|
|
عشرات المؤتمرات وآلاف العلماء والمتخصصين يؤكدون أنه طريق النهضة تدريس الطب باللغة العربية
محمد هلال
- لم تنته الطموحات التي حملتها التوصيات آنذاك بجناحيها في أثير الحلم العربي الكبير، بل أكدت أن تكون البحوث التي تلقي في المؤتمرات الطبية العربية التي ينظمها اتحاد الأطباء العرب باللغة العربية، وألا يقبل في أي منها بلغة أجنبية إلا إذا كان مصحوبا بترجمة كاملة إلي اللغة العربية.
ويدعو المكتب الإقليمي لشرق البحر المتوسط في منظمة الصحة العالمية إلي المسارعة في تنظيم اجتماع لعمداء كليات الطب في الوطن العربي، للاتفاق علي الخطوات العملية لاستكمال تعريب التعليم الطبي .
وضرورة اعتماد "المعجم الطبي الموحد" مرجعا وحيدا لتعريب المصطلحات الطبية والصحية.
تتكئ تلك الطموحات علي أن جميع دساتير الدول العربية تنص علي أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وأن قوانين تنظيم الجامعات في جميع الدول العربية تنص علي أن لغة التعليم هي اللغة العربية، وأن الاستثناءات التي تسمح بالتعليم بغير العربية لم يعد لها ما يبررها. بل إن استمرار تدريس الطب بلغات أجنبية يسهم في تكريس القطيعة وضعف الصلة بين أطباء الوطن العرب.
وها هو مؤتمر الرابطة العربية الأول لتعريب العلوم الطبية بالقاهرة يحمل حلما كبيرا يقول ما بين قوسين "تعريب العلوم الطبية من النظرية إلي التطبيق"، وقد عقد في القاهرة وشاركت فيه جهات عديدة هي نقابة أطباء مصر، منظمة الصحة العالمية، جامعة الدول العربية، مجمع اللغةالعربية، الجمعية المصرية لتعريب العلوم، اتحاد الأطباء العرب.
أكثر من عقدين من الزمان والأمل ينمو مثل جنين يرفض المجئ بل ويتسبب في الكثير من المتاعب لأمه، أو كسلحفاة أمامها ملايين الأميال لتصل إلي هدفها.
تشعر حيال الداعين للفكرة وجلهم أساتذة بكليات الطب وكأنك حيال خلايا من المجاهدين الرافضين للاستعمار اللغوي، ويذكرون بالفخر شهداء الحركة، فتسمع أسماء من ظلوا يقاومون حتي النفس الأخير أمثال الدكتور سيد عمار في تونس، والذي ظل يدرس طب اللغة العربية رغم الاضطهادات والصعوبات في زمن الحبيب بورقيبة. ويبرز اسم الدكتور محمد شعلان والدكتور شوقي العقباوي في تدريس الطب النفسي باللغة العربية بجامعة الأزهر.
ويباهي الدكتور محمد هيثم الخياط، بإصدار الطبعة الرابعة من المعجم الطبي الموحد، وقد اشتمل علي 150 ألف مصطلح طبي بعد أن كان في عام 1983 ، 25 ألف مصطلح، وكان في طبعته الأولي 1700 مصطلح فقط.
ويستعرض الدكتور حسين الجزائري،المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالمطبوعات التي أصدرها البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية باللغة العربية، وقد بلغت 546 مطبوعة، منها أخلاقيات الطب والصحة وأطلس التشريح الوظيفي لجسم الإنسان، وعلم الأنسجة، وعن الإيدز وشلل الأطفال، ومخطط كهربية القلب والفيروسات، وهكذا.
ويقول الدكتور الجزائري: من العجيب ألا تثار قضية التعليم باللغة الأم إلا في البلدان العربية، فجميع المنظمات الدولية والجمعيات المهنية تؤكد أن التعليم باللغة الأم هو أكثر الطرق نجاحا لنقل المعارف والخبرات، وحسبي أن أشير إلي جوائز نوبل في العلوم المختلفة التي توضح أن اللغة لم تكن يوما حائلا دون الابتكار والإبداع، ولم تعرقل من حصدوا تلك الجائزة الرفيعة عن تقدير أعمال غيرت وجه التاريخ ولم تكن بأي لغة سوي لغتهم الأم. والحقيقة تقول: إن التخلف عن ركب الحضارة لم يكن بسبب استخدام لغة بعينها، بل إن العيب يكمن في الناطقين بها، وهو عيب يقعدهم عن البحث والابتكار وإعمال الفكر.
ويتصدر قاعة الكويت بمقر منظمة الصحة العالمية بالقاهرة معرض لكتب وترجمات الدكتور محمد توفيق الرخاوي، أستاذ التشريح بكلية الطب، ورئيس لجنة التعريب بنقابة أطباء مصر. وهي كتب علمية تدريسية ومرجعية. كان الرجل فرحاً بما قدمه من ثمار التعريب في رحلة قال إنها بدأت منذ ربع قرن من الزمان (هو الآن عضو اللجنة العالمية للتسمية التشريحية)، بما يعني أنه واحد من أبرز علماء التشريح في العالم.
يقول: تجربتي مع الغرب تجعلني أشير إلي أن "الباء" المدمرة! فالحقيقة تقول: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، والواقع يقول: من تعلم بلغة قوم صار تابعا لهم.
ويقول أستاذ وعالم فنون التشريح بلغة الشاعر الحالم بتغيير أمته إلي الأفضل والرقي بها إلي مصاف الدول المتقدمة، وركز علي مصر كنموذج وقاطرة التغيير في المنطقة العربية - هكذا قدرها - شاء من شاء وأبي من أبي.
أود أن أشير بإيجاز إلي بعض النقاط التي لها في رأيي دلالاتها الخاصة:
عدم تعريب العلوم ومصادر المعرفة سوف يؤدي إلي ازدواج في الشخصية المصرية، وهو ازدواج نعاني منه الآن بالفعل.
فقد بلغ عدد مدارس التعليم باللغات الأجنبية في مصر حتي الآن 1600 مدرسة علي الأقل، هذا في الوقت الذي يظهر فيه بوضوح انهيار مستوي الكتابة والقراءة باللغة العربية، وتقول الدراسات إن الإقبال علي اقتناء الكتاب العربي قد قل بصورة مخزية، ومؤسفة ومحزنة.
يفجع المصري والعربي أيما فجيعة من تدني مستوي الكتابة باللغة العربية، بالنسبة لشباب تخرج في كليات مثل كلية الإعلام، والتي تفترض أن تكون في مقدمة مؤهلاتهم الكتابة بلغة عربية سليمة.
ظاهرة تراجع اللغة العربية بدأت تغزو مستويات المجتمع الأكثر ثراء ونفوذا وتميزا، وكلما ظل الاهتمام باللغة الأجنبية يتم علي حساب اللغة العربية، زاد خطر عجزنا علي التواصل الثقافي، والتعبير عن الأفكار، والاتجاهات والآراء، وبالتالي تقل فرصة المشاركة في التنمية، مادمنا لا نستطيع مناقشة أمورنا بلغتنا.
الأمر بالغ الأهمية، والهم ثقيل، لكن يبدو أن إحساسنا بالدونية تجاه الحضارة الغربية، وانبهارنا بها أمر قديم ثابت الأقدام، فقد ثبت أن للقبعة تاريخا في حياتنا، كما يذكر أستاذنا نجيب محفوظ، حيث يقول: حين كنا في مرحلة التعليم الثانوي، وفي الجامعة ظهرت دعوة لارتداء القبعة كنوع من الفرنجة والاندماج في الحضارة الغربية، علي أساس أن الطربوش هو رمز التأخر، وأن القبعة هي رمز التقدم، وقد ظهرت في هذا الوقت منولوجات تتغني بذلك فتقول: ما بدها ظيطة، ما بدها عيطة، خلاص لبسنا البرنيطة.
والحق يقال: بدأت قصتي مع التعريب وأنا معارض.. معارض.. معارض.. ثم تغيرت من النقيض إلي النقيض، وأصبحت محاربا في جبهة التعريب، الأمر الذي آليت علي نفس أن أحارب في سبيله حتي يظهره الله، أو أهلك دونه، وقد اتخذت في هذا الشأن المنهج العلمي الموضوعي، وبدأت بسؤال نفسي: من هم حقيقة معارضو التعريب؟ بينما موقف الغرب منا هو أن نبقي تابعين لا نابغين، أو مبدعين، وأن نبقي نعيش علي النقل لا علي العقل، كما أن الغرب لو علم أن في التعريب ضررنا، لفرضه علينا فرضا.
ولقد اتضح لي أن معارضي التعريب ينقسمون إلي عدة فئات:
- التقليديون المعاندون - المنبهرون - المتخوفون- الموضوعيون - المنتفعون من عدم التعريب
1- المعارضون التقليديون المعاندون: لا تكثر النقاش معهم.
"قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا".. (البقرة170).. "إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون" (الزخرف23) "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلي أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا علي رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" (الأنبياء 62-64)
2- المعارضون المنبهرون: هؤلاء لا أمل فيهم، ولكن لا خوف منهم، إذ أنهم يتحركون من موقف المتخاذل، التابع المنبهر بالغرب، وحضارته الممادية الحالية، هؤلاء الأنجلوفونيون والفرانكفونيون لا يخشي بأسهم، ونحن التعربيين في رأيهم نسبح ضد التيار التغريبي الجارف، الذي كان ينسف الأخضر واليابس، فمن شركة "أرانبكو"، شركة لتربية الأرانب، إلي شركة "إسلامكو" للسياحة الدينية، مرورا بشركة "تنظيفكو" للتنظيف، يا قلبي لا تحزن.
خلاصة القضية توجز في عبارة، لقد لبسوا قشرة الحضارة والروح جاهلية.
3- المعارضون المتخوفون، هؤلاء ستجدهم متخوفين من كل جديد، فالناس أعداء ما جهلوا، وهؤلاء ليس لهم من علاج إلا أن يطمئنوا بطريقة أو بأخري، أن التعريب له أسبابه ودواعيه، وأنهم لاشك سيكسبون كثيرا لو فارقتهم "رهبة التعريب"، وانطلقوا من أسر "الاستكانة للتغريب".
4- المعارضون الموضوعيون: هؤلاء تجب مناقشتهم بالمنطق وبالهدوء وبالود، ومع النفس الطويل تكون نتيجة المناقشات أن أغلبهم سيستجيبون.
5- المعارضون المنتفعون المستفيدون المناهضون الحقيقيون المؤثرون علي مسيرة التعريب وهم في الواقع الذين يلزم أن نخشي بأسهم، ونعمل لهم ألف حساب، وحساب ونفرد لهم حديثا خاصا، فهم ذوو ثقل لابد أن نعترف به ونتعامل معه، بموضوعية وصدق رؤية وروية وعمل بأسلوب ثقافة الحد الأقصي، وليس ثقافة الحد الأدني حتي نصل إلي ما نصبو إليه من التخلص من المشاكل التي تواجه محاولات التعريب وبهم ومعهم يمكن أن نصل إلي القرار السياسي في وقت قياسي.
وخلاصة القول: دراسة لغة أجنبية شئ والدراسة بلغة أجنبية شئ آخر، ومدمر تماما، يشهد بذلك حال الخريجين من الأطباء، فالتعليم كما يقول علماء اللسانيات education غير التعلم learning.
بين الماضي والمستقبل
ويكشف الدكتور محمد هيثم الخياط، كبير مستشاري المدير الإقليمي لشرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية بعداً آخر قائلاً :ثمة قضية أخري هي موضوع التخصص العالي، فالتعليم بالعربية يستلزم كما يقولون أن يقضي خريج كلية الطب سنة أو أكثر لإتقان اللغة الأجنبية قبل دراسة الاختصاص، وفي هذا وقت وجهدضائعان، لكن خريجي الجامعات التي تدرس فيها العلوم الطبية بلغة أجنبية يحتاجون إلي مثل ذلك، فدراستهم بلغة أجنبية لا تعني أنهم أتقنوا اللغة، وما يقبل منهم في بلادنا من لغة أجنبية لا يقبل في البلد الأصلي لهذه اللغة الأجنبية، وأوراق الامتحان التي اطلعت عليها في بعض جامعاتنا التي تدرس بلغة أجنبية وينجح كاتبوها، ولو أنها كتبت في البلد الأصلي لهذه اللغة الأجنبية، لكان إعطاؤها الصفر صدقة من الصدقات، ومع ذلك فإنه ليس منطقيا ولا جائزا، أن نهمل لغتنا من أجل حاجة فئة محدودة لا تكاد تزيد علي خمسة بالمائة من الخريجين ممن يرغبون في الاختصاص، وفي فروع قد تتبدل فيها مراكز الثقل بين عام وآخر تبعا لعديد من الظروف، فلا تتفق مع اللغة الأجنبية التي درسوا بها.
أما العراقيل التي تسرد علي أنها تحول دون تعريب التعليم الجامعي، فما هي في الواقع إلا نتائج للتعليم باللغة الأجنبية، فلمن تؤلف الكتب وتصدر المجلات وتصاغ المصطلحات باللغة العربية، إذا لم يكن ثمة تعليم بالعربية؟ في حين أن التعليم لو كان بالعربية فسيتسابق المؤلفون إلي التأليف واللغويون إلي وضع المصطلحات وسوف تتسابق دور النشر إلي إصدار المجلات العربية.
ومع ذلك، فقد قام البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية بإعداد الطبعة الرابعة من المعجم الطبي الموجد، وهي تشتمل علي قرابة مائة وخمسين ألف مصطلح بالإضافة إلي توافر نسخة إلكترونية علي قرص مكتنز cd-rom كما أصدر البرنامج العربي في منظمة الصحة العالمية، وكذا مركز تعريب العلوم الصحية بالكويت، عديدا من الكتب الرجعية والجامعية والتثقيفية، فماذا بعد؟
أما ما يزعم من عجز الأستاذ الجامعي العربي عن التعليم بالعربية فما هو إلا وهم كبير أو إرهاب، مرده إلي هذا الجو النفسي المريض الذي أقيم حول موضوع التعريب، وإلا فهل يصدق عاقل، أن المرء يعجز عن أن يستعمل لغته الخاصة في التعبير عن أفكاره بأي مناسبة وفي أي موضوع؟
هزيمة نفسية
للدكتور زهير أحمد السباعي، أستاذ طب الأسرة والمجتمع بجامعة الملك فيصل بالمملكة العربية السعودية، صولات وجولات في الدعوة لتعريب العلوم كافة، والطب والوعي الصحي خاصة، فقد ألف عدة كتب باللغة العربية تؤكد أن التعريب مطلب تقدمي لبلادنا المتخلفة إذا أردنا اللحاق بالأمم المتقدمة والتي كانت تأخذ عن أجدادنا قديما حتي وصلوا إلي ما وصلوا إليه وتخلفنا.
يقول:أثار كتابي تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية، وكتابي "نحو صحة أفضل وردود فعل أكثرها إيجابية ومشجعة، ويسعدني أن أستخلص ما جاء في الكتاب الأخير حول أهمية تعليم العلوم الطبية باللغة العربية.
تعليم الطب باللغة العربية دعوة يحمل لواءها اليوم مئات من أساتذة الطب وقادة الفكر والرأي وهي دعوة تنبعث من منطلق عقل وواقع عملي، فإن طالب الطب في أكثر البلاد العربية أداته في تعلم الطب لغة إنجليزية لا يجيدها ولا تساعده علي إجادة القراءة والكتابة أو الحوار، ومن ثم فهو يلجأ إلي الملخصات والذكرات والحفظ ويتحاشي الكتب الطبية والمراجع، في حين أن دولا صغيرة في أوروبا مثل فنلندا والسويد والدانمارك وهولندا، وإسرائيل المغتصبة، تدرس جميعها الطب بلغاتها.
وإذا ما شئنا لأنفسنا أن نبدع في العلوم الطبية، فعلينا أن نتعلمها بلغة نملك ناصيتها، ألا وهي لغة الأم، وإذا ما أردنا أن يسهم الطب في الارتقاء بصحة الفرد والمجتمع، ولا يقتصر دوره علي علاج الأمراض بعد حدوثها، وأن نهيئ المواطن ليكون له دور إيجابي أكبر في وقاية نفسه ومجتمعه من المرض، فعلينا أن نصل الطب وعلومه بمشاكل البيئة والمجتمع، ولن يكون ذلك إلا بتعليم الطب باللغة العربية.
وجميع بلدان أوروبا الغربية تدرس الطب بلغاتها والطب فيها متقدم لا مراء. وكثير منها مثل الدول الاسكندينافية عدد سكانها محدود إذا قيس بالبلاد العربية، طالب الطب هناك مطالب بأن يتقن لغة أجنبية سائدة مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
الفائدة المرجوة هي أن طالب الطب إذا تعلم الطب بلغته الأم أتقن ما تعلمه أكثر مما لو درس الطب بلغة أجنبية لا يحسنها، وفي نفس الوقت عليه أن يتقن لغة أجنبية وأن يجتهد في تحصيلها كعلم أساس وليس مجرد وسيلة يتعلم بها علما آخر.
آن الأوان لأن ننتقل من مرحلة السؤال لماذا نعرب؟ إلي مرحلة السؤال كيف نعرب؟
كلنا نعرف عن يقين أنه قرار سياسي في الدرجة الأولي. بعض المسئولين عن قضية التعريب من وزراء ومدراء جامعات وأساتذة كرام يخشون من تدني مستوي التعليم الطبي إذا كان التدريس باللغة العربية، ويفوتهم أن الطالب الذي لا يجيد اللغة التي يتعلم بها لا يستطيع أن يقرأ أو يستوعب ما يدرس بسهولة، وجل طلاب الطب وأساتذتهم في بلادنا العربية لا يتقنون اللغة الأجنبية التي يعلمون أو يتعلمون بها.
ويحتجون بأن أمة مثل اليابان تدرس الطب باللغة اليابانية لأن الترجمة لديهم من اللغات الأجنبية الحية نشطة، تري هل نعجز نحن في مجال الترجمة عما نجحت فيه اليابان، ونحن أمة أكثر عددا وأكاد أجزم بأن لغتنا لغة القرآن أثري وأجمل؟
إن متابعة الطبيب للجديد في علوم الطب له وسيلتان، أولاهما أن لا يمنح طالب الطب شهادته النهائية إلا إذا اجتاز امتحانا عاليا في اللغة الإنجليزية مثل Tofel عندئذ سوف يحرص الطالب علي دراسة اللغة الإنجليزية دراسة جيدة، وهذا ما يفعله طالب الطب في الدول التي ذكرناها، ولا يغيب عن أذهاننا أن %3 فقط من الكلمات في الكتب والمراجع الطبية هي كلمات طبية.
الوسيلة الثانية هي أن نجعل ترقية أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب رهنا بمقدار ما يؤلفون باللغة العربية، وما يترجمون إليها، ولسوف يثري ذلك جامعاتنا بمئات المقالات والكتب الطبية في العام الواحد.
لدينا في عالمنا العربي نحو من 300 كلية طب وعلوم صحية، يتقدم في كل منها في العام الواحد ما لا يقل عن 50 عضو هيئة تدريس للترقية العلمية، لو أن كل واحد منهم طولب بأن يتقدم للترقية، ضمن المتطلبات الأخري للترقية، بكتاب واحد ومقالين علميين، مؤلفين باللغة العربية أو مترجمين إليها، لكانت الحصيلة 15000 كتاب و30000 مقالة علمية باللغة العربية في السنة الواحدة، أي 75000كتاب و150000 مقالة علمية باللغة العربية في 5 سنوات، وهو حمل ليس بالثقيل علي المتقدم للترقية إذا تذكرنا أنه يتقدم إليها مرة في كل نحو أربع سنوات.
سمعنا وقرأنا أخيرا أن ما يترجم في اليونان إلي اللغة اليونانية في العام الواحد أكثر مما يترجم إلي اللغة العربية في نفس الفترة، هل هذا صحيح؟ إذا كان حقا فلنتعظ ولنتدبر.
وسمعنا أن ما يؤلف باللغة الإسبانية في العام الواحد أكثر مما ألف باللغة العربية منذ فجر التاريخ حتي اليوم، هل هذا صحيح؟ لا أعرف، لكن إن كان حقا فهي كارثة وعلينا أن نتعظ ونتدتبر.
لو أخذ هذا القرار السياسي في عام 2010ميلادي، وقرر علي جميع كليات الطب والعلوم الصحية في العالم العربي في عام 2011، وبدأ في تنفيذه في عام 2012وروعي أن تبدأ الدراسة باللغة العربية في السنة الأولي من كليات الطب والعلوم الصحية في عام 2013، وإذا افترضنا أن %10 من هذه الكتب والمقالات باللغة العربية خاصة بالسنة الأولي في هذه الكليات، سوف يكون لدينا يوم ذاك ما لا يقل عن 1500كتاب وضعف هذا العدد من المقالات، افترض هنا أن نظمنا التعليمية تشجع الطلاب فعلا علي دراسة المراجع والمقالات العلمية ولا تكتفي بالملخصات والمحاضرات التي تلقي إلقاء، فإذا ما أضفنا إلي هذا الكم من الكتب والمقالات ما هو موجود حاليا في المكتبة الطبية العربية لاتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أن لا حجة لمن يحتج بفقر المكتبة العربية.
هناك إضافة لابد منها، لابد للعاملين في الحقل الصحي من إجادة لغة أجنبية حية أو أكثر ليتمكنوا من التواصل العلمي والاستفادة من البحر الزاخر بالمعلومات، وأعني به الشبكة العنكبوتية وما يتفرع منها من شبكات، ومن هنا فإني أرجو ألا يصدر قرار التعريب إلا ويصاحبه قرار آخر بألا يقبل للالتحاق بكليات الطب والعلوم الصحية أو يتعدي منتصف المرحلة الدراسية فيها إلا من يجتاز امتحانا مثل التويفيل في اللغة الإنجليزية بما يعادل 500درجة، تري هل نحتاج إلي قرار مماثل بألا يقبل في الجامعات العربية من أبنائها وبناتها إلا من يجيد منهم ومنهن اللغة العربية، لغة الأم والقرآن، حقا لست أدري؟
هذان قراران سياسيان لو أخذ بهما لتقدمت علومنا ومعارفنا، ولانعكس ذلك إيجابا علي أمتنا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، علينا أن نقنع ساستنا بلغة الأرقام.
التعريب في الأردن
وللمملكة الأردنية تجربة ناجحة في تعريب العلوم قطعت فيها أشواطا لا بأس بها ينوه عنها الدكتور أحمد الجابري، أستاذ أمراض النساء والولادة ورئيس جمعية تعريب العلوم الطبية ورئيس تحرير مجلة المقطتفات الطبية والثقافية التي يتصدر غلافها كلمة "بلسان عربي مبين".
يقول: بدأت الفكرة في الأردن منذ 20عاما، أما علي المستوي الفعلي الملموس فقد بدأنا منذ أربعة أعوام، وبالفعل أقمنا مؤتمرا في العام الماضي لغته الوحيدة هي اللغة العربية، وكان مؤتمرا ناجحا، وقد خصصنا فيه جائزتين إحداهما كتاب مترجم عن الجراحة العامة، فازت به طبيبة روسية حاضرت باللغة العربية.
أيضا حققنا ناجحا جيدا بعد أن أقنعنا إخواننا في وزارة التربية، والتعليم بالتعاون معنا في نشر الفكرة وتدريس كتب علمية للمدارس الثانوية باللغة العربية.
وقد حضر في المؤتمر حوالي 400 طبيب من مختلف التخصصات وأكثرهم من خريجي جامعات بريطانيا وأمريكا.
أيضا نقدم المحاضرات الطبية في نقابة الأطباء باللغة العربية، كما ندعو الطلاب من كليات الطب والهندسة والعلوم لحضور المؤتمرات، وها نحن الآن نعد للموتمر الثاني والذي تقدمه جمعية تعريب العلوم الطبية.
العربية والأمراض النفسية
الدكتور لطفي الشربيني أستاذ الأمراض النفسية، وعضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي يري أن تعريب علوم الطب النفسي ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها للعدة أسباب منها لغة الحوار والدخول إلي العالم السري للنفس البشري ما بين الطبيب والمريض.
ويقول: اللغة وجدان وحضارة وتاريخ وليس فقط وسيلة للتفاهم.
والذي يجب أن ننوه له أن تعريب الطب قضية قديمة جدا، فقد كان قدماء المصريين يدرسون الطب بلغتهم يشهد بذلك ما خلفوه من آثار تدل عليهم.
أما العرب فقد كانوا أسياد الطب في الوقت الذي كان الأوروبيون يتباكون لنقل الطب إلي لغاتهم.
ويقول: نعم هناك من لا يؤمن بهذه القضية، وحجته في ذلك أن اللغة العربية لا تستطيع استيعاب العلم الحديث وأقول: لا إنها لغة ثرية جدا، وهذا مفهوم خاطئ، بل إن هناك أزمة في تدريب الطب حاليا ، فالطلاب يستمعون لمحاضراتهم بلغة خليط من العربي واللاتيني والإنجليزي وما يفعله الطالب هو أن يترجم لنفسه بمستوي لغته هو وبهذا يضيع جزءاً كبيراً من المعاني.
ويضع د. لطفي يده علي موطن الداء قائلا: ليس هناك أزمة في اللغة العربية، وأنا أري في تدريسها وتباين اللهجات أزمة في اللغة لأنها أهملت فترة طويلة، أيضا جاءت لغة الصحافة لتضيف إلي هذه الأزمة بمصطلحات وأساليب ولهجات لها تأثيرها السلبي علي اللغة العربية.
وما أقصده أن المشكلة ليست في اللغة، لكن فينا نحن، فقد شهدت الحضارة الإنسانية فترة ازدهار لتلك اللغة، وكانت هي الثقافة السائدة في حوض المتوسط.
وإذا كان 60 % من المراجع باللغة الإنجليزية فذلك يدعو إلي إجادة تعلمها، فليست الدعوة للتعريب إهمال اللغات الأخري.
أما المصطلحات غير القابلة للتعريب فليس هناك مانع بالتحدث بها مثل كلمة راديو وتليفزيون ورادار وكمبيوتر بدلا من اللف والدوران حولها، كأن نقول المذياع والتلفاز والحاسوب.
ويقول د. لطفي: ولنا في دولة الكويت مثل جيد في ذلك ، فمركز تعريب العلوم الصحية هناك أخرج معجما في كل تخصص لحل إشكالية المصطلحات.
قضية ومسئولية
ومن جانبه يقول دكتور مهندس محمد يونس الحملاوي، أستاذ هندسة الحاسبات كلية الهندسة جامعة الأزهر، ونائب رئيس الجمعية المصرية لتعريب العلوم.
إن العودة إلي اللغة العربية عودة إلي التراث العظيم الذي خلفه الأجداد، ومن الواجب علينا أن نضيف إليه ما يجعلنا أمة متقدمة، وإذا كان مؤتمر اليوم يضع نصب عينيه تعريب الطب أولا، فإن باقي العلوم مثل الهندسة وغيرها جديرة بهذا الشرف، وأن يكون تدريسها بلغتها الأم حتي لا نصبح عالة علي الأمم ورهينة الهيمنة علينا، وأن ما يسمحون به فقط هو نصيبنا من ملاحقة التطور، وتعريب الطب الآن هو قضيتنا الأولي، فهو شأن كل البشر، ومن حق شعوبنا النهوض بها في هذا المجال، وبالتالي هي مسئوليتنا جميعا، والأمل الكبير للأجيال المقبلة حتي نتحرر من عبودية التبعية العلمية والفكرية، فجميع البلدان الصغيرة والكبيرة تدرس الطب بلغتها الأم، إلا البلاد العربية، وتلك كارثة.
قرار سيادي
أجمع الأساتذة في جميع التخصصات والبلدان العربية أن التعريب لابد وأن نمكن له بقرار سياسي سيادي، فالمؤتمرات والتوصيات مهما كثرت فلابد من قرار سيادي يدعمها وينقلها من طور المبادرات إلي التنفيذ الجمعي. فالدكتور لطفي الشربيني في مصر والدكتور زهير السباعي في السعودية، والدكتور هيثم الخياط في سوريا، ومعه الدكتور حسني سبح، والدكتور الجزائري، ود. قاسم سارة بمنظمة الصحة العالمية، والدكتور محمد الرخاوي، وغيرهم الآلاف من المهتمين بشأن التعريب يرون أن القرار السياسي هو حجر الزاوية في هذا الشأن. وأكدوا أن دول أوروبا وغيرها مثل اليابان كان السياسي فيها هو نقطة التحول والانطلاق نحو تعليم الطب وعلوم الصحة بلغاتهم الأم، أما التوصيات وحدها دون تفعيل ستجعلنا ندور في فلك الاستعمار اللغوي، وبالتالي السقوط في بئر التخلف أكثر فأكثر.
الأهرام
|
|
|
|
|