للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  دعوة للمشاركة والحضور           المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

كفاح والد

د. علي محمد عوين

عندما انتهت المقاومة في الجانب الغربي من ليبيا تقريبا بموت سعدون السويحلي مع بداية العشرينيات ،هاجر عدد كبير من الليبيين و خصوصا من مصراته إلى تونس و مصر و بلاد الشام و تشاد و إلى دول أخرى مجاورة.كان خوف الناس نابعا من تمادي الاستعمار الإيطالي في التنكيل بهم ،إضافة إلى الجوع و الفقر و هذه مجتمعة هي التي دفعت بهؤلاء إلى الهجرة.كان محمود أحد هؤلاء الذين نزحوا عن البلاد و ممن استوطنوا الجنوب التونسي حيث كان العمل متاحا في مناجم الفوسفات التي كانت تديرها شركات فرنسية.و لم تكن الرحلة ميسرة بل أنها كانت رحلة شاقة هاجر فيها الليبيون حافي الأقدام،و إن حالف أحدهم الحظ امتطى صهوة حمار أو ركب (حنطورا أو كاراطونا) محملا ببعض الحاجيات البسيطة جدا.يحكى محمود أنه كان في الخامسة عشر أو السادسة عشر من عمره و أن أخته الوحيدة صحبته حتى زوارة و لكنها لم تستطع المواصلة و كانت يومها في السادسة من عمرها فأعيدت إلى مصراته.
كان محمود أميا و لكنه قرر في الغربة أن يكون عصاميا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،فبدأ بالانتساب إلى مجموعة عمال المناجم و استقر في قرية الرديف تلك القرية التي اشتهرت بنخبة من الرجال المهاجرين أمثال محمود و قطنوا بالجهة العالية منها و حيث اشتهرت تلك المنطقة بـــ ( كدوة الطرابلسية) فكونوا بذلك تجمعا ساد فيه التضامن و التكافل الاجتماعي و شكلوا ملاذا لكل آت جديد،و نضرب مثلا على ذلك أنه عندما يحتفل الليبيون بأي مناسبة تكون المناسبة بمثابة عيد للتونسيين و الجزائريين و المغاربة من القرية.
كان على محمود أن يؤسس أسرة و أن يساهم في دعم أخته و بقية أهله في مصراته،تزوج من امرأتين تونسيتين و لم يلاقي زواجه منهما التوفيق فتطلقا دون أن ينجب منهما.ثم تزوج من حواء التي كانت تصغره بأكثر من عشرين سنة فكان زواجه منها الخير كل الخير،كما أنجبت له عددا لا بأس به من الأولاد و البنات.تذكر حواء بأنها عندما تزوجت من محمود و كانت بنت الرابعة عشرة وجدته صاحب ثلاثة أعمال:كان يعمل بالمنجم في الفترة الليلية حتى الصباح.
 و يعمل في مزرعته الصغيرة التي كانت تزدان بكل أنواع الأشجار المثمرة و الخضروات و التين الشوكي،إلى جانب أنه كان يستغل الحنفية العمومية بجانب مزرعته فيبيع أهل القرية الماء حيث كان ينقل الماء إلى بيوتهم في براميل مستخدما حماره.لم ترض حواء بالعمل الثالث فأقسمت عليه أن يتوقف و انصاع إلى طلبها.و بقي هو في عمله بالمنجم بينما أخذت هي على عاتقها،بمشاركة الأولاد بعد أن كبروا قليلا،القيام بأعباء المزرعة الصغيرة(جردة).و من هذه المزرعة كان الخير يأتي و أقلهن بيع ظلف  التين الشوكي لبعائر البدو بالجوار.و مع أوائل الستينيات كان محمود يملك خمس بيوت و المزرعة و حوانيت استخدم أحدها لفترة في تعبئة البطاريات الكبيرة التي كانت تستخدم تلك الأيام في تشغيل المذياع؛كما استطاع مع أوائل الخمسينيات حج بيت الله الحرام.و تجدر الإشارة إلى أنه قام في تلك الفترة الحالكة من تاريخ الجزائر بتبني أطفال جزائريين لفترة قصيرة من الزمن.
كان محمود دائم الحنين إلى بلده و أهله فكان لا يفوت فرصة لزيارة مصراته و خصوصا عندما بدأت عائلته بالضغط عليه لأجل العودة؛و في كل مرة كان يزور أهله محملا بكل ما تشتهي النفس و ترغب و خصوصا الكسوة السنوية لأخته و عائلتها و زادها من سكر و شاي و دقيق و غيره.
و لوصف بعض من مشاق الليبيين ممن هم على شاكلة محمود نروي جزء من العمل الذي كانوا يقومون به في المنجم،كانوا يدخلون المنجم المظلم مستخدمين مصابيح الكربون(لامبة) التي تعمل بقطعة تسمى الكربون يدلق عليها الماء يقدر فيتفاعل مع الماء لينبعث غاز قابل للاشتعال و هو مصدر النور.في المنجم يقوم العمال الليبيون بتعبئة عربات حديدية بالتراب الفوسفاتي و من مناطق ضيقة جدا في الجبل(جبال زمرة و طبل الشوابين)  و من حين لآخر تسمع بأحدهم و قد انهار الجبل عليه و مات،يأتي بعدها القطار ليقطر تلك العربات و لا بد أن يكون العمال على أهبة الاستعداد لذلك فلا يتعرضون للدهس من قبل القطار.
عاد محمود بعائلته من المهجر (62-1963) بعد أن وصل سن التقاعد إلى مصراته و بعد أن بيعت أملاكه بأبخس الأثمان حيث كانت الحكومة التونسية آنذاك تضغط المهاجرين ليتركوا البلد.و عندما عاد وجد أن كل أراضيه بمصراته قد راحت لآخرين من أبناء عمومته بدعوى أن أباه كان مسرفا و باع أراضيه و أراضي ابنه  محمود، و من العجيب أن إحدى الأراضي بيعت بمرطة شعير(إردب) .و القصة الأغرب و الأمر أن أخته قبلت به لمدة لا تزيد عن العشرين يوما و هي الفترة التي نفد فيها المخزون الكبير من الهدايا و أصناف الأكل التي جلبها محمود معه من تونس.فلم يجد بدا هو و عائلته من الانتقال إلى قرية أخوال أبناءه حيث استضافهم أحد الأخيار ببيته الجديد و لمدة ثلاث سنوات،بعد ذلك انتقلت العائلة جميعها إلى طرابلس.و يذكر أحد الأبناء أنه عندما طردتهم عمتهم لم يخرج أي فرد من أفراد العائلة الكبيرة من أبناء عمومتهم حتى لتوديعهم.
كانت الفترة 62-71 من أصعب الفترات في حياة العائلة و لكنها كانت فترة كفاح من الطراز الأول؛فلقد قرر الأولاد أن الطريق للسؤدد و النجاح هو شق طريق العلم و هو الطريق الذي يستطيعون من خلاله تكوين أنفسهم من جميع النواحي إلى جانب إرضاء الله و خدمة الوطن.و هذا ما حدث بالفعل فالكل واصل تعليمه و بعضهم وصل أعلى درجات السلم التعليمي و كان لهم بصمات و بصمات في خدمة البلد و رقيها.
توفي محمود،رحمه الله، في أواخر سنة 78 عن عمر يناهز السبعين سنة و بعد أن رأى الخير الوفير في أواخر حياته و رأى أولاده جلهم يدرسون بأمريكا و يوغوسلافيا و بناته يرتادون المدارس؛ رغم أنه في فترة الستينيات كان يلح عليهم أن يتركوا المدارس ليقوموا بما يقوم به أبناء عمومتهم من العمل كسائقي شاحنات حتى يحصلوا على كسب سريع ينتشل العائلة من ذلك الفقر المدقع, و لكن(و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)،و نعما هي مشيئة.
و لحواء قصة هي الأخرى و كذلك الابنة الوحيدة التي لم تواصل دراستها بسبب كونها بكماء صماء نتيجة لحادث حدث لها في صغرها و هي قصة مأساوية سنرويها بإذن الله في حكاية قادمة.
لا يفوتني أن أذكر بأن محمودا كان تقيا ورعا و كان يصلي مع كل صلاة فرض خمسة أوقات أخرى وفق ما حفظه من سور قصيرة رغم أميته،كما كان مؤذنا بجامع المنصورة بطرابلس و توفاه الأجل قبيل صلاة الفجر بقليل ليلة الجمعة بعد أن صلى بعض النوافل و استعد للذهاب إلى الجامع.من الملفت للنظر أنه استطاع بفضل الله أن يحج بيت الله مرتين أخريين.كما تجدر الإشارة إلى أنه رغم كونه أميا إلا إنه كان يحب الأدب و كان يطلب من أحد أبناءه أن يقرأ له يوميا(و قبل أن يذهب للعمل) من قصص عنترة بن شداد و حمزة البهلوان و الظاهر بيبرس و سيف بن ذي يزن و غيرهم و كان يتقن ما يسمعه عن ابنه الذي كان في سن العاشرة.
إن قصة محمود قصة نموذجية تنطبق على معظم مهاجري تلك الفترة من الليبيين و الذين هاجروا عزلا نتيجة للقهر و الفقر ثم عادوا مصطحبين معهم بنيهم الذين ساهم معظمهم في تقدم و ازدهار ليبيا.
و تقديرا لكفاح أمثال محمود في تونس و لما كان لهم من إسهامات في الاقتصاد التونسي كتبت مجلة صدى المناجم التونسية في عددها الصادر بتاريخ 4/2008 مقالا مفصلا عن محمود و عن تلك الفترة الحافلة بالنضال.


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية