|
|
في العراق .. ما أحوجنا إلى جمعية للعنايـــة باللــّغة العربيـــة
أ.د. محمد البكّـاء
وإذ يحتدم الجدلُ في المغرب الشـّقيق حــول استدراج( الدّارجـــــة) إلى المؤسسات التعليمية، وينبري أكثر من طرف خير للدفاع عن لغتنا، وهويتنا القومية، فإن الأمر يستوجب التوقف عنده( عراقياً)، بعد أن كان العراقُ سباقاً في إصدار قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية رقم (64) لسنة 1977م ،وليس ذلك بالأمر المستغرب، فالعراق هو مهد الدراسة اللغوية، وفيه ظهرت (مدرسة البـَصرة )، و(مدرسة الكوفة)، وإن كانت البصرة أسبق منها انشغالا بالنحو حيث احتضنته زهاء قرن من الزمان قبل أن تشتغل به الكوفة؛ فالبصرة هي التي شادت صرح النحو، ورفعت أركانه بينما كانت الكوفة مشغولة بقراءات الذكر الحكيم، ورواية الشعر، والأخبار، وكان القدماء يعرفون ذلك فنصوا عليه بعبارات مختلفة من ذلك قول ابن سلام الجمحي : ( وكان لأهل البصرة في العربية قدمه،وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية ) ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا :إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة (البصريون أولاً لأن علم العربية عنهم أخذ ) ثم اشترك علماء البصرة والكوفة في النهوض بالنحو من عهد الخليل بن أحمد شيخ الطبقة الثانية من البصريين وأبي جعفر الرؤاسي شيخ الطبقة الأولى من الكوفيين حتى نمت أصوله وكملت عناصره في مستهل العصر العباسي الأول على يــد المبرد خاتم البصريين، وثعلب من الكوفيــين،
وسرّ هذا الأمر أنَّ العراقيين لهم عهد قديم بالعلوم، والتأليف ولهم فيها خبرة متوارثة في ميدان البحث والتحصيل.ولأنّ العربيةُ لغةٌ كريمةٌ لأمة عظيمة، قدّر الله لها سبحانه: الرِّفعة،وعلو المنزلة، إذ أنزل كتابه العزيز بلسان عربي مبين،ليصدح بالحقِّ، وليخرج النّاس من الظلمات إلى النور، وقد حافظت هذه اللغة على قوامها، ونظامها بفضلٍ من الله سبحانه:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".( الحجر9)، وبتراثها الأدبي الضَّخم، وبغيرةِ أهلهِا عليها،وبتسابقهم في الذودِ عن حياضها، لتظل كما شاء الله لها: نقيةً من الشّوائب، عليـّة المكان، لايعرض لها تثريب أو تأنيب.جاء في حديث مرفوع عن علي بن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه عن جده العباس ، قال: " قلت يا نبي اللَّه ، ما الجمال في الرجل، قال : فصاحة ُ لسانه ". وعن الزهري عن سالم عن أبيه ، قال: مرَّ عمر بقوم يرمون، فقال: بئس ما رميتم ، فقالوا: إنا متعلمين ، فقال عمــــر:" واللَّه لذنبكم في لحنكم أشد عليَّ من ذنبكم في رميتكم ،سمعــت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: رحم اللَّه إمـرأ أصلـحَ من لسانه".وأوصى بعض العرب بنيه، فقـال:
يابَنيَّ،اصلحـوا ألسنتكم، فإن الرّجل تنوبه النّائبـة،فيتجمل بها، فيستعير من أخيه دابته، ومن صديقه ثوبه، ولا يجـدُ من يعيره لسانه!
لقد تعامل العرب مع لغتهم بمحبة لاتداتى، وبهمةٍ لا تُبارى،ذلك أن الله سبحانه قد قرنَ ذكرها بقرآنه المجيد، قال تعالى:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّـًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ".( يوسف2)، وتكرر مثل هذا الإقتران في خمس سور بينات،هي: (طه 113)، (الزمر28)، (فصلت 3)،(الشورى7)،( الزخرف3)، ثم أشار سبحانه إلى حال كتابه المبين، وصفته، بقوله جلّ جلاله:" وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ".(الأحقاف12)، وليؤكد صفته في سورتين أخريين:" بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ".( الشعراء195)،" "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ". (النحل103)، وقد كان سلف الأمة وقادتها يحرصون على التوعية بأهمية الاهتمام بالعربية لكل أحد، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة». وروى أبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري- رضي الله عنهما- أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام.
وعن أبي العالية قال: «كان ابن عباس يعلمنا اللـَّحن» قيل: يعلمنا الصواب، وقيل: يعلمنا الخطأ لنجتنبه.وعن الحسن البصري أنه سئل: ما تقول في قوم يتعلمون العربية؟ قال: «أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم». وأنشد أبو العباس المبرد (توفي عام 286 هـ/899 م) :
النـَّحو يبـسط من لســان الألكن * والمـرء تعظمــه إذا لـم يلحـنِ
فإذا أردت َ مــــن العلـوم أجلهـا * فأجلهـــا منها مقيــم الألســن
إلا أنّ هذا الحال لم يدم كثيراً بعد أن لحق اللغة العربية الكثير من الحيف الذي لم تعرفه لغة من قبل،فقد اجتمع عليها الأعداء وبعض الأبناء– لافرق بينهم- وإن اختلفت مسالكم، وتباينت وجهات نظرهم، وترادفت عليها نوائب الزّمان، وكابدت من الأخطار ما صعب حصره، وعظم أثره لذا كان لابد من وقفة جادة،والعمل على سنِّ تشريعات تصون حرمةَ اللـّغة، وتعنى بها لقيمتها العظيمة في كونها (هوية الأمة)، وتدارك حالها مما ألمَّ بها،وتيسير سبل نهوضها،وهي أحوج ما تكون في أيامنا هذه إلى مزيدِ رعايةٍ، وفضل عنايةٍ.
واليوم إذ انزوت هيأة الحفاظ على سلامة اللغة التي تأسست في ضوء القانون رقم (64) لسنة 1977م ،بعد أن لحقها الحيف فبعد أن كانت مرتبطة بـ(ديوان رئاسة الجمهورية)، انتقل ارتباطها الى رئاسة مجلس الوزراء، ثم ليحدد إرتباطها بـ(وزارة التعليم العالي والبحث العلمي)، ومن ثم توقف مجلتها (الضّاد) عن الصدور، ناهيك عن التطورات التي رافقت المجــمع العلمي العراقي منذ تأسيه عام 1947م، فبعد أن كان جلَّ اهتمامه ينصب على العناية بـ(اللغة العربية)،والدفاع عنها مما يترصدها من أخطار، شهد عام 1963م تأسيس مجمع علمي للعناية باللغة السريانية، والآخر للغة الكردية- ولا ضير في هذا – إلا أنه وفي 1978م، تم دمج المجامع اللغوية الثلاثة: العربية، والكردية، والسريانية ضمن مجمع علمي واحد وهو: المجمع العلمي العراقي.
وفي العام 1996 م صدر قانون جديد، أُعيد بموجبه تنظيم المجمع العلمي وتوسعت أهدافه- بعد إلغاء مجلس البحث العلمي- لتشمل: التخصصات العلمية، والتقنية كافة، وعدم حصرها بتخصصات اللغات العربية، والكردية، والسريانية، والتراث العربي والإسلامي، بل امتدت لتشمل تخصصات العلوم التطبيقية والهندسية، والزراعية، والفلسفية، والقانونية، والاقتصادية والمعلومات وشتى المعارف المختلفة بهدف إثراء المعرفة الإنسانية وتوظيف هذه المعارف لخدمة التنمية في العراق والبلاد العربية والإسلامية، وبذلك اقترب عمل المجمع أكثر فأكثر إلى مفهوم عمل مايعرف في دول العالم المتقدمة بأكاديميات العلوم ،وبذا لم تأخذ اللغة العربية حقها من الإهتمام والرعاية، بعد أن حشرت بـ(دائرة اللغة العربية)،كمثيلاتها من دوائر المجمع العلمي الأخرى
إننا إذ نسمع اليوم أن هناك الكثير من مؤسسات المجتمع المدني،وأن هناك( وزارة دولة لشؤون المجتمع المدني) وأن هناك أكثر من منظمة، أو جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان ، فما الضير أن تتبنى الدولة بمعاونه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي،والمجمع العلمي العراقي على تأسيس منظمة، أو جمعية للعناية باللغة العربية تضم في عضويتها كل المهتمين بهذه اللغة الكريمة من الأساتذة، والباحثين، فإذا كان الدفاع عن حقوق الإنسان مطلباً مشروعاً بحكم الدستور، فإن الدفاع عن لغته التي هي هويتـه التي يعتز بها لايقل أهمية عن ذلك، خاصة وإننا نعيش جملة مشكلات تستوجب وقفة جادة تتلخص في معالجة: رداءة الكتب المؤلفة في هذا العلم، وقلّة جماعة من المعلمين بها، ووعورة طريقة تعليمها، واضطراب المناهج الموضوعة لتعليمها، وفساد لغة كثير من الكتب العربية الجديدة، والصحف الأدبية، والسياسية، وفساد ترجمة كثير من المترجمين إليها، وضعف الإذاعات، وفساد لغة الكتب المدرسية الأخرى، وقلّة التفيش عن أصول هذه اللغة الكريمة، قبل أن: يسبق السّيف العــذل، فيكون حالنا حال من قال:" ... ولاتَ ساعةَ مَنـْـدَم".والله من وراء القصد.
|
|
|
|
|