للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

لغة الشعر وعلاقتها بالطبع والتكلف

د. سليمان علي عبد الحق


     اللغة وعاء الفكر ، والمعبر عن المعاني التي تشكل هذا الفكر ، ولولا اللغة ما خرج معنى إلى الوجود ، ولا عرفه الجمهور ، بدءاً من المعاني المادية ؛ كمحمد ، والفرس ، والباب ، وانتهاءً بالمعاني العقلية ؛ كالحب ، والعدل ، والكرامة .
    وما اللغة سوى منظومة المفردات والتراكيب التي يستعملها المتكلم للتعبير عما يدور بعقله من معانٍ ، ولا يضير العالم ألا يحيط بكل المفردات اللغوية ، لأنه لا يحيط باللغة إلا نبيٌّ ؛ فلا يضيره مثلاً ألا يعرف جميع المفردات الدالة على الكرم أو البخل أو المطر أو النحْل ، أو الضفادع ...إلخ ، ولكن يضيره ألا يعرف صيغ الاستفهام أو الأمر أو التمني أو التعجب أو النداء ...إلخ .
   وعلى مستوى الإبداع ، فإن العبرة ليست بالألفاظ ، ولكن القدرة على الإبداع تقاس بجودة الصياغة ؛ أعني قدرة الشاعر أو الأديب بعامة على صياغة معانيه في قالب فنيٍّ متميزٍ؛ يلتحم فيه اللفظ بالمعنى، وتتضافر جميع عناصر العمل الفني ؛ كالمفردات ، والأفكار ، والموسيقى ، والصورة ، والعاطفة ، بل ويسهم كل منها في إضفاء قدرٍ ما من الجمال والتأثير في العمل كله ، بحيث لا يستطيع المتلقي أن يعزو القيمة الفنية للعمل إلى عنصر واحد من تلك العناصر السابقة ؛ لأنه ملتحم معها ، وغير متعارض مع تسلسلها المنطقي ، ومن هنا فإن جمال العمل يعود بالأساس إلى تلك النسبة القائمة بين جميع عناصره ، والتي تتماسك ، وتتعاون في بناءٍ عضويٍّ متناسقٍ ومتكامل.
    وفي تراثنا اللغوي القديم ، كان أسلافنا من اللغويين والنقاد يفرقون بين عمل اللغوي ، وعمل النحوي ، وعمل الشاعر : فاللغوي متخصص في جمع المادة اللغوية من على ألسنة البدو الأقحاح ، مفرداتٍ وتراكيبَ ، وتصنيفها ، وترتيبها ، ويدخل في عمله أيضاً صناعة المعجم . أما النحوي ، فيبدأ عمله بعد عمل اللغوي ؛ حيث يتلقف المادة اللغوية التي جمعها اللغوي ، ويقوم بتحليلها نحوياً ، وصرفياً ، وصوتياً ، ودلالياً ، ثم بناء قواعد اللغة ، تبعاً لما يطرد من استعمالات العرب لها في كلامهم . أما الشاعر أو المبدع عموماً ، فيُعْنَى أكثر بالمعاني والدلالات ، وينتخب من الألفاظ ما يصلح أن يكون وعاءً لفكرته ، ومصباً لتجربته التي آن لها أن تخرج للوجود .
    وكان من النادر أن نجد فرداً واحداً يجمع بين عمل اللغوي ، وعمل النحوي معاً ، أو عمل اللغوي ، والشاعر معاً ، باستثناء بعض من كان لديهم قدرات ومواهب فذة ؛ كصاحب معجم العين ؛ الخليل بن أحمد (ت 170 هــ) الذي كان يجمع المادة اللغوية بنفسه ، ثم يقوم على تحليلها نحوياً ، وصرفياً ، وصوتياً ، ودلالياً .
   وقد كان للغة الشعر دور مهم للغاية في تصنيف الشعراء إلى مطبوعٍ ، ومتكلفٍ ؛ فالشاعر المطبوع في نظر النقاد هو الذي يتميز شعره بالسهولة ، والبعد عن الحوشي والمعقد من الألفاظ ، وهو الذي تنثال عليه المعني انثيالاً بسبب جودة قريحته ، وتوقُّدِ عاطفته ، وقد وصفوه بأنه الشاعر الذي يأتيه الشعر سهواً ورهواً ، ويقوله عفو الخاطر . أما الشاعر المتكلف ، فهو الذي يتعسف في اختيار الألفاظ ، ويعقِّد في المعاني ، ويأتي بالصور البعيدة ، والدلالات الغلقة ، مما يفسد على المتلقي لذة التذوق ، ومتعة الاندماج مع المضمون.
    وقد أطلق الأصمعي (ت 216 هــ) اسم عبيد الشعر على تلك الطائفة من الشعراء الذين كانوا يطيلون النظر في أشعارهم ، وينقحونها المرة تلو المرة ، ويثقّفونها حتى تسلم من أي عوارٍ يطال اللفظ أو المعنى أو الصورة أو الصوت ، وقد يستغرق هذا الأمر منهم شهوراً طويلة ، بل قد يمتد إلى الحول ، ولذا سميت قصائدهم بالحوليات ، مما يدل على أن هؤلاء قد أصبحوا مثل العبيد ، وسيدهم الشعر ، وقد كانوا بمثابة مدرسة شعرية متميزة لها سماتٌ فنيةٌ خاصةٌ ، ويأتي على رأسهم زهير بن أبي سلمى ، والحطيئة ، وسويد بن كراع العكلي  وغيرهم.
    وفي رأيي أن الأصمعي كان مصيباً في إطلاق مسمى "عبيد الشعر" على هذه الطائفة من الشعراء ، لكنه لم يكن منصفاً في نعت أشعارهم بالتكلف ؛ فالشعر صناعة ، كما قال محمد بن سلام الجمحي (ت 231 هــ) ، وهذه الصناعة تتطلب إلى جانب الموهبة ، صقلاً طويلاً ، ودربةً دائمةً ، فضلاً على دقَّةِ النّظر ، وإعمالِ الفكر ، وإيثارٍ التأنِّي ، حتى تخرج القصيدة إلى الجمهور مثقَّفةً ، منقَّحةً ، لا عوج فيها ولا عوار .
    ويظهر الطبع في بداية مرحلة الإبداع ، ويمكن أن نعده بمثابة شرارة الإبداع ، وهو يمثل بداية منحنى العاطفة في تصاعدها وتناميها حتى تصل إلى أعلى نقطة ، وهي التي تسمى بالذروة أو Climax ، وبعدها يبدأ منحنى الإبداع في الهبوط حتى يصل إلى مرحلة الانطفاء مع نهاية أبيات القصيدة . وبعدها تبدأ مرحلة إعادة النظر في القصيدة ، وتعديلها ، وتثقيفها ، وتنقيحها ، وإصلاح ما بها من عيوب في الألفاظ ، أو الأوزان أو الصور ...إلخ .
    وفي تصوري أن الطبع يظهر بوضوح في مرحلة اللاوعي التي تصاحب بداية إبداع القصيدة ، أما الصناعة أو التنقيح فيكون في مرحلة الوعي التي تعقب إنشاء العمل الفني.
   وربما قرن النقاد بين لغة الشعر ، وبين طبع الشاعر أو تكلفه ؛ بسبب أن بعض الشعراء ممن ليس لديهم طبعٌ صافٍ ، يتعسفون إنشاء الشعر على غير طواعية ، ودون تحيُّن الوقت المناسب للإبداع ، فتأتي لغتهم ركيكة ، وألفاظهم معقدة ، ومعانيهم تفتقر إلى الماء والرونق ، ومن هنا فإن المتلقي يستنتج ، سريعاً ، أنه هذا النوع من الشعراء مفلس من العاطفة ، بل من الموهبة العامة .  


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية