|
|
كتاب: القرآن واللغة ـ تطبيقات لغوية في مفردات قرانية للدكتور محمد البكاء
صدر مؤخرا للأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب البكــّـاء كتاب: ( القرآن واللغة ـ تطبيقات لغوية في مفردات قرانية ) عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع- سورية – دمشق .
جاءت هذه البحوث التطبيقية مجتمعة، وإن اختلفت مفردات ألفاظها لتبيان أن الكلمة إذا كانت هي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد، إلا أنها لا يمكن أن تحمل على معناها الظاهر دائماً، وخاصة ألفاظ القرآن الكريم. لأنها متعددة الدلالات، ولما تضمه المفردة فيه من طاقات ايحائية، ورمزية تختلف آلية فهمها باختلاف النص ومستوى التلقي، فالمبحث الأول: (كَتَبَ وما صيغ منها في القرآن الكريم).نرى أن لفظة (كتب) لم يرد منها ما عرف من معنى الفعل. نقول: كَتَبَ الشيء، يكتبه كَتْباً، وكِتْباً وكتابة. وكَتَبه: خطه . ففي قوله تعالى: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). (البقرة187). قال الزجاج: ابتغوا فيما أبيح لكم فيه، وأمرتم به، فهو المبتغى.
إنّ ما خلصنا إليه في هذا المبحث: أن ما جاء في القرآن الكريم من لفظة (كَـتـَب)، وما صيغ منها لا يدل على الكتابة المعروفة، بعد أن ذهب أحد الباحثين إلى: أن (كَتـَب) وتصريفاتها قد وردت تسعَ عشرة وثلاث مائة مرة في القرآن الكريم، وهي تدل على معرفة العرب القراءة والكتابة قبل ظهور الإسلام . وهذا خلاف ما رأيناه سواء في إحصاء عدد الألفاظ أم في معانيها. فالكتابة المعروفة التي هي (الخَطّ) يقال: خطه فلان، كما يقال: كتبه فلان . هي تصوير اللفظ المقصود تصويره برسم حروف هجائه لا برسم حروف أسماء هجائه . قد وردت في آيات معروفة لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة، كقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) (البقرة 79). وقوله تعالى الآخر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ…) إلى قوله تعالى: ((وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة (البقرة 282)، أو الآيات الأخرى التي ذكرت في ثنايا البحث.
المبحث الثاني (الحَجَرُ والحِجَارة في القرآن الكريم): قال أهل اللغة: الحَجَر: الصَّخرة، والجمع في القلة (أحْجَار)، وفي الكثرة حِجار وحِجارة، ونقل عن الليث: الحَجَر جمعه الحجارة، وليس بقياس؛ لأن الحجر وما أشبهه يجمع على (أحجار). ومثل هذا قول سيبويه في :(هذا باب تكسير الواحد للجمع): وما كان على ثلاثة أحرف، وكان (فَعَلا) فإنك إذا كسرته لأدنى العدد بنيته على (أَفْـْعال). فإذا جاوزوا به أدنى العدد فإنه يجئ على (فِعال وفُعُول). فأما (الفِعال) فنحو: جِمال وجبال، وأما (الفُعول) فنحو أُسود وذكور. و(الفعال) في هذا أكثر. وقد يلحقون (الفِعال) الهاء وذلك قولهم: (جَمل- جمالة) و(حجرـ حجارة) وذلك قليل. والقياس على ما ذكرنا . وقال ابن فارس: ( وقياس جمعة في أدنى العدد (أحْجار) و(الحِجارة) نادر .
مما تقدم نرى أن (الحَجَر) كما قال اللغويون يُجمع جمع قلة على (أحْجار) أما جمع الكثرة فهو (حِجار) وكلاهما من الأوزان القياسية. وقد تلحقه الهاء، فيقال: (حجارة) وعنه قال سيبويه: أنه قليل. وقال ابن فارس: أنه نادر. وكلا القولين لا يخلو من نظر اعتماداً على لغة القرآن الكريم، ذلك أن لفظة (الحَجَر) قد جاءت مفردة في القرآن الكريم في آيتين كريمتين (البقرة60) و(الأعراف160). أما صيغة الجمع، فلم يرد جمع القلة (أحجار) في سور القرآن الكريم كلها، وما جاء من جمع كثرة فهو على وزن (فِعالة) (حِجارة)، أي على السماع الذي وصفه بعض النحاة واللغويين بالقلة مرة، وبالنادر مرة أخرى على الرغم من ذكره في عشر آيات بينات، هي: (البقرة 24 ،74) (الأنفال 32) (هود 82) (الحجر 74) (الإسراء 50) (الذاريات 23) (التحريم 6) (الفيل 4). أما (حجار) جمع الكثرة القياسي كما قالوا فلم يرد في ألفاظ القرآن الكريم كلها قط.
المبحث الثالث (الجِهَاد في القرآن الكريم): جاءت لفظة (الجـِهَاد) في القرآن الكريم بصيغ متعددة، وقد راعى البحث في دراسة هذه اللفظة مستويات الخطاب القرآني، وصيغ الاشتقاق ودلالتها، إذ أمر الله سبحانه نبيه الكريم (ص) بجهاد الكفار، والمنافقين، وفضل المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات، ومغفرة ورحمة، وبذا تظهر منزلة (الجهاد) كاختبار إلهي، وما يترتب على هذا الاختبار من إظهار الطاعة أو العصيان، وعليهما يكون الجزاء.
المبحث الرابع : (اليهود في القرآن الكريم- بحث في الدلالة والمعنى)، فالهَوْدُ: التوبة، قال تعالى: (إنّا هدنا إليك) (الأعراف 156) أي: تبنا إليك، وقال ثعلب، (المتهوّد): المتحرّج، وقيل: المُتَقَرّب، والتَّهوّد: التوبة والعمل الصالح. و(يَهُود) اسم للقبيلة، قال سيبويه في (هذا باب ما لا يقع إلا اسماً للقبيلة): كما أن عُمان لم يقع إلا اسماً لمؤنث، وكان التأنيث هو الغالب عليها. وذلك: مجوس، ويهود . وفي شرح قول سيبويه، قال أبو سعيد السيرافي: اعلم أن (يهود) و(مجوس) اسمان لجماعة أهل هاتين الملتين، كما أن قريش اسماً لجماعة القبيلة الذين هم ولد للنضر بن كنانة، ولم يجعلا اسمين لمذكرين، كما أن عُمان اسم مؤنث وضعت على الناحية المعروفة بعُمان، فلا يصرف (مجوس) و(يهود) لاجتماع التأنيث والتعريف فيها .
وقد جاءت لفظة (اليهود) في القرآن الكريم ثماني مرات، وقد انصب جهدنا في البحث عن معانيها المستخلصة، ودلالاتها في الآيات البينات التي وردت فيها لفظة (اليهود) آخذين بالحسبان تقديم صورة شاملة عن عداوة اليهود من دون مراعاة ترتيب الآيات الكريمة بحسب ورودها،إذ ظاهر اليهود المشركين حسداً للنبي محمد لتضاعف كفرهم،وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء،ومعاداة المؤمنين،بعد أن غلبت الإثرة على نفوسهم،وعزَّ عليهم أن يكون النبي من العرب لا منهم،وأن يزعزع مكانتهم الدينية أحد من غيرهم، أو تشاركهم أمة أخرى في هذه الميزة، وقد وصف القرآن الكريم عداوة اليهود، وشركهم، وتحريفهم التوراة في آيات بينات أفصحت معانيها عن تلك العداوة والبغضاء.
المبحث الخامس (مادة لَحَن في القرآن الكريم واللغة):فقد كان بحثاً في الصيغة والدلالةفـ(اللحْن) بسكون الحاء عند أبي الحسن (كراع) له ثلاثة معانٍ، وبكسرها: الفطن . وقال ابن بري: للحن ستة معاني: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض،والمعنى. فإذا أريد بـ (اللحن) الخطأ في الإعراب، قيل: لحَنَ في كلامه، يَلْحَن لَحْناً، فهو لحّان ولحّانة، وبه فسر بيت مالك بن أسماء بن خارجة الغزاري: منطقٌ صائب وتلحن أحيا ناً وخير الحديث ما كان لَحْنا، قيل: معنى قوله: (وتلحن أحياناً) أنها تخطئ في الإعراب،وذلك يستملح من الجواري إذا كان خفيفاً،كما قيل في تأويل البيت: خير الحديث ما كان لا يعرفه كل أحد، إنما يعرف أمرها في أنحاء قولها، أراد: أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها، كما قال:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)(محمد 30)أي: في فحواه ومعناه.وهذا ما اصطلح عليه بـ (التورية)وهي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره،أو (التعريض)وهوما يفهم السامع مراد المتكلم من غير تصريح .
إن بيت مالك الفزاري الذي تقدم ذكره هو: أقدم شعر وردت فيه كلمة (اللـَّحْن) التي اختلف في معناه،وقد استعرضنا كل ذلك بالتفصيل بغية الوصول إلى معنى قوله:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)والتي اختلف في تفسيرها أيضاً،وعلاقتها بلفظة (لحد) في قوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ...) (النحل 103).
المبحث السادس (الطِّفل في القرآن الكريم- بحث في دلالة النشأة وحق الرضاعة):الطفل (لغة) الصغير من الأولاد للناس، والبقر والظباء، ونحوها، تقول: فعل ذلك في طفولته، أي: هو طفل، ولا فعل له، لأنه ليس له قبل ذلك حال فتحول منها إلى الطفولة . وقولهم: ليس له حال تحول منها… كلام تنقصه الدّقة، لأن الطفل هو (الرضيع)، فإذا كان في بطن أمه فهو (جنين) فإذا ولد سمي: (طفلاً) و(رضيعاً)، وقال بعضهم: صبي . مستشهداً بقوله تعالى: (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) .(مريم 29) ودلالة لفظة (صبي) أوسع من دلالة لفظة (طفل).قال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً). (مريم 12). قال السيوطي: (صبياً) ابن ثلاث سنوات . وبذا تتسع لفظة (صبي) زمنياً متجاوزة (الفطام) الذي حدد بحولين كاملين قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). (البقرة 233). ومعنى حولين كاملين: أربعة وعشرون شهراً، وجاز أن تكون مدة الرضاعة أقل من ذلك إذا تراضياـ أعني الوالدين في الفطام.
كما أن الطفل قد يسمى (ولداً) وقد مرّ قوله تعالى: (يرضعن أولادهن) يعزز هذا قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). (يوسف 21)، وقوله تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). (القصص 9).
مما تقدم نرى:أن (الطفل) هو الصغير، وهو الرضيع، وقبلهما (الجنين) ثم أن لفظة (صبي) أعم من لفظة (طفل) ثم تأتي لفظة (ولد) لتكون أعم وأكثر شمولاً من اللفظتين السابقتين، لذا يصح أن يقال: أن كل (طفل) (ولد) وليس كل (ولد) (طفل) لأن لفظة (طفل) دلالتها الزمنية تبدأ من الولادة حتى بلوغ الحلم، أما دلالة لفظة (ولد) فهي أكثر سعة في الزمان، إذ تتعدى مرحلة البلوغ، والبلوغ كما قيل يبدأ من 13ـ 13.5 سنة (زيادة أو نقصان عام) وتكون المفاجأة الأولى مع الحلم الليلي . فقوله تعالى في سورة يوسف (21): (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قيل: إنه كان ابن سبع عشرة سنة، وقيل: كان مراهقاً أوحى إليه في صغره كما أوحى إلى يحيى وعيسى .
أما المبحث السابع (لفظة خَسَأَ في القرآن الكريم- بحث في الدلالة والمعنى) .فـ (خَسَأ) تقال للكلب، قال الخليل: خسَأت الكلب،إذا زجرته، فقلت: اخْسَأ، والخاسئ من الكلاب والخنازير، والشياطين: البعيد الذي لا يُترك أن يدنو من الإنسان،والخاسئ: المطرود. وقد وردت لفظة (خسأ) في القرآن الكريم أربع مرات في آيات بينات، هي: (البقرة 65-الأعراف 166-المؤمنون 108-الملك 4)،وقد قمنا بدراسة هذه الفظة دلالياً، ومتابعتها في سياق النص القرآني الذي وردت فيه،فدلالة لفظة (خاسئاً) في قوله تعالى: (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ). (الملك 4) هي غير دلالتها في قوله تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). (البقرة 65) وكذا قوله تعالى (الأعراف 166).
إنَّ الذي خلصنا إليه في هذه البحوث، هو: أنّ النـّحاة واللغويين وإن وضعوا القرآن الكريم موضع الاهتمام، والعناية الفائقة، إذ به حافظت العربية على قوامها، ونظامها لأنه أعلى نثر عربي، وأفصحه، وأنصعه، وإن استخراج الشواهد اللغوية والنحوية منه بادئ الرأي أقوى برهان على صحة القاعدة، وقدمها، ووثاقتها، إلا أنا رأينا أن هناك تجافياً، وتغافلاً نسبياً من جماعة من اللغويين، والنحويين باستثناء الكتب التي تناولت إعراب القرآن ومعانيه عن أخذ الشواهد منه (لغوية كانت أو نحوية) شأنهم في ذلك بما عرف عنهم من موقف بالنسبة للقراءات القرآنية، وإن كان هذا الموقف: يختلف بين النظرية والتطبيق، فهم نظرياً مقتنعون أن كل ما قرئ به جاز الاحتجاج به سواء أكان متواتراً أم آحاداً أم شاذاً، أما من ناحية التطبيق، فإنهم لاحظوا عدم تحمل القراءة لقياس النحو، وطريقة تدارس النصوص، لأن القراءة القرآنية سنة متبعة لا تخضع لأحكام القياس، والمناهج العقلية، فبدأ الانفصال بين النحو والقراءات، كما بدأ الاختلاف بين النظرية التي قرروها عن القرآن الكريم وقراءاته والتطبيق بعد أن رفضوا بعض القراءات، وضعفوا غيرها، ورموا بعض القراء بضعف الدراية بالعربية، كما وصموا بعضهم باللحن، ولم يكن ذلك لشيء سوى أن هذه القراءة أو غيرها لم تتفق مع القواعد التي استخرجوها من نصوص أخرى يقف الشعر في مقدمتها بعد أن اعتمدوا عليه بصورة مبالغ فيها، وتحكيم القواعد المستقاة منه في النثر. وبذا أصبح القرآن الكريم والقراءات القرآنية مجالاً لتطبيق القواعد اللغوية والنحوية، وليست مصدراً تستقى منه القواعد التي انحصرت مصادرها في السماع، والقياس .وفي الختام أرجو أن يكون عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به، والحمدُ لله أولاً وآخراً، وهو الموفق للصواب.
|
|
|
|
|