أمة المجد والبيان
د. محمد سعيد حسب النبي
لا يختلف علماء اللغات في أن اللغة العربية أغنى اللغات السامية مادة وأعذبها سحر بيان، وأرقها حاشية تبيان. وقد نزلت على ألسنة العرب فَجَرَت على ألسنتها سحراً.. كلُّ سحر غيره باطل، ولا بدع فكل بلد هي حِلٌ به بابل. وقد انقطعت ألسنة من منابتها، واجتثت لغات من أصولها، فلم يبق منها إلا آثار تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وتلك اللغة تدور مع الفلك؛ لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم.
ومن بديع ما طالعت يوماً ما وصف به الشاعر محمد صادق عنبر لغة الضاد فقال: وآية لها أنك ترى كيف عجز السيف على سعة الزمن أن يحول أمة عن لغتها، وقد استطاعت –ولم تجرد سيفاً- أن تشق لها طريقاً إلى ألسنة أعيا على غيرها علاجُها، وتقتحم العقبات إلى قلوب كان محكماً عليها رتاجُها؛ فكأنها كانت ديناً لفطرة الألسنة لتكون بعد ذلك لساناً لدين الفطرة، ولا عجب إذا قَدِرتْ أن تصبغ كل بلد حَلّتْ به صِبْغةً عربيةً إذ قالت لكل شيء: كن منذ الآن، فكان عربياً.
دخلت اللغة العربية كثيراً من بقاع الأرض، فما هي إلا فترة يبلغ الصبي في دونها الحُلم حتى استتب لها الأمر، في بدأةً تطوف بأركان الجزيرة الجرداء على صفة ما كانت تأخذه أعين الناطقين بها من الفَدْفَد الوعر، والمَهْمَهِ القفر، ومن الليث إذا زأر، والحمامة إذا سجعت، والناقة إذا ضغنت، والريح إذا لفحت، والسماء إذا ضنَّت، والأرض إذا حرَّت، والمكارم إذا هزَّت، والخيل إذا استنت، والأسنة إذا اشتجرت، ونحو هذا مما هو بتلك البادية أشبه وأمثل.
ومن مطاف اللغة في بادئ أمرها، ومن سماء تلك البادية الناطقة؛ استمدت العربية ذلك الخيال الذي يريك من الورد الذابل خدَّاً نديَّاً، ومن الغصن المائل قدَّاً عادلاً سمهريَّاً.
وقد تسربت العربية بين العصا ولحائها، وتغلغلت بين الذَّرة وأجزائها، ومادَّت العلمَ حَبْلَها وقد ظلَّ ما بينه وبينها مبلولاً؛ فلم ييبس إلا حقباً معدودات؛ فقد وسعت معارف الدهر كلها، ولا تزال آثار العرب حجة لهم ولعربيتهم ناهضة لم تقعد بها الأيام.
إن العربية التي نبتت في تلك البيداء قد مدَّت ظلها على العلم كله، وذلك العربي الذي حيَّ حياته الأولى في منقطع من الأرض إذا سافرت فيه عيناه ففي صميم القفر، وإذا وقفنا به فعلى أديم الصخر، قد مشى بلغته مدىً بعيداً في أمد قريب.
فسلام على ذلك العهد النضير، وعلى تلك البادية التي نبتت فيها أمة المجد والبيان، وسلام على هذه اللغة الخالدة على فناء الزمان.
|