أشرفَهُنَّ مَكَانًا , وأَحَسْنَهُنَّ وَضْعًا ؛ وذلك لأنَّهَا جَاءَتْ آخرًا فَنَفَتْ القَبِيْحَ مِنْ اللُّغَاتِ مِنْ قَبْلِهَا, وأخـذتْ الحَسَنَ , ثُمَّ إِنَّ وَاضِعَهَا تَصرَّف في جميع اللغات السالفة , فاختصر ما اختصر وَخَفَّفَ مَا خَفَّفَ " ( ) . ويقول أبو القاسم محمود الزمخشري الخوارزمي , في مقدمة كتابه (المفصل ):" اللهَ أحمد على أن جعلني من علماء العربية ,.." ويقول الزمخشري أيضًا :" ولعلَّ الذين يَغُضُّونَ مِنْ العربية ، ويضعون من مقـدارها ، ويريـدون أنْ يُخَفِّضُـوا ما رفعَ الله مِنْ مَنَارِهَا ؛ حيث لـم يجعلْ خِيْرَةَ رُسُلِهِ وخَيْرَ كُتُبِهِ في عَجَمِ خَلْقِهِ ؛ ولكن في عَرَبِهِ، لا يَبْعُدُوْنَ عَنْ الشُّعُوْبِيَّةِ مُنَابَذَةً لِلْحَقِّ الأَبْلَجِ،وزَيْغًا عَنْ سَـوَاءِ المَنْهَجِ، والذي يَقْضِي مِنْهُ العَجَبُ حَالُ هؤلاءِ فِي قِلَّةِ إِنْصَافِهِمْ وَفَرْطِ جَوْرِهِمْ واعْتِسَافِهِمْ" ( ). وذكر الشافعيِّ أَنّ على الخاصَّة الّتي تقومُ بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلّم لسان العرب ولغاتها ، التي بها تمام التوصُّل إلى معرفة ما في الكتاب والسُّنن والآثار ، وأقاويل المفسّرين من الصحابة والتابعين ، من الألفاظ الغريبة ، والمخاطباتِ العربيّة ، فإنّ من جَهِلَ سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها ، وافتنانها في مذاهبها جَهِلَ جُملَ علم الكتاب، ومن علمها، ووقف على مذاهبها، وفَهِم ما تأوّله أهل التفسير فيها، زالت عنه الشبه الدَّاخلةُ على من جَهِلَ لسانها من ذوي الأهواء والبدع.( )
وقال ابن قيّم الجوزيّة:" وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب ، فعرف علم اللغة وعلم العربية ، وعلم البيان ، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ، ورسائلها " ( ). وقال أيضًا:" فإنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون "( ). وقال أيضًا:" وما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات وهو التكلّم بغير العربية إلاّ لحاجة ، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد ، بل قال مالك : مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه، مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة ، ولحفظ شعائر الإسلام "( ) وقال أيضًا:" اعلم أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيراً قويّاً بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهةِ صدرِ هذه الأمّةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ ، وأيضاً فإنّ نفس اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب "( ) وقال:" معلومٌ أنّ تعلمَ العربية وتعليمَ العربية فرضٌ على الكفاية ، وكان السلف يؤدّبون أولادهم على اللحن ، فنحن مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظ القانون العربي، ونُصلح الألسن المائلة عنه ، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنّة ، والاقتداء بالعرب في خطابها ، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً ".( )وقال أيضًا:" لا بُدّ في تفسير القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلّ على مراد الله ورسوله من الألفاظ ، وكيف يُفهَم كلامُه ، فمعرفة العربية التي خُوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه ، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني ، فإنّ عامّة ضلال أهم البدع كان بهذا السبب ، فإنّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدّعون أنّه دالٌّ عليه ، ولا يكون الأمر كذلك " ( )
وقال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله :" ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها ، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ : أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً ، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ "( ). وقال الباقوري: "ولو فرضت أنه نزل كما نزل غيره من الكتب المقدسة، حكماً وأحكاماً، وأمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، ولم يتحر هذا الأسلوب الذي جاء به، فلم يعن الناس بلفظه ولم ينظروا إليه قولاً فصلاً، وبياناً شافياً، وبلاغة معجزة، لكان من الممكن أن تزول هذه اللغة بعد أن يضعف العنصر الذي يتعصب لها على أنها لغة قومية، ومن ذلك تضعف هي وتتراجع حتى تعود لغة أثرية. وفي اللغة العبرية ما يؤكد هذا، فإنها ـ وهي لغة كتاب مقدس ـ صارت إلى ذمة التاريخ، ولو أن التوراة جاءت كما جاء القرآن فتحدت اليهود على النحو القرآني لاحتفظوا بلغتهم ؛ لأنَّ في ذلك احتفاظاً بمعجزة نبيهم، فكان ممكناً أن نرى لغة موسى "( ).
ومن هذا المنطلق نجد الثعالبي يعبر عن هذه اللغة أبلغ تعبير فيقول في مقدمة كتابه الشهير فقه اللغة وسرّ العربية: "من أحبَّ الله تعالى، أحب رسوله محمداً ، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها ، وثابر عليها ، وصرف همته إليها ، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمدًا خير الرسل ، والعرب خير الأمم ، والعربية خير اللغات والألسنة ، والإقبال على تفهمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ، ومفتاح التفقه في الدين ، وسبب إصلاح المعاش والمعاد ، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها ، والوقوف على مجاريها ومصارفها ، والتَّبحر فـي جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن ، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان ، لكفى بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره" ( ) .
ولقد منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال، وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله: "نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنَّما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم" ( ) . هذا ما عبر به إمام العربية الرافعي رحمه الله، وليس هو فحسب، بل اعترف أعداء العربية من المستشرقين وغيرهم بقوة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها.
و لقد تحدث عن العربية وفضلها ومكانتها كثير من المستشرقين ، ومن ذلك قول المجري عبد الكريم جرمانوس :" إنّ في الإسلام سنداً هامّاً للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حـدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين جدران المعابد . ولقـد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثاً ، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آلافاً من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً ونماءً .والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى، فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهـم آداب لغتهم التي كتبت فـي الجاهلية قبل الإسلام " ( ).
وقال المستشرق الألماني يوهان فك :" إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة ، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية ، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر ، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية" ( ). وقال جوستاف جرونيباوم :" عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد أنزلها " قرآناً عربياً " والله يقول لنبيّه " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدّاً " وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها ، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية ، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان ، أما السعة فالأمر فيها واضح ، ومن يتّبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية ، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات . وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغة العرب ، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز ، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى ، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى ، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني ، وفي النقل إليها ، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيّ أقصر في جميع الحالات ، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران ـ وهو عارف باللغتين العربية والسريانيةـ أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسناً، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة ، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة ، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً"( ) .
وقال المستشرق ألفريد غيوم عن العربية :" ويسهل على المرء أن يدركَ مدى استيعابِ اللغةِ العربيةِ واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية للعالم القديم بكل يسرٍ وسهولة ، بوجود التعدد في تغيير دلالة استعمال الفعل والاسم ...... ، ويضرب لذلك مثلاً واضحاً يشرح به وجهة نظره حيث يقول :" إن الجذر الثلاثي باشتقاقاته البالغة الألفَ عَدّاً ، وكلٌ منها متّسق اتساقاً صوتياً مع شبيهه ، مشكّلاً من أيّ جذر آخر ، يصدر إيقاعاً طبيعياً لا سبيل إلى أن تخطئه الأذن ، فنحن (الإنكليز) عندما ننطق بفكرة مجرّدة لا نفكر بالمعنى الأصلي للكلمة التي استخدمناها ، فكلمة (Association) مثلاً تبدو منقطعة الصلة بـ (Socins) وهي الأصل ، ولا بلفظة (Ad) ، ومن اجتماعهما تتألف لفظة (Association) كما هو واضح وتختفي الدالّة مدغمة لسهولة النطق ، ولكن أصل الكلمة بالعربية لا يمكن أن يَسْتَسِرّ ويَسْتَدِقّ على المرء عند تجريد الكلمة المزيدة حتى يضيع تماماً ، فوجود الأصل يظلّ بَيّناً محسوساً على الدوام، وما يعدّ في الإنجليزية محسّناتٍ بديعيةً لا طائل تحتها، هو بلاغةٌ غريزيةٌ عند العربي"( ).
وقال المستشرق الألماني نولدكه عن العربية وفضلها:" إن اللغة العربية لم تَصِرْ حقّاً عالميةً إلا بسبب القرآن والإسلام ، وقد وضع أمامنا علماءُ اللغة العرب باجتهادهم أبنيةَ اللغة الكلاسيكية ، وكذلك مفرداتها في حالة كمالٍ تامٍّ، وأنه لا بدّ أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية، عندما يعرف أن علاقات المعيشة لدى العرب بسيطةٌ جداً، ولكنهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمةٍ خاصّةٍ، والعربية الكلاسيكية ليست غنيّةً فقط بالمفردات ولكنها غنيةٌ أيضاً بالصيغ النحوية، وتهتمّ العربية بربط الجمل ببعضها ... وهكذا أصبحت اللغة (البدويّة) لغةً للدين والمنتديات وشؤون الحياة الرفيعة، وفي شوارع المدينة، ثم أصبحت لغةَ المعاملات والعلوم، وإن كلَّ مؤمنٍ غالباً جداً ما يتلو يومياً في الصلاة بعض أجزاء من القرآن، ومعظم المسلمين يفهمون بالطبع بعض ما يتلون أو يسمعون، وهكذا كان لا بُدّ أن يكون لهذا الكتاب من التأثير على لغة المنطقة المتّسعة ما لم يكن لأيّ كتابٍ سواه في العالم، وكذلك يقابل لغة الدين ولغة العلماء والرجل العادي بكثرة ، ويؤدّي إلى تغيير كثيرٍ من الكلمات والتَّعابير في اللغة الشعبية إلى الصحّة "( ).
وقال المستشرق الفرنسي رينان :" من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل ، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها ، ولم يُعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولةٌ ولا شيخوخةٌ ، ولا نكاد نعلم من شأنها إلاّ فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى ، ولا نعرف شبيهاً بهـذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كلّ شائبة " ( ). وقال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون :" استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواءً كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها . واللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي ، والعربية من أنقى اللغات ، فقد تفرّدت بتفرّدها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي ، إنّ التعبير العلمي الذي كان مستعملاً في القرون الوسطى لم يتناوله القدم ولكنه وقف أمام تقدّم القوى المادية فلم يتطوّر . أمَّا الألفاظ المعبّرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية ؛ فإنَّها لم تحتفظ بقيمتها فحسب بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وتنشّطه . ثمّ ذلك الإيجاز الذي تتسم به اللغة العربية والذي لا شبيه له في سائر لغات العالم ، والذي يُعدّ معجزةً لغويةً كما قال البيروني"( ).
وقالت المستشرقة الألمانية زيفر هونكة :" كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة ، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللغة العربية بشغفٍ، حتى إن اللغة القبطية مثلاً ماتت تماماً، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمد"( ). وقال المستشرق الألماني كارل بروكلمان:" بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدىً لا تكاد تعرفه أيُّ لغةٍ أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن العربية وحدها اللسانُ الذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم..."( ). وقال د. جورج سارتون :" ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الله مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد"( ) .وأكّد المستشرق (ريتر) أستاذ اللغات الشرقية بجامعة أستنبول "أنَّ اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها ، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقةٍ جديدةٍ لتسهيل السهل وتوضيح الواضح، إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا كانوا يكتبون ما أمليه عليهم من المحاضرات بالحروف العربية وبالسرعة التي اعتادوا عليهاـ لأن الكتابة العربية مختزلةٌ من نفسهاـ أمَّا اليوم فإن الطلبة يكتبون ما أمليه عليهم بالحروف اللاتينية ، ولذلك لا يفتأون يسألون أن أعيد عليهم العبارات مراراً، وهو معذورون في ذلك لأن الكتابة الإفرنجية معقّدةٌ والكتابة العربية واضحةٌ كلّ الوضوح ، فإذا ما فتحتَ أيّ خطابٍ فلن تجدَ صعوبةً في قراءةِ أردأ خطٍّ به ، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح "( ). ولقد نوّه تشومسكي في معرض ردّه على استفسارٍ وُجّه إليه في سنة 1989م بأن تأثيراتِ النحو العربي كبيرةٌ على نظريته في دراسة اللغة، وأنـه قـرأ كتاب سيبويه كمرجعٍ له" . ( )
وأشاد ماريو بِلْ مؤلف كتاب (قصة اللغات) ( The Story of Languages ) (ص 155,277 ) بأن العربية هي اللغة العالمية في حضارات العصور الوسطى ، وكانت رافداً عظيماً للإنكليزية في نهضتها وكثيرٍ من الأوربيّات ، وقد أورد قاموس (Littre) قوائمَ بما اقتبسته هذه اللغات من مفرداتٍ عربيةٍ، وكانت أولها الإسبانية ثم الفرنسية والإيطالية واليونانية والمجرية وكذلك الأرمنية والروسية وغيرها، ومجموعها 27 لغة، وتقدر المفردات بالآلاف ( ). وقال المستشرق الألماني فرنباغ :" ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب ، بل إنَّ الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلاّ بصعوبة".( ) ويؤكد العلامة الألماني "اسوان اشبلنجر" فى معجمه عن اللاتينية والعربية على ذلك. وقال الأستاذ ميليه :" إنَّ اللغة العربية لم تتراجع عن أرض دخلتها لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين ولغة مدنية ، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المبشرون ، ولمكانة الحضارة التي جاءت بها الشعوب النصرانية لم يخرج أحد من الإسلام إلى النصرانية ، ولم تبق لغة أوربية واحدة لم يصلها شيء من اللسان العربي المبين ، حتى اللغة اللاتينية الأم الكبرى ، فقد صارت وعاءً لنقل المفردات العربية إلى بناتها ".( ) وقال الفرنسي جاك بيرك :" إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية ، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات ، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا ، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية ، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملاً قوياً في بقاء الشعوب العربية " ( ).
ويقول الأستاذ مرجليوت الأستاذ بجامعه أوكسفورد : اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية وهى واحدة من ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليها غيرها ، الانجليزية الاسبانية أختاها تخالف أختيها بان زمان حدوثهما معروف ولا يزيد سنهما على قرون معدودة أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ .ويقول الفرنسي "وليم مرسيه" : العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور.ويقول الفرنسي "لويس ماسينيون": اللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي . والإيطالي "كارلو نلينو" : اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقًا ، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها . والإسباني "فيلا سبازا" : اللغة العربية من أغنى لغات العالم بل هي أرقى من لغات أوروبا؛ لأنَّها تتضمن كل أدوات التعبير في أصولها ، في حين الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وسواها قد تحدرت من لغات ميتة ، وإني لأعجب لفئة كثيرة من أبناء الشرق العربي يتظاهر أفرادها بتفهم الثقافات الغربية ويخدعون أنفسهم ليقال عنهم أنهم متمدنون .
ويقول المستشرق الأمريكي: وليم ورل ـ مدير المباحث الشرقية بالقدس : إن اللغة العربية لم تتقهقهر فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التى احتكت بها ، وينتظر أن تحافظ على كيانها فى المستقبل كما حافظت عليه فى الماضى وللغة العربية لين ومرونة يمكنانها من التكيف لمقتضيات هذا العصر، إن اللغة التركية من خلال 250 سنة لم تستطع القضاء على العربية أو إضعاف مكانتها. ويقول الأستاذ ماكس فانتا جوا فى كتابه (المعجزة العربية): الحق أن مؤرخينا قد حاولوا جهد هم أن يجعلوا من العالم الغربي محوا للتاريخ؛ مع العلم بأن كل مراقب يدرك أن الشرق الأدنى هو المحور الحقيقي لتاريخ القرون الوسطى. إنَّ تأثير اللغة العربية في شكل تفكيرنا كبير، وقد لاحظ ذلك الاجتماعي شبلنجر حيث سجل ملاحظاته في كتابه الشهير "إنهيار الغرب" قائلاً : لقد لعبت العربية دورًا أساسيًا كوسيلة لنشر المعارف ، وآلية التفكير خلال المرحلة التاريخية التي بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان والرومان عن طريق الهند، ثم انتهت حين خسروها ( ).
وسيطول بنا المقام لو رحنا نسرد كل ما قاله العلماء العرب أو الغرب من المنصفين عن اللغة العربية وأهميتها ومكانتها وتاريخها المشرق.
|