وائل بورشاشن
يجدّد السيميائي والمترجم المغربي البارز سعيد بنكراد رفضه دعوة "تبنّي الدّارجة" في كتاب جديد، مفرّقا بين العامية التي تبدع الزجل والمسرح، و"التلوث" اللساني المتداول من طرف المهمّشين والإذاعات الخاصّة.
ويرى بنكراد أنّ النقاش حول موقع العاميّة بالمغرب مازال في بدايته، في ظلّ عمل مؤسسات ليل نهار من أجل "تدريج" الفضاء الثقافي المغربي، وعقد ندوات اتّخذت بعدا إقليميا من أجل ذلك، مسجّلا أنّ عودة اللغة العربية إلى الفضاء العمومي رهينة بقرار سياسي، بعدما كان خروجها منه نتيجة قرار سياسي.
وبمناسبة صدور كتاب "العربية ورهانات التّدرج"، الذي سيكون في متناول القارئ المغربي والعربي في شهر فبراير الجاري، حاورت جريدة هسبريس الإلكترونية السيميائي سعيد بنكراد، للتّعرّف على مضامين مولوده العلمي الجديد، ورأيه في خبايا الدعوة إلى "الدّارجة الوطنية"، ومقصد خصّه موضوع تعميم "العامية" في المغرب والتدريس بها بكتاب.
سبق أن تطرّقت لخبايا المناداة باعتماد الدّارجة لغة للتّعليم في محاضرات، وفي ملحق نشر مع كتيّب "سيميائيات الدستور المغربي"، مع خبو نقاش الدّارجة والتّلهيج في المغرب، ما مقصد خصّ هذا الموضوع بكتاب؟
أولا الموضوع لم ينته بعد، بل بالعكس مازال في بدايته. هناك مؤسسات قائمة الذات تعمل ليل نهار من أجل "تدريج" الفضاء الثقافي المغربي، وقد عُقدت ندوات من أجل ذلك، بل إن الأمر اتخذ بعدا إقليميا، فقد نظم صاحب قاموس الدارجة ندوة في الشهور الأخيرة في المغرب، شارك فيها جزائريون وتونسيون من أجل "تعميم" التجربة المغربية في ميدان التدريج؛ بل إنه جند "الخبراء" لكي يكتبوا في الموضوع، وجاء بأساتذة فرنسيين في اللسانيات لكي يقنعوا المغاربة بتبني الدارجة، وذلك بلغتهم الفرنسية التي يحافظون على سلامتها في كل الاستعمالات، ويعتبرون اللحن فيها جريمة (هناك مغاربة يفتخرون بأنهم لا يعرفون العربية).
ثانيا كتابي ومقالاتي لا تندرج ضمن سجال سياسي، بل يتعلق الأمر عندي برؤية أكاديمية تناقش موضوع الدارجة خارج مبررات الدين والهوية أو غيرهما.. إنها جزء من قضايا اللغة وموقعها عند الإنسان. إن اللغة ليست أداة يُلقَى بها بعد استعمالها، إنها الكينونة ذاتها، فنحن نحضر في ذاكرة العالم من خلال نوعية اللغة التي نستعملها في التسمية والوصف، ولكن اللغة هي أداة التأمل النظري في المقام الأول، والدارجة ليست موجهة إلى هذه الوظيفة الأخيرة.
الدارجة، دارجتنا، هي جزء من معيشنا اليومي، وهي أداة في تدبير الشأن اليومي أيضا، ويمكن أن تكون مصدرا لإبداعات زجلية ومسرحية رائعة؛ لكنها غير "التلوث" اللساني الذي يتداوله المهمشون، وهي غير لغات الإذاعات الخاصة التي تتحدث كل اللغات ولا تتحدث في نهاية أيا منها (وقد خصصت الفصل السادس لما سميته "العُري اللغوي"، درست فيه ما يروج له في "يوتوب" تحت يافطة "النكات الخاسرة").
نقاش اعتماد اللغات العامّية جديد قديم، فإذا كان قد بلغ مداه في المغرب في السنوات القليلة الماضية فإنّه تكرّر في دول عربية أخرى في أواسط القرن الماضي، كمصر وبعد ذلك في لبنان...ما الذي تخفيه هذه الدّعوة إلى تنمية واستعمال "الدّارجة الوطنية"؟.
لقد تحدثت عن هذا الأمر بتفصيل في الفصل الثاني من الكتاب. وهي ليست دعوة، بل دعوات في لبنان ومصر وبلدان عربية أخرى. ومع أنني لا أومن بفكر "المؤامرة" والدسائس التي تُحاك ضد الأمة، كما يشيع ذلك البعض، فقد أُصبت بدهشة كبيرة حين اطلعت على ما أثير حول هذه القضية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مجموع الأقطار الناطقة جزئيا أو كليا بالعربية؛ ذلك أن التاريخ يؤكد أن الذين نادوا بالعودة إلى أصول لغوية لهْجية كانوا في غالبيتهم إما من القادة الغزاة الذين جاؤوا لاحتلال هذه البلدان، أو من المستشرقين أو المستعربين الذين عاشوا في بعض الأقطار العربية (مصر وسوريا ولبنان)، وإما من المثقفين المحليين الذين ارتبطوا بمراكز فكرية ولغوية واقتصادية أجنبية. وإن كان التاريخ أثبت فساد هذه الدعوة، فإن التشويش على العربية ظل سائدا إلى يوم الناس هذا.
كيف يمكن للدّعوة إلى استعمال الدّارجة أن تكون تمهيدا للتّخلّص من العربية لصالح لغات أجنبية كما تذكر في مقدّمة كتابك الجديد؟.
لسبب بسيط، لأن الذين يدعون إلى اعتماد الدارجة في التعليم يعرفون جيدا أن ذلك لن يتحقق، الدارجة نفعية وحسية ومرتبطة بحاجات الناس اليومية. ثانيا لا تتمتع الدارجة برسم يمكن اعتماده في تعلمها، ثالثا إنها ليست قارة، فدارجة المثقفين ليست هي دارجة الدهماء وحثالة القوم، وليست هي دارجة المواطنين الذين يشكون من الأمية، وهم كثر في بلادنا.
لذلك، فإن السبيل إلى التخلص من العربية سيمر عبر رفع شعار الاعتماد على لغة محلية بسيطة لكي تكون ممرا نحو اللغات الأجنبية؛ وهو ما يقوله القيمون على التعليم في بلادنا، بل إن صاحب الدعوة إلى الدارجة صرح بأن الذين يستعملون العربية "امكلخين"، أي أغبياء.. فإذا كان الذي سيتعلّم العربية المعيارية "مكلّخ"، فكيف سيكون الذي لا يعرف سوى الدارجة. بل هناك من أخذته الحمية وتحدث عن فئة جديدة في المغرب سماها الدارجوفونيون. وهم قوم خُيروا بين لغات كثيرة، يتقنونها، واختاروا الدارجة.
تقول في هذا المنشور الجديد إنّ العربية في حاجة إلى قرار سياسي يعيدها إلى فضائها الحيوي الذي فقدته أو فُرض عليها التخلّي عنه، لأن اللغة لا يمكن أن تستمرّ في الوجود إذا كانت غريبة عن محيطها. هل وجود العربية مهدّد في ظلّ استمرار غياب التّنسيق العربي في الترجمة ووضع المعاجم، وبداية تنزيل المغرب "القانون الإطار" لمنظومة التربية والتكوين الذي يعتمد الفرنسية أساسا لغة لتدريس الموادّ العلمية، ما قد يعني مزيدا من إبعاد العربية عن مجالات البحث المعاصرة؟.
بطبيعة الحال، هي في حاجة إلى قرار سياسي، فقد خرجت من الفضاء العمومي نتيجة قرار سياسي، ويجب أن تعود بقرار سياسي.
الدولة المغربية تدير شأنا اقتصاديا بدون أي حاضن حضاري، فنحن نبيع ونشتري ونصدر ونستورد من أجل العيش، من أجل البقاء فقط. أما بناء مواطن يحمي ذاكرته وينتج ضمن ممكناتها ووفق المتاح الحضاري المعاصر، فهذا أمر ليس جزءا من الفعل السياسي. والحال أن النموذج التنموي ليس مجرد أرقام ومعادلات ونمو فحسب، إنه أيضا، وربما في المقام الأول، نمو في الوعي والتمدن وإنتاج قيم ترقى بسلوك الإنسان وأخلاقه.
أما عن اللغات الأجنبية فأنا لست ضدها، ولا يمكن أبدا أن أكون ضدها، وأنا أقرأ بالفرنسية أكثر مما أقرأ بالعربية، ولكنني أفعل ذلك خدمة للعربية وتراثها وإبداعها الحالي؛ فالدول الناجحة هي التي عرفت كيف تستفيد من هذه اللغات ولكنها حافظت على لغتها أو لغاتها. هذا أمر من بداهات الوجود.. فلا أحد من الفرنسيين طالب الدولة بالتدريس بالإنجليزية لأنها الآن أقوى من الفرنسية، ولكن يوجه الفرنسيون لتعلمها. والإنجليزية ليست ضرورية في الأسلاك الأولى من التعليم الجامعي، كما يروج لذلك البعض، إنها تصبح كذلك في مستويات عالية من البحث العلمي.
هسبريس