|
|
اللغة العربية وحالة المتعلمين
أ. عبد الواحد الدحـمني
تعد اللغة أداة التواصل الفكري والشعوري للإنسان، ومقياسا من مقاييس حضارة أمة من الأمم، ووعاءً لقيمها الفكرية والروحية.
وانطلاقا من هذا المنطلق أضحى من الضروري الانكباب على تعليم وتعلم اللغة العربية بشكل مكثف لعدة أسباب نجملها فيما يلي؛ أنها اللغة الرسمية في المجتمعات العربية، ولغة التدريس حيث تدرس بها جميع المواد تقريبا، وأنها اللغة الحاملة للهوية الثقافية والروحية والفكرية للإنسان العربي.
ولعل هذا يجعل أسئلة كثيرة معقدة ومختلفة تتوالد في الذهن عند التفكير في موضوع اللغة العربية وعلاقاتها بإكراهات الواقع المدرسي والمجتمعي والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يعرفه العالم بفضل الثورة المعلوماتية، وما المكانة التي تحتلها اللغة العربية في زمن أصبحت فيه الحدود اللغوية منعدمة، إضافة إلى التعدد اللغوي واختلاف اللهجات التي تعرفها الأمصار العربية.
ولا جدال في أن اللغة العربية في المؤسسات التعليمية كانت ولا تزال تمثل إحدى الإشكالات التربوية، لكونها ترتبط من جهة بالتراث الديني والفكري والثقافي العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى ترتبط بعمق محتوى العملية البيداغوجية والنقل الديداكتيكي لها؛ أي نقلها من مجرد لغة رسمية وثقافية تشكل الهوية إلى المستوى التعلمي.
وإذا كان نجاح أي فعل بيداغوجي في نقل الثقافة يتوقف بالأساس على مدى رضا المدرسين وعلى اعتراف المتعلمين بقيمة ما يُدرَّس لهم، فإن هذه العلاقة التفاعلية شابتها في السنوات الأخيرة وما تزال، ما يمكن أن نطلق عليه انفصام الأواصر وتعثر التعلم؛ وقد تمثل ذلك في عدم الرغبة من قِبَلِ المتعلمين في تعلم اللغة العربية لاعتبارات متعددة يرجعها بعضهم إلى عدم مواكبتها للتقدم العلمي والتكنولوجي، ويرجعها البعض الآخر إلى صعوبتها، كما يعتبرها البعض أنها لغة الشعر والأدب، ولا تشكل أداة التواصل الاجتماعي في العصر الحالي، ويرى فيها البعض لغة الكتابة الإبداعية والنقدية مما يجعلها تبقى متداولة بين المبدعين والنقاد والباحثين عموما.
وأمام هذا الواقع وهذه النظرة المتردية للغة العربية عند المتعلمين، أصيب أغلب المدرسين لهؤلاء بالخيبة وأحسوا بالحسرة وفقدان الجهد والقدرة في التواصل البيداغوجي مع جيل لا يريد تعليم لغته الأصلية والعمل على التفكير بها، بل يرى فيها ما ذكرناه.
ومن ثم فإن الانخراط الفعلي في تطوير اللغة العربية مهمة ينبغي أن تضطلع بها المنظومة التربوية، وهذا لن يتم إلا بتغيير نظرة المجتمع إلى اللغة العربية، والتأكيد على أهميتها وعالميتها، ثم خلق روح التفاؤل في صفوف المتعلمين وإعطاء الأهمية لفعل القراءة باللغة العربية للخروج من أزمة القراءة الذي تعرفه المجتمعات العربية، مع الحرص على تحديث طرائق ومضامين تدريس اللغة، واختيار النصوص الأدبية القديمة والحديثة ذات جمالية أدبية تحقق انتظار القارئ، وتجعل المتعلم العربي يحب أدبه ولغته، لأن المحبة شرط أساسي للمعرفة، وفِي الأخير يجب العمل على تطوير أدوات قياس مستويات التحكم في اللغة وخلق أوراش للكتابة والإبداع بها، كما ينبغي تبسيط اللغة للمتعلمين وتحبيبهها إلى قلوبهم رغم الازدواجية اللغوية التي يعرفها الواقع اللغوي للمجتمعات العربية، مع الحرص على تقديم لغة عربية ذات حمولات ثقافية وتراثية، ولكنها تناقش قضايا مجتمعية تلامس حياة المتعلمين وهمومهم الحضارية المعاصرة.
إن فعل تدريس اللغة العربية نشاط ضروري لبناء المعارف وتدبير المعلومات، ونشاط مهني مرتبط ببيداغوجية تربوية، لكن رغم ذلك لابد من التنبيه إلى أن تعليم لغة الأم يجب أن يساهم في تغيير نظرة المتعلمين إليها، وأن يزاوج بين نقل الحمولة الدينية والثقافية الموروثة وإدماج المتعلمين في الثقافة الحاضرة، ولن يتأتى ذلك إلا بالرغبة؛ والمقصود بها الرغبة المشاركة لأركان الوضعية الديداكتيكية (المدرس، والمتعلم، والمحتوى)، فالمدرس يجب أن يتمتع بالرغبة القوية في مساعدة متعلميه على إدراك المعارف بشكل سليم وواضح، والمتعلم مطالب بقدر كبير من قابلية تقبل ما يدرسه ويتعلمه، دون نفور واستهجان، أما المحتوى (المادة المقدمة) فلا يمكن فرضها على المتعلم، بل يجب تطويعها وأخذ الأساس منها ليتفاعل معه المتعلم بشكل فعال ونشيط، دون إحساسه بالملل والصعوبة.
ووفق هذا التصور يجب العمل والتنظير في الظروف الحالية التي يمر منها تدرسنا للغة العربية، على بناء عودة الرغبة في التعلم لدى المتعلمين، وإن كانت البيداغوجية الحديثة تدعو إلى حرية الفرد في البناء الذاتي للمعرفة مثل بيداغوجية الإدماج، وبيداغوجية المشروع، وبيداغوجية النجاح وغير ذلك، إلا أن تحقيق ذلك يتطلب ما أسميه ببيداغوجية بناء الرغبة التي أضحت مهدمة في صفوف المتعلمين، وترميم هذا البناء يفرض من المتعلم ألا يكتفي بالتهيء المرحلي للفروض والامتحانات، وإنما يصبح الفعل التعلمي همه الأساس على مدار الموسم الدراسي وعلى مستوى المشروع الحياتي لما لا.
إن بناء هذه الرغبة في المتعلمين سيؤدي بهم -لا محالة- إلى تصحيح نظرتهم إلى اللغة العربية، وسيصبح النشاط التعلمي عندهم يهدف إلى حصول الفائدة التي يمكن أن يوظفوها في وضعيات مختلفة، بحيث ليس كل ما يتعلمه المتعلمين يمكن أن يكون ذا فائدة تطبيقية، وإنما يوظفون معارفهم ومكتساباتهم وفق ما تفرضه وضعية تعليمية ما؛ أي تطبيق المكتسبات على جميع الوضعيات الجديدة التي يمكن أن تصادفهم في حياتهم الشخصية والعملية.
|
|
|
|
|