|
|

البكماء
د. علي محمد عوين
كانت (م) هي البنت الثانية التي أنجبتها حواء- لقد أنجبت حواء سبع بنات ماتت منهن أربعة بمرض الحصبة – و كانت جميلة جمالا ساحرا،و ذات يوم اصطحبها أبوها محمود معه إلى السوق و هو فرح بها إلى حد الفخر،و كانت يومها في الرابعة من عمرها، فلاقاه أحد أصحابه - و تحكي حواء أنه كان (معيانا) –الذي انبهر بجمال البنية فصاح " واو من أين جاءتك هذه الوردة يا محمود؟ ".عاد محمود و ابنته إلى البيت و لم يأتي صباح الغد حتى كانت (م) قد شلت (أو تزحفت) فلم تستطيع المشي أو الحراك،و انتابتها نوبة من الألم الشديد؛هكذا كانت حواء تروي قصة ما حدث مع (م).
كان محمود دائم الانشغال في أعماله و إذا عاد للبيت يكون على درجة من الإعياء بحيث لا يستطيع الإيفاء بالتزاماته نحو أبنائه،و في كثير من الأحيان لا يتفقدهم و هو غير ملام في ذلك،فالحياة الشاقة لا تمنحه الكثير من الوقت لفعل ذلك.و بناء على ذلك أخذت حواء على عاتقها القيام بما لا يقوم به محمود فاتجهت إلى إخوتها الذين أخذوا (م) إلى زمرة من المغاربة المدعين علم الطب و التطبيب و كانوا هؤلاء من سكان الرديف فقاموا بكيها على ركبتيها فانطلقت رجلاها و بدأت بالمشي ؛ غير أنها أصيبت بعقدة في لسانها فأصبحت تتلعثم في كلامها و لا تكاد تبين.أخذت مرة أخرى إلى المغاربة و هذه المرة أتلفوا سمعها إلى جانب لسانها.
و نظرا إلى أن هذه الحادثة كانت في نهاية الأربعينيات – حيث كان الطب الحديث شبه منعدم في المنطقة- فإن حواء و محمود سلموا بقدرهم و بقيت (م) بكماء صماء حتى يومنا هذا.و لكن سبحان الله العظيم فمقابل كل شيء يفقد من الحواس يكتسب المرء قوة في حواس أخرى؛فإلى جانب جمالها الخلاب أعطاها الله قوة الملاحظة و سعة في الذاكرة و حدة في الذكاء.فتعلمت الكثير و الكثير من أمور الحياة بمجرد الملاحظة و من أول نظرة.كان أهم ما تعلمته فن الخياطة و كانت في الستينات من القرن الماضي هي من يلبس من خياطتها الكثير من أهل القرية بمصراتة و القرى المجاورة.كانت بمجرد أن ترى الثوب لمرة واحدة تقوم بتفصيله (تصميمه) و حياكته و يأتي كما يرغب الزبون.
كما ذكرنا في الحكاية الثانية كان نصيب (م) أن يأتيها خاطب من طرابلس فتوافق ، بعد أن رفضت الكثير من الخطاب آنفا لأسباب متفاوتة،و تنجب مجموعة من البنات و ولدين و هم جميعا من ذوي المؤهلات الجامعية في الهندسة و الحاسوب.كما تزوج كل أولادها و بناتها و تقدمت بها السن و أصبحت جدة و وصل أحفادها و حفيداتها الجامعة؛و من بناتها من يقمن حاليا ببريطانيا و هي بذلك تشد الرحال من حين إلى آخر لزيارتهن.
تعلمت(م) الكتابة من إخوتها و بذلك تعلمت توقيع اسمها و عندما توفي زوجها فتحت حسابا جاريا تستقبل فيه معاش زوجها الضماني و أصبحت غير محتاجة لمن يدير شؤونها منذئذ.من الأمور التي تذكر هنا أنه رغم إعاقتها فهي تفهم الأصول و العادات و تبادل جيرانها و أقاربها و أصهارها مشاعرهم و ودهم و زياراتهم و تشاركهم أفراحهم و أتراحهم.كما أنها منتظمة في أداء العبادات و على أحسن وجه يتماشى مع إعاقتها.و هي تهرع للمشاركة في صلاة الجماعة إذا ما أقيمت في بيتها أو في بيت أحد أقاربها و لقد أكرمها الله بحج بيت الله صحبة أخيها مع بدايات القرن الحالي.لقد كانت عفيفة نظيفة تنتقي ملابسها بعناية و تحب النظام،كما تحافظ على حاجياتها فيظل الماعون من برمة أو كأس أو طست معها سليما لعشرات السنين.
كانت في صغرها تغير على إخوتها و هم جميعا أصغر منها،كما كانت تدافع عنهم إذا ما تعرض أحدهم لظلم أو عدوان فكان السوط دائما بيدها و كلما تعرض أحد منهم للضرب من قبل أولاد كبار و هو أمر يحدث عادة بين الأطفال فإنها تأخذ بالسوط وتصطحب أخاها للتعرف على المعتدي فتجري وراءه لتشبعه ضربا, و كان الأولاد عندما يرونها آتية من بعيد يهربون صائحين " اهرب جاءتك البكوشة ".
في صغرها كانت (م) و إخوتها يعاونون في المزرعة و بالذات في موسم التين الشوكي و ذلك بجني ثماره أو بتقطيع الظلف (الورقة اليابسة) و كانت هي و إخوتها عرضة باستمرار لشوك التين الشوكي الذي يقع في العيون و يتطلب الأمر الذهاب إلى عجوز ماهرة بالقرية لاقتلاع الشوك.
مما لا شك فيه أن ما حدث مع (م) هو أمر إلهي يترجم قدرة الخالق في خلقه و يدل دلالة واضحة على أن (( لله في خلقه شؤون)).هذه البكماء استطاعت فعل ما يفعله قليل من النساء خصوصا إذا ذكرنا بأن زوجها مات و كان أكبر أبنائها لم يصل الخامسة عشر من عمره بعد كما أن بقية الأطفال كانوا دون ذلك بكثير و أن أصغر البنات كانت في طور الرضاعة.
لا بد أن أنوه بأنه قد كان لأخوتها دور كبير في مساندتها و مساندة أولاد أختهم حتى كبروا و استطاعوا الاعتناء بأنفسهم.و كان أول ما قام به هؤلاء كرد للجميل هو التنكر لأخوالهم بل و أذيتهم،و صدق المثل الليبي القائل " يا مربي ولد الناس يا داق الميه في المهراس (الهاون) "
|
|
|
|
|