|
|
ليس كل خلاف نحوي معتبرا
د.عادل فتحي رياض أحمد
ليس كل خلاف نحوي معتبرا
د. عادل فتحي رياض
لا يضير العلم وقوع الخلاف بين أهله في مسائله، ولا يخرجه ذلك من دائرة العلم المنضبط المؤصل، وتتنوع حيثيات النظر إلى الخلاف، فقد يدرس لمعرفة قوته أو ضعفه، أو عزو كل قول إلى قائله لرسم خريطة مدرسته الفكرية، أو تمحيص ذلك الخلاف أهو خلاف حقيقي؟ أم لفظي؟ وإذا كان خلافا حقيقيا _ معنويا _ فهل ينبني عليه أثر بحيث تختلف نتيجته؟ أو لا؟
وما من علم منضبط إلا وفيه المتفق عليه والمختلف فيه، وعلم النحو كذلك، وهو علم منضبط بأصولٍ ومقاييسَ وقواعدِ ترجيحٍ وتوجيه، فكأنه شجرة ذات جذور راسخة، وجزع متين، تتفرع منها أغصانها وتنتج ثمارها. فالجذور: الكلام العربي. والجزع: أصوله وقواعده الثوابت. والأغصان: فروعه ومسائله. ثم الثمرة وهي: الأثر في اللفظ والمعنى. ثم تتنوع مظاهر هذا الأثر فيما يتعلق بالمعنى صحة أو فسادا. وما يتعلق بالقاعدة المقررة من حيث الموافقة أو المخالفة. وما ينتج عن بعض ذلك من تغير الحركة الإعرابية، أو المحل الإعرابي.
وقد يقع الخلاف في تأصيل القاعدة؛ كالخلاف بين البصريين والكوفيين، وقد يكون في التوجيه والإعراب، كما في كتب إعراب القرآن وشواهد النحو.
وإذا كانت ثمرة الخلاف هي أثره في اللفظ أو المعنى أو فيهما معا. وإذا كان ما لا ثمرة له فلا أثر له في ذلك؛ فإن الأصل والغالب في مسائل النحو هو الخلاف المثمر.
وليس كلُّ خلافٍ غيرِ مثمر خلافا لفظيا _ وهو ما اختلفت عباراته واتفق معناه _ بل منه المعنوي المبني على أدلة ونظر صحيح، ولكن لا أثر له في الحكم الظاهر.
وأشهر مسائله:
مسألة رافع المبتدأ والخبر. وهي مما اختلف فيه الفريقان البصريون والكوفيون، وهي المسألة الخامسة في الإنصاف لابن الأنباري، فهل رفعَ الابتداءُ المبتدأَ والخبرَ؟ أم أن المبتدأ رفع الخبر؟ أم أن المبتدأ مرفوع بالابتداء، والخبر مرفوع بهما؟ أم أنهما مترافعان؟ قال ابن عقيل:
"وهذا الخلاف مما لا طائل فيه". واختار الأشموني أن الخلاف في هذه المسألة لفظي، فلا يترتب عليها عمل ولا فائدة.
ومنه عامل الرفع في الفاعل. فهل هو المسند فعلا كان أو شبهه؟ أم أنه الإسناد؟ خلاف بين النحويين، قال الشاطبي: "وعلى الجملة فهو خلافٌ في اصطلاح، لا ينبني عليه حكم عند الجميع"
ومسألة عامل الرفع في المضارع، فهل سبب رفع التجرد؟ أم حلوله محل الاسم؟ أم الزيادة أوله؟ ... إلخ "إلى غير ذلك من آراء متعددة، لا يسلم واحد منها من اعتراضات مختلفة، ولا يقوى اعتراض منها على الثبات أمام الردود التي توجه إليه ... وهذه المعركة الجدلية الشاقة لا طائل وراءها. ومن إضاعة الوقت والجهد الوقوف عندها. أما حقيقة الأمر فهي أن العربي رفع المضارع الذي لم يسبقه ناصب ولا جازم، ونصبه أو جزمة إذا تقدمت الأداة الخاصة بهذا أو بذاك؟
ولا فائدة لهذا الخلاف ولا ينشأ عنه حكم تطبيقي _ كما في الهمع _ وعن الشاطبي: "والمسألة على الجملة لا يَنْبني عليها حكم، فالأمر فيها قريب"
وقل مثل ذلك في الخلاف في عامل النصب للمفعول به والمفعول المطلق.
وكذلك خلافهم في أيهما الأصل؛ الفعل أم المصدر؟ وهي المسألة الثامنة والعشرين من مسائل إنصاف ابن الأنباري. وإحدى المسائل التي اشتهر الخلاف فيها بين البصريين والكوفيين، والمراد بالأصل هنا: الحروف الموضوعة على المعنى وضعا أوليًّا، والمراد بالفرع: لفظ يوجد فيه تلك الحروف، مع نوع تغيير ينضم إليه معنى زائد على الأصل.
الأشموني، منهج السالك 1/ 183 وحشّى الصبان عليه: "قوله: "لفظي" أي لا يترتب عليه فائدة ومنعه بعضهم بأنك إذا قلت زيد قائم وعمرو جالس وأردت جعله من عطف المفردات يكون صحيحًا عن القول بأن العامل في الجزأين الابتداء بخلافه على بقية الأقوال للزوم العطف على معمولي عاملين مختلفين"
المسألة، وأن البحث فيها عيٌّ لا يجدى، ولا فائدة فيه. وهو ما حدا الشاطبي ألا يطيل النفس في بحثها، وقال: " ولنقتصر عليه، فالكلام فيها طويل الذيل مع قلة الفائدة؛ إذ لا ينبني عليها حكم صناعي، وإنما فيها بيان وجه الصناعة خاصة".
ومنها: الخلاف في علامات إعراب الأسماء الستة؛ الحروف أم الحركات ...؟ فيه عشرة مذاهب كما يقول المرادي، وأقواها مذهبان: الأول وهو مذهب جمهور البصريين: أنها معربة بالحركات المقدرة قبل الحروف. والآخر وهو اختيار الزجاجي وابن مالك في الألفية: أنها معربة بالحروف المذكورة. وهذا الخلاف مما لا ينبني عليه حكم، وتلك الحركات المقدرة لا تظهر، والحروف قد أفادت ما تفيده.
ومنها الخلاف المقترنات بالضمير (إيّــا): أهي أسماء أم حروف؟ أو نقول: هل الضمير هو (إيّا)؟ أو أن الضمير (إيّا) وملحقاته؟ مذهب سيبويه أن "إيا" هو الضمير المنصوب المنفصل ولواحقه حروف تدل على المراد به من تكلم أو خطاب أو غيبة. ومذهب الخليل وابن مالك أن اللواحق ضمائر، وهي مسألة "لا ثمرة لها في الصناعة، ولا فائدة في الكلام" _ كما يقول الشاطبي.
ومثل هذه المسألة خلافهم في علامات إعراب المثنى والجمع، فذهب الكوفيُّون إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع بمنزلة الفتحة والضمة والكسرة في أنها إعراب. وذهب البصريّون إلى أنها حروف إعراب. وذهب الأخفش والمبرّد إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب، ولكنها تدل على الإعراب ... إلخ
قال أبو حيان: "وليس يستفاد من ذلك حكم نطقي، ولا حكم في اختلاف معنى كلامي، وقد طول أصحابنا وغيرهم في ذلك وفي كون التثنية كانت الألف والجمع السالم بالواو رفعاً وجرهما ونصبهما بالياء، وأبدوا لذلك عللاً ليس تحتها طائل، وهي من فضول الكلام"
الشاطبي، المقاصد الشافية 3/ 224، وبعدها في مسألة اشتقاق الصفة من المصدر أم الفعل؟ قال: "وهذا البحث أيضًا لا ينبني عليه حكم" 3/ 225
ومن هذه المسائل التي اختلف فيها النحاة ولا يظهر لها ثمرة في إنشاء الكلام: الأصل في المرفوعات أهو المبتدأ أم الفاعل؟ فعن أبي حيان: "هذا الخلاف لا يجدي فائدة"
_ نوع (ما) في جملة التعجب نحو: ما أحسن زيدا! فيه أقوال: اسم نكرة بمعنى شيء، وموصولة، واستفهامية متجردة عن معناه ... قال الشاطبي: "هذا كلُّه، وإن كان فيه بحثٌ ونظر، فتخليصُه عَسِير، والاشتغالُ به تكثير، والقَصْدُ حاصل، والكلام مُنْضبط بدون هذا التطويل، فترَكَه لمن يَتَرجَّح عنده النَّظُر فيه، ونِعمَّا فَعَل. وحُذَّاق الصَّناعة إنَّما يتكلَّفون البحثَ فيما يَنْبني عليه حكم، وما عداه فهم فيه ما بين تاركٍ له رأساً، وناظر فيه اتِّباعاً لمن تقدَّم له فيه نظر، إذ الخروج عن المعتاد مُنَفِّر"
_ حد الممنوع من الصرف. هل هو المسلوب منه التنوين؟ أو التنوين والجر؟
_ الخلاف اللفظي.
وهو ما تباينت فيه الألفاظ والعبارات والمعنى واحد، أي: كانت النتيجة واحدة. فظاهره الخلاف، وحقيقته الاتفاق. لذا لا ينبني عليه حكمان متباينان.
ومثاله: العلم المرتجل؛ فاختلف النحاة فيه، والجمهور على وجوده في كلام العرب، وذهب بعض النحاة إلى أن كل علم منقول، والخلاف لفظي؛ لأن مالم نعلم له أصل إما أنه استعمل له أصل لكن لم يبلغنا، وإما أنه على تقدير النقل من أصل لم ينطق به " إذ القائل بوجود المرتجل لا ينفي إمكان النقل فيه، لكن سمي ما لم يبلغه أصله مرتجلا اصطلاحا، فهو في المعنى موافق للقائل بنفيه، من حيث إمكان وجود أصله، ولم يبلغنا، ومن حيث أن ما بلغنا أصله فسمي منقولا أكثر مما لم يبلغه أصله، فهذا يقول: نسميه منقولا أيضا اعتبارا بالأكثر، وحملا عليه، والآخر يقول: نسميه مرتجلا اعتبارا بعدم علمنا بأصله وهذا قريب"
_ ومنه ما يرد عند إعراب البسملة وتوجيه الإضافة في: (بسم اللهِ): هل الاسم عين المسمى؟
الأزهري: "والتحقيق أن الخلاف لفظي، وذلك أن الاسم إذا أريد به اللفظ فغير المسمى، وإن أريد به ذات الشيء فهو عينه، لكنه لم يشتهر بهذا المعنى"
_ ومنه سبب تسمية همزة الوصل.
قال ابن مالك: لِلْوَصْلِ هَمْزٌ سَابِقٌ لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا ابْتُدِيْ بِهِ كَاسْتَثْبِتُوا
فقيل: سميت بذلك لأنها يتوصل بها لنطق الكلمة المبدوءة بالساكن. وقيل: لأنها تسقط عن وصل الكلام. خلاف بين الشلوبين وابن الضائع. قال الشاطبي: " والأمر في هذا قريب لأنه اصطلاح لفظي ولا شك أن ما قال الشلوبين صحيح من جهة حقيقة اللفظ إلا أن المعنى الجاري على الأذهان في الاستعمال هو المعنى الأول"
_ ومن المسائل التي لا مشاحة في الاصطلاح فيها: حد الفعل، ومصطلح نائب الفاعل، تسمية الظرف مفعولا فيه أو صفة. قال الشاطبي: "إذا فهمت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ"
|
|
|
|
|