|
|
جهود المسدّي في حقل الأسلوبية
د. أحمد الهادي رشراش
تُعرف الأسلوبية (Stylistics) بأنها : " علم يعنى بدراسة الخصائص اللغوية التي تنتقل بالكلام من مجرد وسيلة إبلاغ عادي إلى أداة تأثير فني"( ) وهي علم حديث النشأة اشتركت في إفرازه اللسانيات والبنيوية ، يقول (ريفاتير): "إنّ الألسنية كعلم من العلوم الإنسانية ، والهيكلية [البنيوية] كمنهج في البحث والدراسة قد ولّدتا نزعة جديدة في دراسة الظواهر الإنسانية عموماً ، وهي نزعة التيار العلماني (( Scientiste الذي شمل من بين ما شمله ميدان الدراسات الأدبية لتقييم الأثر الفنّي تقييماً موضوعيّاً علميّاً ؛ فظهر بذلك فرع جديد ضمن شجرة علوم اللسان ، وهو الأسلوبية ".( )
* جهود المسدي في حقل الأسلوبية:
أ- دور المسدّي في مجال التنظير الأسلوبي:-
ذكرنا – فيما سبق- أنّ المسدّي يعتبر من أوائل الدارسين العرب المهتمين بالأسلوبية الحديثة، ويُعدُّ كتابه "الأسلوبية والأسلوب نحو بديل ألسني في نقد الأدب" المنشور في سنة (1977) رائداً وسبّاقاً في هذا المجال، وقد استطاع المسدّي في هذا الكتاب أن يَنقُل هذا العلم إلى اللغة العربية، وأن يضع أهمّ مصطلحاته باللغة العربية، وأن يربطه بالتراث العربي.
1- تحديد المصطلحات:-
لقد حدّد المسدي بعض مصطلحات الحقل الأسلوبي في اللسان العربي، وأشاعها بين الدارسين العرب المحدثين، ولعلّ من أهم تلك المصطلحات مصطلح العلم نفسه (الأسلوبية) ومصطلح (الانزياح) الذي يُعدّ أهم المصطلحات التي تعتمد عليها الأسلوبية تنظيراً وتطبيقاً.
1.1 مصطلح (الأسلوبية):- شاع مصطلح (الأسلوبية) في حقل الدراسات اللسانية والنقدية العربية الحديثة في مقابل المصطلح الإنجليزي (Stylistics) والمصطلح الفرنسي ((Stylistique، ويُعدّ الدكتور عبد السلام المسدي أوّل من استعمله، وكان له الفضل في نشره وذيوعه بين الدارسين العرب، يقول نور الدين السد:" أمّا مصطلح الأسلوبية في العربية، فقد كان عبد السلام المسدي سبّاقاً إلى نقله وترويجه بين الباحثين"( ) وكان استعماله له أول مرة في بحث له بعنوان: "محاولات في الأسلوبية الهيكلية" لريفاتير، نشر بحوليات الجامعة التونسية، سنة 1973.
لقد أوضح المسدّي أهمية تحديد المصطلح عند علماء الأسلوب، وأنّ ذلك يًعدّ من أهم المقوّمات التي تبرز المنطلقات المبدئية التي تمحور عليها التفكير الأصولي عندهم، ثم يشرع في الحديث عن مصطلح أسلوب يقوله: "ويتّصل أول تلك المنطلقات بالمصطلح ذاته إذ يتراءى حاملاً لثنائية أصولية، فسواء انطلقنا من الدال اللاتيني وما تولّد عنه في مختلف اللغات الفرعية، أو انطلقنا من المصطلح الذي استقرّ ترجمة له في العربية، وقفنا على دال مركّب جذره " أسلوب " " Style " ولاحقته " ــــيّة " " igue " وخصائص الأصل تقابل انطلاقاً أبعاد اللاحقة، فالأسلوب ذو مدلول إنساني ذاتي، ومن ثم نسبي، واللاحقة تختص –فيما تختص به- بالبعد العلماني العقلي، ومن ثم الموضوعي. ويمكن في كلتا الحالتين تفكيك الدّال الاصطلاحي إلى مدلوليه بما يطابق عبارة: علم الأسلوبdu style) Science ( لذلك تُعَرَّفُ الأسلوبية بداهة بالبحث عن الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب".( )
2.1 مصطلح (الانزياح): المصطلح الآخر الذي كان للمسدّي فضلٌ كبيرٌ في ذيوعه ونشره بين الدارسين هو مصطلح (الانزياح)، وقد تنبّه بعض الدارسين إلى ذلك، يقول أحمد ويس: " والحق أنّ كلمة (ècart) هي مصطلح أسلوبي قد تجاذبتها في العربية عدة ترجمات، لم يكن حظُّها من الصحة والشيوع واحداً، ولعلّها قد ظهرت في تقديم المسدي لكتاب ريفاتير "محاولات في الأسلوبية الهيكلية" وكان قد ترجمها آنئذٍ بالتجاوز، ولكن المسدّي بعد ذلك يستبدل بالتجاوز الانزياح الذي استعمله في كتابه "الأسلوبية والأسلوب" كما سبق القول، ثم في أطروحته للدكتوراه: "التفكير اللساني في الحضارة العربية" وقد بدا لي أنّه أول من استعمل الانزياح ترجمة لـ"ècart.( )
ونضيف أنّ المسدّي هو أوّل من لفت الأنظار كذلك إلى إمكانية إحياء لفظ عربي في هذا المقام هو مصطلح (العدول) يقول في هذا الصدد: " وعبارة انزياح ترجمة حرفية للفظة(ècart) على أنّ المفهوم ذاته قد يمكن أن نصطلح عليه بعبارة التجاوز، أو أن نحيي له لفظة عربية استعملها البلاغيون في سياق محدّد وهي عبارة (العدول) وعن طريق التوليد المعنوي قد نصطلح بها على مفهوم العبارة الأجنبية".( )
وذهب المسدّي إلى أنّه يتعذّر "تصوّره [الانزياح] في ذاته، إذ هو من المدلولات الثنائية المقتضية لنقائضها بالضرورة، فكما لا نتصوّر الكبير إلا في طباقه مع الصغير، فكذلك لا نتصوّر انزياحاً إلا عن شيء ما"( ) ثم أشار إلى أنّ هذا المعيار الذي يقع عنه الخروج والانزياح "هو في ذاته متصوّر نسبيّ تذبذب الفكر الألسني في تحديده وبلورة مصطلحه، فكلٌّ يسمّيه من ركن منظور خاص، وقد اصطلحنا عليه فيما مضى من بحثنا بالاستعمال النفعي للظاهرة الألسنية، مختارين في ذلك تسمية الشيء بوظيفته وغائيته الواعية ".( ) وذكر أنّ الانزياحَ نوعان: انزياح متصل بالتوزيع أي بالعلاقات الركنية، ومثّل له بتقديم المفعول به على الفعل والفاعل في العربية، وانزياح يخصّ جدول الاختيار؛ أي العلاقات الاستبدالية، ومثّل له بالمجاز العقلي في العربية أيضاً، ورأى أنّ الخطاب يتّسم بالسّمة الأسلوبية بالتأليف بين جدولي اختيار متنافرين ابتداءً ائتلفا في سياق توزيعي ركني، وبذلك نجد مفهوم الانزياح يكسب الأسلوبية ثراء في التحليل، إذ تتعامل المقاييس الاختيارية والتوزيعية على مبدئه فتتكاثف السمات الأسلوبية.( )
2- تأصيل الدراسة الأسلوبية في التراث العربي:
التفت المسدي إلى الصلة بين الأسلوبية والبلاغة العربية، ورأى أنّه من الممكن إعادة وصف كثير من التحليلات البلاغية العربية في ضوء مفهوم الانزياح، ومثّل لذلك بمثال من باب تضمين الحروف، أي استعمال بعضها مكان بعض( ) واستشهد بقول ابن جني:" اعلم أنّ الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر؛ فإنّ العرب قد تتسع؛ فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، وذلك كقول الله عز اسمه: )أُحِلَّ لَكُم لَيْلَة الصِّيامِ الرَّفثُ إِلى نِسائِكُم(( ) وأنت لا تقول رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها؛ لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى) كقولك أفضيت إلى المرأة، جئت بـ (إلى) مع الرفث إيذاناً وإشعاراً أنّه بمعناه".( ) ثمّ أكّد أنّ هذا الاتساع الذي يتحدّث عنه ابن جني ليس سوى انزياح.( )
وله محاولة جادة للربط بين الأسلوبية الحديثة والتراث العربي، والبحث عن أصول للأسلوبية في التراث العربي، وهي بحثه: "المقاييس الأسلوبية في النقد الأدبي من خلال البيان والتبيين للجاحظ "( ) الذي توصّل من خلاله إلى وجود مسائل أسلوبية حديثة في ثنايا هذا الكتاب من أهمها إدراك الجاحظ مفهوم الأسلوب دون لفظه الاصطلاحي.
ب- دور المسدّي في مجال التطبيق الأسلوبي:
لم تقف جهود المسدي في الحقل الأسلوبي عند الجانب التنظيري، ورغم أنّ انشغاله بالجانب التطبيقي لم يكن بقدر انشغاله بالجانب النظري، فإنّنا نجد له فيه بعض الأعمال القيّمة، لعلّ من أبرزها: "التضافر الأسلوبي وإبداعية الشعر نموذج ولد الهدى"( ) إذ حاول في هذا العمل إرساء قواعد التطبيق الأسلوبي، ومن ثَمّ تطبيقها على قصيدة "ولد الهدى" للشاعر أحمد شوقي.
لقد أوضح المسدي في البحث الأسلوبي التطبيقي السابق، أنّ للأسلوبية سبيلين متوازيين: أحدهما سبيل الاستقراء الذي تألّفت منه مكونات الأسلوبية التطبيقية، والآخر سبيل الاستنباط الذي استقامت معه مكوّنات الأسلوبية النظرية، وأنّ هناك ترابطاً جدليّاً بين هذين النوعين، ثم بيّن أنّ الأسلوبية النظرية توحّدت وجهات النظر في حقلها نسبيّاً، وأمّا الأسلوبية التطبيقية، فإنّ مجال العمل فيها قد تجاذبه مشارب عدة، لخصّها في منهجين كبيرين: الأول يتجه أصحابه إلى الوقوف على كل حدث تأثيري يعرض إليهم في تتبعهم النص الأدبي؛ فيفصّلون القول في مقوماته، واصطلح عليه "أسلوبية التحليل الأصغر" ثم سمّاه: "أسلوبية السياق أو أسلوبية الوقائع" والثاني يتمثّل في الإقدام دفعة واحدة على الأثر الأدبي المتكامل؛ سعياً إلى استكناه خصائصه الأسلوبية، واصطلح عليه "أسلوبية التحليل الأكبر" ثم سمّاه: "أسلوبية الأثر أو أسلوبية الظواهر" وبعد ذلك تصوَّرَ نمطاً جديداً يقع بين النمطين السابقين سمّاه: "أسلوبية النص أو أسلوبية النماذج".( )
ثانياً- أثر المسدّي فيمن اشتغل في الحقل الأسلوبي :
إنّ المتتبع للدرس الأسلوبي عند العرب في العصر الحديث يجد أثر الدكتور عبد السلام المسدي فيه واضحاً جليّاً، ويمكن إيجاز ذلك في النقاط الآتية:
1- لا نكاد نجد كتاباً من كتب الأسلوبية عند العرب في العصر الحديث، ولا بحثاً من بحوثهم في هذا الحقل المعرفي، إلاّ ويتخذ من كتب المسدي وبحوثه في مجال الأسلوبية مرجعاً أساساً، وبخاصة كتابه: "الأسلوبية والأسلوب" الذي يُعدّ المصدر الأول لكل بحث أسلوبي عربي معاصر، ونذكر من بين كتب الأسلوبية المهمة التي اعتمدت على كتب المسدّي:
- الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية: فتح الله سليمان، الدار الفنية، مصر، 1990.
- الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها: موسى ربابعة، دار الكندي، عمان- الأردن، 2003.
- الأسلوبية والبيان العربي: محمد خفاجي وآخرون، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1992.
- الأسلوبية والصوفية: أماني سليمان داود، دار مجد لاوي، عمان- الأردن، 2002.
- الأسلوبية: جورج مولينيه، مقدمة المترجم: بسّام بركة، المؤسسة الجامعية، بيروت- لبنان، 1999.
- البحث الأسلوبي معاصرة وتراث: رجاء عيد، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1993.
- البلاغة والأسلوبية: محمد عبد المطلب، مكتبة لبنان، بيروت، 1994.
- البنى الأسلوبية في " أنشودة المطر " للسياب: حسن ناظم، المركز الثقافي، الدار البيضاء، 2002.
- البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث: مصطفى السعدني، منشأة المعرف، الإسكندرية(د.ت).
- العدول أسلوب تراثي في نقد الشعر: مصطفى السعدني، منشأة المعرف، الإسكندرية(د.ت).
- علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته: صلاح فضل، مؤسسة المختار، القاهرة، 1992.
- علم الأسلوب مفاهيم وتطبيقات: محمد كريم الكواز، الزاوية- ليبيا، 1426.
- اللغة والأسلوب: عدنان بن ذريل، مجد لاوي، عمان- الأردن، 2006.
- مدخل إلى الأسلوبية: أحمد الهادي رشراش، دار النخلة، تاجوراء: طرابلس- ليبيا، 2007.
وأما البحوث التي اعتمدت على كتب المسدي، فنذكر من بينها:
- الأسلوبية الحديثة محاولة تعريف: محمود عياد، مجلة فصول، مج(1)، ع(1) 1980.
- الأسلوبية الذاتية أو النشوئية: عبد الله صولة، مجلة فصول، مج (5)، ع (1)، 1985.
- الانزياح وتعدد المصطلح: أحمد محمد ويس، مجلة فصول، مج(25)،ع(3)، 1997.
2- كان للدكتور عبد السلام المسدي فضل كبير في شدّ انتباه الباحثين والدارسين العرب إلى أهم ظاهرة من الظواهر الأسلوبية الحديثة، ألا وهي ظاهرة الانزياح ، وربطها بظاهرة (العدول) في التراث العربي، إذ انطلق كثير من الباحثين في تناولهم لهذه الظاهرة من تناول المسدي لها، فظهرت عدة كتب وأبحاث تتناول هذه الظاهرة تنظيراً وتطبيقاً، نذكر منها على سبيل المثال:
- العدول أسلوب تراثي في نقد الشعر: مصطفى السعدني.
- الانزياح وتعدد المصطلح: أحمد محمد ويس، مجلة فصول، مج (25) ،ع (3) 1997.
- ظواهر من الانحراف الأسلوبي في شعر مجنون ليلى: موسى ربابعة، مجلة أبحاث اليرموك، عماد– الأردن، مج (8)،ع(1)، 1990.
- مظاهر من الانحراف الأسلوبي في مجموعة عبد الله البردوني " وجوه دخانية في مرايا الليل " مجلة دراسات، عمان– الأردن، مج(19- أ)، ع(1)، 1991.
|
|
|
|
|