|
|
كان طيبًا
د. سليمان زيدان
أفرك أصابعي تارة وأشبكها فوق رأسي أخرى .أقضم أناملي بأطراف أسناني . أقصم ظهر سكينتي ؛ تزيد وتيرة انزعاجي ، فاستعين بسبابتيِّ أسدُّ بهما أذنيَّ . أسرق نظرةً سريعة حذرة نحو الخلف يتضاعف بها قلقي. أتذكر والدي .. حجمي.. فأفكر في العواقب ؛ فأعود إلى سابق وضعي. يدخل معلِّم اللُّغة الإنجليزيَّة فيتكرر واقعُ كلِّ حصة : صفير . ضرب على الأرض بالأرجل تحت الأدراج . وسلة مهملات مُلِئَتْ بقايا أوراق ممزقة ، ومخلفات بري الأقلام ، ونفايات وجبات بدويَّة سريعة تسقط فوق رأسه إذا ما دفع باب الفصل وهمَّ بالدخول ، إذ رُكِّزتِ السلة قد فوق حاشيته العلويَّة وهو في وضع الموصد إلا قليلا... تثور ثائرة المعلِّم . تنتفخ أوداجه. يزعق: من (الفاشل السَّافل) منكم أيها السَّفلة فعل هذا ؟ أنتم معدمو الأدب والتربية. مَن يفعل هذا بمعلمه؟!!
أتألم من حِدَّة توبيخه الجمعي . وما يزيدني ألمًا أنَّه نعت الكُلَّ بصفات ذميمة وأنا وقلَّة غيري منها براء . لكن براءتي لم تشفع لي .. وأنا على هذه الحال والألم يعصرني اقترب مني حتى وقف أمام درجي ــ الأول في الصف الأوسط ــ وشدني من رقبتي وأفرغ غضبه في مسامعي ولعابه يمطر وجهي: قل لي : من هم الفاعلون المتمردون؟ من الفاعلون المتمردون الفاشلون ؟ وأخذ يهزني بعنف. الصدمة ألزمتني الصَّمت. أفقدتني القدرة حتى عن الدفاع عن نفسي ؛ فانهرت حتى وقعت على درجي مغشيًّا علي. طلب من رفاقي في الدرج إفاقتي ففعلوا بأن سكبوا الماء على وجهي. عاد يخاطبني : أنت طالب مُجِد ونبيه وواضح أنَّك طيبٌ تحرص على التعلم ؛ فهيَّا أخبرني عنهم.. تمتمت بكلمات مبهمات ثم أجهشت بالبكاء. فصار يضربني على رأسي بمسطرة كانت في يده. ترك الفصل وغادر . لحظات وعاد ومعه مدير المدرسة الذي شرع في توبيخنا وتهديدنا كلنا أول ما تجاوزت مقدمة حذائه باب فصلنا أعقب ذلك بضربنا جميعًا دون تمييز . وغادر غير آسف على ظلمي.. في حصته التَّالية ـ بعد يومين ـ ما إن دخل المعلِّم ذاته حتى تكرَّرت الأفعال ذاتها ؛ فكرر ردود الأفعال نفسها فتكررت منها ومعها مأساتي فلم أكن راضيًا عن فعل زملائي المشين وكنت غير قابل لمعاملة المعلِّم لي ولزملائي ا المهذبين الطيبين مع معرفته الجيدة بحسن سلوكنا. كما أنِّي واقع تحت تأثير الخشية من ردود أفعال من سأخبر عنهم . وتهكم الآخرين بنعتي بـ (البصاص) الذي سيلصقونه بي عمري كلَّه ــ في رضوخ لثقافة مجتمعيًّة سلبية مقيتة ــ ثمَّ أنِّي أخشاهم للفارق العمري والطبع العدواني ... لقد تولَّد عندي صراع نفسي بين الخير (الأصل) فيَّ و(الشَّر) الدخيل المفروض علي... وجه لي سؤاله المعتاد : قل لي مَن فعلها ؟ فتسمرت في مقعدي وداخلي يغلي غلي القدر القليل الماء الشديد اللهب من تحته وعن جوانبه . وجَّه سؤالاً للجميع : مَنْ منكم لا يرغب في حضور الدرس ؟ فكنت أول الرافعين لأيديهم : أنا يا أستاذ .. أنا .. أنا ؛ فطلب مني الخروج وخرج معي آخرون ــ لسوء حظي ــ من زمرة المشاغبين . أرسل إلى مدير المدرسة . أخبره بأنه لم يجدنا في الفصل وبأننا هاربون من الحصة. أخذ المدير حقائبنا وعند عودتنا طلب منا إحضار أولياء أمورنا.
كان والدي صارمًا ذا عقيدة لا تقبل النقص في كُلِّ ما يصدر عن المدرسين . أبلغته أنَّ المدير يرغب في حضوره إلى الإدارة . ما إن وصل حتى أخبره : إنَّ ابنك الذي كنَّا نعده مثاليًّا ضبط في حالة هروب من المدرسة وقد انجرَّ وراء مجموعة من المشاغبين المتمردين . قبل أن يكمل المدير قوله كان ظهر يُمْنَى أبي تصافح خدِّي الأيمن بحرارة تلاها جَلْدٌ متتالٍ من سوط ناوله له المدير ؛ فطال كَرَمُهُ كلَّ جزء في بدني. ثم سحبني معه وغادرنا. بقيت ثلاثة أيام في فراشي . في اليوم الرابع للمأساة ذهبت إلى المدرسة . حان وقت حصة اللُّغة الإنجليزية. دفع المعلم الباب ليدخل . سقطت السَّلة على رأسه . انزعج وبدأ يهدد ويتوعد . توجه نحوي ليسألني عن الفاعل. فبادرته : سأخبرك مَن فعلها . أدخل يده في حقيبته . أخرج عصاه وهيَّأها وسألني : هيا قل لي وأسرع : مَنْ فعل هذا ؟ فقلت : أنا ...!!!
|
|
|
|
|