|
|
حقيقة الشعر الجاهلي
د. زياد بن علي بن حامد الحارثي
بينما كنت في إحدى الرحلات الجوية ، وفي أثناء توزيع الصحف ، بدأت بتناول صحيفة مشهورة ، فلفت انتباهي مقال يكتبه باحث في الشؤون الإسلامية عن حقيقة الشعر الجاهلي ، حيث أنكر الباحث وجوده وطريقة وصوله إلينا ، وخصوصاً المعلقات وتعليقها على أستار الكعبة ، وبيّن الباحث أن الشعر الجاهلي لا حقيقة له أصلاً ، وإنما كتب بعد القرن الثالث الهجري ، معللاً أن أصحاب الكتب القديمة لم يتعرضوا له في كتبهم أمثال أبي الفرج الأصفهاني ، ثم يذكر أن هذا الشعر لا يمثل حياة العرب الجاهلية ، حيث لم يذكر آلهتهم واختلاطهم بالأمم الأخرى ، كما شكك في لغاتهم ولهجاتهم ، وذهب إلى ما ذهب إليه بعض المستشرقين كمرجليوث وبركلمان ونولدكه ، وكذلك ماذهب إليه الأستاذ طه حسين ، فجميعهم شكك في وجود الشعر الجاهلي، وللأسف أن الباحث متخصص في الشؤون الإسلامية ، فجال في نفسي هذا المقال سريعاً لتوضيح حقيقة الشعر الجاهلي من خلال كتب التراث وكتب المحدثين والمنصفين ، فأبدأ بوجود الشعر الجاهلي ، لأنه حقيقة موجودة منذ زمن الجاهلية إلى نهاية القرن الثاني والثالث وظهور الكتابة ، حيث نقل عن طريق الثقات والعلماء والشعراء والقبائل نقلاً متواتراً يرويه أكثر من عالم وراوية وشاعر حتى وصل إلينا ، فلو نظرنا إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الشعر ويستجيده حيث سمع من رجل من ثقيف شعر أمية بن الصلت حتى وصل إلى مائة قافية ، وكذلك حينما أنشدوه قول أمية :
الحمد لله ممسينا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا
(خمسة أبيات) فقال الرسول الكريم : إن كاد أمية ليسلم ، وقال مرة أخرى آمن شعره وكفر قلبه .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل بعجر بيت طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكذلك ما رواه مسلم الخزاعي حينما سمع منشد ينشد الرسول صلى الله عليه وسلم :
لا تأمنن وإن أمسيت في حــرمٍ حتى تلاقي مايمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن بكـلِّ ذلك يأتيك الجديــــــــدان
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : لو أدرك هذا الإسلام !
وكذلك حينما أنشدوه قول عنترة بن شداد :
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل
فقال: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة ! . وأختم بقصيدة البردة التي أنشدت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد .
أما زمن الخلافة الراشدة فقد كان أبو بكر الصديق عالماً بأنساب العرب وأيامها وأخبارها وأشعارها ، وعمر بن الخطاب الذي أعجب بشعر زهير بن أبي سلمى ، وعائشة رضي الله عنها التي كانت تقول عن نفسها : وإني لأحفظ ألف بيت للبيد ، وكذلك المدارس الأدبية سواء للشاعر أوللقبيلة أمثال المدرسة الأوسية ، ولا أنسى حبر الأمة عبدالله بن عباس الذي كان يفسر بعض القرآن بالشعر الجاهلي ، والأمثلة كثيرة جداً . وللانصاف فإن الشعر الجاهلي ثلاثة أنواع : الأول: صحيح لا يشك في صحته وهو الذي وصلنا عن طريق الثقات من العلماء والشعراء والقبائل نقلاً متواتراً . والثاني: يشك في بعضه حسب الرواية والرواه . والثالث: موضوع منحول انتحله بعض الباحثين عن الشاهد اللغوي والقصاصون ليحلون به مجالس السهر والسمر وهذا قليل أيضاً .
بعد هذا كله يظهر باحث إسلامي ويشكك في الشعر الجاهلي ، ويردد بعض ما ذهب إليه أمثال مرجليوث الذي شكك في القرآن والوحي ، أو يردد ما جاء به بعض المحدثين كطه حسين وغيره . إذن لابد من قراءة الشعر الجاهلي كاملاً دون الأخذ ببعضه والحكم عليه ، وحتى تتضح الغشاوة التي تخيم على أعين بعض الدارسين ، ومن تأثروا بهذه الفرضيات المنظر لها ، لأن علماء الأمه وكتابها دافعوا عن هذه القضية بما يكفي لأنها تعد وثيقة تاريخية للجاهلية ، فأحببت أن أوضح أن الأدب الجاهلي لا يحكم على ظاهره تعسفاً دون تمحيص وتدقيق وسبر لأغواره حتى تتضح حقيقته .
|
|
|
|
|