|
|
لنزعة الانسانية في الأدب المهجري
أ. إبراهيم مشارة
حظي الأدب المهجري بعناية الدارسين ونقاد الأدب ومازال كذلك، ولهذا الأدب محبوه ومتذوقوه ، فقد كان فتحا في أدبنا الحديث، فتح عيوننا على مباهج الحياة،وروعة المغامرة و إغراء الحرية ،بعد أن ظل أدبنا أحقابا طويلة نائما في مغارة التاريخ مغمضا عينيه عن مستجدات الحياة مكتفيا بالاجترار من الكتب القديمة ،وكد الذهن لا في توليد المعاني البكر، بل في تنميق الكلام و الولوع بالأسجاع واللهاث وراء التورية وفي مباركة الأوضاع القائمة وهي أوضاع مزرية تميزت بالركود الاجتماعي والتأسن الثقافي والاستبداد السياسي وكانت غاية الأدب أن يصل إلى البلاط مسبحا بحمد الحاكم آناء الليل وأطراف النهار لتحقيق مآرب شخصية مضحيا بمصلحة الجماعة لحساب المصلحة الشخصية ، خرج الأدب المهجري إذا من رحم المعاناة مبشرا بعصر الخصوبة وبقيام طائر العنقاء من رماده صحيحا معافى وهو يحمل معول الهدم منقضا على سفاسف الماضي معليا صرحا جديدا من الأدب الخلاق المتميز بصدق الشعور ونزعة التجديد والغيرة على حاضر الأمة ومستقبلها متزودا من الثقافة العربية الأصيلة والغربية البناءة ، مستفيدا من أرض ترعرع فيها هي الأرض الجديدة – أمريكا الشمالية والجنوبية – حيث للفرد قيمة وللعلم المكانة الأولى - إنها مجتمع الصناعة والتقدم و الإبداع والرفاه المادي والمعنوي وكل هذه العوامل مجتمعة وجدت صداها في عقول وضمائر و إنتاج أدباء المهجر الأدبي والفكري . ونحن في هذا المقال راصدون لقيم إنسانية تضمنها الأدب المهجري تاركين القيم الأخرى كالجمالية والفكرية لمقالات أخرى و إنه لحقيق بنا نحن ورثة هذا التراث الأدبي الضخم أن نتمثله كما يتمثل الجسم الغذاء صانعا منه نسغ الحياة و أسباب الحصانة وعوامل القوة خاصة ونحن نعيش في عصر تميز بالتطرف الديني والنزاع الطائفي وسيطرة الفكر العبثي السلفي أو العدمي التغريبي خاصة ومجتمعنا العربي يحمل في ثناياه اختلافات مذهبية هي في الأصل مصدر ثراء له ولو أنه يراد لها أن تكون عوامل تصدع وفرقة ، أضف إلى ذلك انفتاح العالم وتطور المعلوماتية في أرقى تجلياتها — أي الثورة الرقمية – وسيطرة المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات والتي غزت أسواقنا بمنتوجاتها الغثة والسمينة وما نحن في حاجة إليه وما نحن في غنى عنه والتي أدت في النهاية إلى تسطيح الفكر والشعور والجري وراء بريق الألفاظ دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن المضمون،إنها عولمة حولتنا إلى كائنات طفيلية مستقبلة ومستجيبة لكل المثيرات الواردة من الضفة الأخرى ، وكأن صرخة المهجريين في النصف الأول من القرن الماضي ذهبت أدراج الرياح فقدعدنا إلى الدجل على حساب العقلانية و إلى الطائفية على حساب التسامح الديني وإلى التقليد على حساب الاجتهاد و إلى العبودية على حساب الحرية و إلى الشكلانية على حساب المضمون ، وما أحرانا اليوم أن نعود إلى تلك القيم الإنسانية التي تضمنها الأدب المهجري وصدع بها وعاش لأجلها فهي التي ستعصمنا من الغرق في خضم الحضارة الحديثة .فما مجمل القيم الإنسانية التي تضمنها هذا الأدب ؟ لعل أول قيمة من قيم الأدب المهجري هي التسامح الديني ولقد عبر عن هذا المعنى أبلغ تعبير الأديب اللبناني الكبير مارون عبود ، وهو إن لم يكن مهجريا فقد تميز في حياته وفي فكره بهذه الخصيصة خصيصة التسامح الديني قال عبود :" سميت ابني محمدا نكالا في أبي الذي أسماني مارون " . و إن كان فحوى هذه المقولة التأكيد على مبدأ العروبة فاسم محمد أ لصق بالفكر والانتماء العربيين من اسم مارون، إلا أن العروبة و الإسلام لصيقان لا يمكن الفصل بينهما وهذا ما عناه كاتب عربي ماروني هو الأستاذ مارون عبود ، وهو بذلك يؤكد انتماءه لحضارة الإسلام ، لقد كان شعراء المهجر وجلهم من المسيحيين يعتبرون الإسلام بعدا روحانيا وفكريا مهما في تكوينهم النفسي و العقلي فضلا عن كونه رابطا قوميا لذا تراهم يذكرون الإنجيل إلى جانب القرآن ومحمدا إلى جانب يسوع في تآلف ومودة ، قال الشاعر رياض المعلوف وقد كان مغتربا في البرازيل من قصيدة " الله والشاعر"
يا صاحب الملك الذي لا ينتهي
أبدا وسدته الملأ والسرمـــد
فالشعـــر في إنجيلنا وكتابنا
والشاعران هما المسيح و أحمد
و تأمل أيها القارئ استخدام الشاعر لضمير الجماعة في قوله" كتابنا " وهو يقصد القرآن الكريم مؤكدا انتماء المسيحيين العرب لحضارة الإسلام. و أما الشاعر القروي رشيد سليم الخوري المغترب في البرازيل والذي عرف بنزعته القومية الحارة وغيرته على الأمة العربية وقد كرس شعره داعيا إلى الحرية والعزة ، ها هو في صرخته ضد الباطل يدعو إلى الأخذ بأسباب القوة والتضحية في سبيل عزة الوطن مقتبسا عن القرآن الكريم معنى الآية الكريمة : " و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" ولم تثنه مسيحيته عن الانتصار لهذا المبدأ القرآني يقول القروي :
أحبوا بعضكم بعضا وعظنا
بها ذئب فما نجت قطيعـــا
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب
بسيف محمد واهجـر يسوعا
وتراه في قصيدة أخرى بمناسبة عيد الفطر يمتدح النبي محمدا- عليه الصلاة والسلام- ويفرح لرؤية الهلال يعانق الصليب بعد أن تنجلي غاشية الاستبداد و الاستعمار
أكرم هذا العيد تكريم شاعر
يتيه بآيات النبي المـــــعظم
ولكنني أصبو إلى عيد أمة
محررة الأعناق من رق أعجمي
إلى علم من نسج عيسى و أحمد
و آمنة في ظله أخت مريــــم
و يصر الشاعر إلياس فرحات المغترب في البرازيل على انتمائه العربي فوطنه هو الشام والعراق و أرض الكنانة و أرض الجزيرة التي توحي في الوجدان العربي بظهور الدعوة الإسلامية و انتشار الإسلام وهذا المقطع من أشهر ما انتشر من شعر المهجريين :
إنا و إن تكن الشآم ديارنا
فقلوبنا للعرب بالإجـــــمال
نهوى العراق ورافديه وما على
أرض الجزيرة من حصا و رمال
وإذا ذكرت لنا الكنانة خلتنا
نروى بسائغ نيلها السلســــال
بنا ومازلنا نشاطر أهلها
مـر الأسـى وحـلاوة الآمـال
وكذلك كان الشاعر السوري ميشال مغربي المغترب في ساو با ولو بالبرازيل فهو أيضا يحلم بغد عربي مشرق يتعانق فيه الصليب والهلال ويعمل العرب جميعهم - مسلمون ومسيحيون - لما فيه خير الأمة العربية :
الأم تجمل في عين وليدهــا
حتى ولو في أخلق الأسمال
حي الحيا دون المواطن موطنا
فيه أرى داري و أنظر آلـي
و يظلني علمي الذي في قلبـه
يثوي صليبي في جوار هلالي
أما زعيم أدباء المهجر و كبيرهم الذي علمهم السحر جبران خليل جبران فقد تميز بتسامح ديني ظاهر في كتاباته وهو كصحبه يعتبر الاختلاف المذهبي في الشرق مصدر غنى وما ذكر المعبد في كتاباته إلا ذكر الجامع وما ذكر الهيكل إلا ذكر المحراب ولو أن فلسفة جبران وموقفه من الأديان يختلف عن موقف صحبه إلا أن الجامع بينهم جميعا هو نبذ العصبية الطائفية والفرقة على أساس اختلاف الدين فالدين لله والوطن للجميع . وتسلمنا قراءة آثار المهجريين إلى اكتشاف خصيصة ثانية تنم عن نزعة إنسانية مكينة في أدبهم أصيلة في أنفسهم وهي الصفح حين الخطأ في حقهم مع الحب الخالص ولسان حالهم يقول مع المثل العربي :" إذا عز أخوك فهن " يقول الشاعر زكي قنصل المغترب في الأرجنتين:
أنا إن شكوت فدمعتي من جفنكم
و إذا شدوت فصوتكم قيثاري
مرحى بني أمي لأنتم مفزعي
في النائبات وأنتم أظــفاري
في ظلكم نبتت خوافي شهرتي
وزها جناحي و استطار غباري
واقرأ هذه الأبيات للشاعر ندرة حداد المغترب في أمريكا و تأمل ما احتوت عليه من تسامح ومغفرة و إنها لكنوز أخلاقية حقيق بنا أن نتمثلها في الحياة أحسن تمثيل :
أنا راض بالعصــا يا
أيها الحامل رمحــك
و سأرضى خبزك الـ
أسود في الحب وملحك
و سأنسى جرح قلبـي
كلما شاهدت جرحـك
و إذا أخطأت نحـوي
فأنا أطلب صفحـــك
ونفس النزعة نزعة التسامح تطالعك و أنت تطالع الشاعر مسعود سماحة المغترب في أمريكا تصدر عن الحب المحض للانسانية :
كأني لم أترك للغير شؤونه
كأني عالجت غير شؤوني
وكم من صديق لم أخنه فخانني
و مؤتمن قد بات غير أمين
إذا جزت سهلا في الزمان فإنما
ستسري بوديان به و حزون
و لإيليا أبي ماضي صاحب " الجداول " و " الخمائل " في هذا المضمار صولات وجولات وهو صاحب القصائد البديعة الداعية إلى الحب الإنساني و التحلي بآداب الاختلاف و الاعتصام بمبدأ التسامح وهذه الأبيات خير ما ندلل به على هذه النزعة :
إني إذا نزل البلاء بصاحبي
دافعت عنه بناجذي ومخـــلبي
وشددت ساعده الضعيف بسا
عدي وسترت مكنبه العري بمنكبي
و أرى مساوئه كأني لا أرى
و أرى محاسنه كأن لم تكـــتب
و ألوم نفسي قبله إن أخطأت
و إذا أساء إلي لم أعتـــــب
و لا يمكن أن نغفل " ناسك الشخروب " ميخائيل نعيمة المغترب في أمريكا قبل التوحد في مغارة بمسقط رأسه " بسكنتا " وله قصيدة رائعة طافحة بالمعاني الإنسانية النابذة للحرب الداعية إلى الأخوة والتسامح وهي من قبيل الشعر المهموس كما وصف هذا اللون من الأدب الناقد الكبير المرحوم الدكتور محمد مندور، ذلك الأدب الخافت الصوت الذي يلج إلى القلب مباشرة ويستقر في قراراته محولا سلوك الإنسان إلى سعي حثيث نحو معارج الانسانية الحقة يقول نعيمة:
أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام
لنبكي حظ موتانا
وتأمل أيها القارئ استهلال المقطع بكلمة " أخي" وهي كلمة استهل بها الشاعر كل مقطع من مقاطع القصيدة، وماتفعله في القلب- قلب القارئ- عربيا أو أعجميا كان ! وأما الثورة على الظلم والتنديد بالطبقية واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان فالشعر المهجري خير شعر جاهر بذلك وقد هرب أولئك المهجريون من بطش العثمانيين وآلمهم ماتركوا أوطانهم فيه من جور وفساد وامتصاص الأقوياء لدماء الضعفاء واستشراء الفساد والإقطاع وقد أمدهم وجودهم في العالم الجديد بمعاني العدالة الاجتماعية والمساواة والكرامة الإنسانية وبزاد وفير منها بل امتد نقدهم حتى إلى المجتمع الأمريكي ذاته، وخير أديب ندد بذلك هو فيلسوف " الفريكة" أمين الريحاني حين فضح استغلال البيض للسود وتردي انسانية الإنسان بهذا الإنتهاك الصارخ للكرامة البشرية في بلد تغنى بالحرية واتخذ لها النصب . وفي مطولة " على بساط الريح" للشاعر الشاب فوزي المعلوف الذي قضى في ريعان العمر تنديد بهذه المظالم يقول فوزي:
أنا عبد الحياة والموت أمشـي
مكرها من مهودها لقــبوره
عبد ماضمت الشرائع من جور
يخط القوي كل سطــوره
بيراع، دم الضعيف له حبـر
ونوح المظلوم صوت صريره
وشارك الشاعر شفيق المعلوف أخاه فوزي هذه الخصيصة فامتد حدبه حتى على الفلاح ورأى على جيبنه النور ولم يره على جبين السلطان:
وفى الحياة ديونـــها
كرما وما وفيت ديونه
عرق الجهاد همى على
عينيه فانطبقت جفونه
هلا نظرت جبيـــنه
كم فيه لؤلؤة تزيـنه
ضنت عليه بالدمــوع
عيونه فبكى جبــينه
وتعتبر قصيدة " المواكب" لجبران إنجيل الثورة ضد تردي القيم وميوعة الإنسان وتحلل القيم ونشاز النفس الإنسانية فيصير الاستغلال قيمة والظلم مبدأ انسانيا يقول جبران :
والعدل في الأرض يبكي الجن لوسمعوا
به ويستضحك الأموات لو نظروا
فالسجن والموت للجانين إن صــغروا
والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومحتــــــقر
وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وأما الحرية تلك الحورية التي لهج بذكرها الشعراء وضحى في سبيلها الأعيان والعلماء والتي هي الغاية والمبتغى من الوجود الإنساني والتي يؤدي غيابها إلى عبثية الوجود بل عدميته، وهل الإنسان إلا ذلك الكائن الذي يتميز عن غيره من الموجودات بالنزوع إلى الحرية والوعي بها؟، فهي قيمة انسانية تستحق أن يضحي لأجلها الإنسان، وقد أخذت من اهتمام أدباء المهجر الكثير، وما لجأوا إلى العالم الجديد إلا سعيا لأجلها وهروبا من أغلال الاستبداد وقيود الحاجة التي تحيل الكائن البشري إلى ورقة ذاوية تتقاذفها الرياح ذات اليمين وذات الشمال، بعد أن كان برعما في فنن الوجود يبشر بالإثمار والإيناع . وكما قال نعمة قازان المغترب في البرازيل:
هي النفس تحيا بإحساسها
وليس على الحس من قدرة
ربيت طليقا على فطرتي
وما أحيلى طفـــولتي!
ويستثنى من شعراء المهجر هذا الشاعر الذي تجد في شعره قلقا في التعبير ولغة شعرية ساذجة وأخيلة مبتذلة إلا في القليل النادر. وإذ يتأمل الأديب المهجري من موقعه الجديد في واقع عالمه العربي المتردي في دركات الجهالة، المتخبط في غياهب الاستبداد، يحزنه غياب الحرية فتراه يثور في أدبه محولا شعره أونثره إلى شواظ من جمر ولهيب من نار عسى أن ينتفض الشعب في سبيل نيل حريته واقرأ هذين البيتين للشاعر السوري نسيب عريضة المغترب في أمريكا يخاطب وطنه:
مشت القرون وكل شعب قد مشى
معا وقومك واقفون ونوم !
لم تــرتفع كـف لصفعة غاشم
فيهم ولم ينطق بتهديد فم
واقرأ الشاعر القروي تلقه نفسا ثائرة وضميرا معذبا وعقلا حرنا على شىء واحد هو الحرية
أنت حر فاستوطن البلد الحر
وصاحب من أهله إخـــوانا
مثلك الكون والزمان فلا تلح
مــــكانا ولا تسب زمانا
ليس في قضمك الحديد هوان
إن في بثك الشكاة هوانـــا
ويلفت نظرنا الشاعر الدمشقي جورج صيدح المقيم في الأرجنتين إلى مفهوم أوسع للحرية يتجاوز المفهوم المألوف الساذج يقول صيدح:
غير أني عشت عمري في الشذا
فعرفت الفرق مــــابين الورود
إنما الشـــعر انطـلاق للذرى
واندفـــــاق نحو أغوار وبيد
إنه البـحر الذي أمـــواجـه
تتـتــالى حــرة ضمن الحدود
وهذه حرية الإبداع والتصور والفكر والشعور ! ولا يمكننا أن نغفل شاعرا كبيرا ونعني الدكتور أحمد زكي أبا شادي فما كانت هجرته إلى أمريكا إلا رحلة بحث عن الحرية في وطن جديد اتخذ للحرية تمثالا ضخما في مرفأ مدينة نيويورك:
لجـــأت إليك يا وطنا تغنى
به الأحرار واعتز النشيد
فإنك منبري الحر المرجــى
وبدء نهاري بل عمر جديد
كما يعتذر إيليا أبو ماضي لوطنه لبنان حين هجره لا ملالة بل بحثا عن الحرية وهروبا من الفساد والقمع:
لبنـــــان لا تعذل بنيك إذا هم
ركبوا إلى العلياء كل ســـفين
لم يهــجروك مــلالة لــكنهم
خلقوا لصيد اللؤلؤ المكنــون
لما ولـــدتهم نســــورا حلقوا
لا يقنــعون من العلا بالدون
و لا ننسى جبران فهو كعادته يتجاوز في فهمه و إدراكه لحقائق الوجود المألوف والعادي فهو زلزال يهدم يقينيات القارئ و إعصار يجتث جذور المعاني الهرمة في عقولنا ونفوسنا ولعله يبالغ أحيانا إلى درجة بث الفوضى العقلية والحياتية حين يحمل معول الهدم منقضا على البنى الاجتماعية والتاريخية غير عابئ بالمعطيات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والتي لا شك يجهل الكثير منها غير أن غيرته على الشرف الانساني واستماتته في الدفاع عن حرية الانسان المغيبة أحقابا هي ما يشفع له تطرفه يقول جبران بعقل فلسفي ثاقب ونفس بحاثة شكاكة: " إن بلية الأبناء في هبات الآباء ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه و أجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات " . ويقول أيضا : " أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة فتظنهم أحياء وهم أموات منذ الولادة ، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم فظلوا منطرحين فوق الثرى ورائحة النتن تنبعث منهم " . ونختم هذا المقال بذكر قيمة إنسانية أخرى حوم حولها الأدب المهجري وما كان له أن يغفلها وهو الأدب الباحث عن دروب الحرية والكادح في سبيل كمال الإنسان ونعني بها نزعة التأمل تلك النزعة التي تنتهي بصاحبها إلى رمي القشور والاكتفاء باللباب و لاتقنع بالألفاظ وأكثرها براق ورصيدها من الحقيقة الإنسانية قليل ، وقد حوم الأدب المهجري حول مفهوم السعادة ونسبيتها وركز على ما هو جوهري في الوجود الإنساني وما الرفاه المادي إلا وسيلة يفترض فيها أن تزيد من سعادة الإنسانية ككل لا أن تتحول إلى غاية و امتياز للبعض دون الآخر ومظهر من مظاهر الطبقية و الاستغلال .إذا فقد حوم الأدب المهجري حول هذه المعاني و امتد تحويمه إلى الميتافيزيقا ووقف أمام الموت وقفة الخاشع لمواجهة هذا المصير الحتمي لا على أنه عدمية بل رحلة إلى عالم آخر وليس شرطا أن تكون هذه الرحلة متفقة مع المفاهيم الدينية بل بعضها مستمد من الفلسفة الإشراقية و الهندية وكالقول بوحدة الوجود والفيض وتناسخ الأرواح وكلها بهدف تفسير الوجود الإنساني والموت وبث السكينة في النفس الإنسانية الحائرة المعذبة القلقة من مواجهة الموت، وقد قال إيليا أبو ماضي متعمدا الإحالة العلمية و الفنية :
إن الحياة قصيدة أعمــــارنا
أبياتها والموت فيها القافيــــه
متع لحاظك في النجوم وحسنها
فلسوف تمضي و الكواكب باقيه
وهي دعوة إنسانية إلى الاستمتاع ببهاء الكون والإندغام في مظاهر الوجود وتذوق حلاوة الحياة تناسيا للموت والعدمية ، غير أن جورج صوايا المغترب في الأرجنتين تراه في تأمله الإنساني يذهب مذهب أبي العلاء ويتفلسف على شاكلته ناصحا إيانا بنشدان الراحة في الهجوع الأبدي مادامت الدنيا دار أوصاب و مظاهر خادعة وسراب مضلل وفناء حتمي :
أيها الواجف من طيف الممات
ينشد الغبطة في طول البقاء
ليس لولا الموت في الكون حياة
فتوجه صامتا نحو السكون !
أيها الهاجع في الوادي الظليل
حاضرا كالحلم في فكر الدهور
بدد الحلم انقضى الليل الطويل
فمتى اليقظة من هذا الهجوع
يذوي المرء ويذبل كالزهور
هل ترى ينعشه ظل الدموع ؟
وندرة حداد الحمصي المغترب في أمريكا ينتهي في تأملاته الإنسانية إلى القرار بالحياة الاضطرارية وهاهو ينصحنا بالعيش لأنه لا خيار إلا ذلك متحملين أخف الأضرار :
كم تمنينا صغــــــارا
أن نرى يوما كبارا
ثم صرنا نتمــــــنى
اليوم لوعدنا صغارا
هي دنيا كيفمـــــا دا
رت عليها المرء دارا
وكما سن لنا نحيـــــا
ولم نعط الخيــارا
واقرأ هذه التأملات الشعرية وما تنطوي عليه من معاني إنسانية تبحث عن الحرية الكاملة ونبالة الحس ستجزم أنها ثمرة فكر وقاد و بصيرة ثاقبة وسوف يأخذك العجب لو علمت أنها لشاب مات يافعا في حدود الثلاثين من عمره و أظنك تعرفه هو فوزي المعلوف :
بين روحي و بين جسمي الأسير
كان بعد ذقت مــره
أنا في التراب وهي فوق الأثيـر
أنا عبد وهي حـــرة
عبد عصر من التمدن نلهـــو
ظلة عن لبابه بقشــوره
عبد مالي أسعى إليه فأحظــى
بعد طول العنا بوطأة نيرة
عبد اسمي أذيب نفسي وجسمي
طمعا في خلوده وظـهوره
عبد حبي جعلت قلبي مــأوا
ه فأضرمت أضلعي بسعيره
و اقرأ إيليا أبا ماضي ثانية تراه ينصحنا بالحياة والاستمتاع بها ولو في أخلق الأسمال ، ذلك أن السعادة ليست في القصور والرياش ، بل إنها شعور نفسي غامر يفيض من القلب على المحيا مشعا إشعاعا نورانيا :
أيها الشاكي الليالــــــي إنما الغبطة فكــــــره
ربما استوطنت الكــــوخ وما في الكوخ كســــره
وخلت منها القصـــــور
العاليات المشمخـــــره
تلمس الغصن المعــــرى
فإذا في الغصن نضـــره
و إذا رفت على القفــــر استوى ماء وخضــــره
وإذا مست حصــــــاة صقلتـــــها فهـي دره
وما أروع قول القروي على لسان الطبيعة – وقد انتهى في تأملاته الإنسانية إلى أن الإنسان الحقيقي لم يولد بعد- وكأن رحم الغيب مازالت تحتبل به مؤجلة ميلاده إلى أمد مازال بعيدا حتى تكدح الإنسانية وتجاهد في سبيل الحق و الخير و العدل فحينها تستولده من تلك الرحم يقول القروي : مررت بأترابي التاجريـــن
فلم ألق إلا العبوس الوقـورا
فملت إلى الحقل حيث الصغار
تناغي الطيور وتجني الزهورا
فهل صار كل رفاقي كهولا
وهل أنا وحدي ظللت صــغيرا؟
فأسمعني الطير عند الصباح
جواب الطبيعة لي تنشـــــد
بني ولدتك طـــلا جديدا
فقل للرفاق الألى تعـــــهد
لقد ملأ الأرض أولادكــم
و أنتم إلى الآن لم تولــــدوا
والخلاصة أن هذا الأدب كان إذا فتحا جديدا في حياتنا الأدبية والفكرية وهو ميراث فني وفكري و إنساني نعتز به فقد خرج من رحم المعاناة وجمر الغربة وكدح المعرفة ، وقد جدد وجه أدبنا ونفض عنه غبار الماضي وحقنه بمصل الحيوية والقوة فاستوى يافعا جلدا زخارا بالقيم الجمالية والشعورية و الإنسانية ، لم تكن لغته لغة القواميس بل تتبنى البساطة فوجد فيها الإيحاء والجمال، وصان عرضه عن التكلف والرياء والمديح الزائف ،والتزم بغير رعونة الإيديولوجيا وخطابية المنابر وحماسة الصالونات بقضية النهضة والكرامة العربية و الإخلاص للأمة و الوفاء لماضيها العريق ، ولئن عرف عن بعض أدبائه تساهل في اللغة عن عدم معرفة وخروج على قواعد العروض أحيانا ، ولئن شاع عن البعض الآخر تمرد حد الإنحراف و المبالغة المضللة فيشفع لهم جميعا حرصهم على غد عربي مشرق ومودة إنسانية خالصة متسامحة متضامنة مستمسكة بالسلم نابذة للحرب معتصمة بالحرية عاشقة للفن ، متذوقة للجمال ، آخذه بسبب القوة والرفاه – أي العلم – فحسبهم ذلك-و حسبنا أن نتمثل هذه القيم في حياتنا ونغرسها في أجيالنا الشابة في وطننا العربي من المحيط إلى الخليج متجاوزين قيود العصبية الدينية والمذهبية ، ساعين إلى نهضة أوطاننا و إلى إمداد العالم بالقيم الإنسانية الخالدة ، وهي لباب الحياة تلك القيم التي طفح بها الأدب المهجري وعاش لأجلها وهي كذلك لباب هذا الأدب بل لباب الوجود الإنساني .
|
|
|
|
|