|
|
الكوثر بين اللغة والقرآن الكريم
د. بن يحيى طاهر ناعوس
القرآن الكريم كتاب ربِّ العالمين، أنزله على سيد البشر- صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو كتاب مليءٌ بالمعجزات والبيانات، بل كلُّه معجزات، التي لا تحتاج إلى دليل ولا برهان، فكيف يحتاج البرهان إلى برهان؟! أو هل يحتاج النهار إلى دليل؟! ولله المثل الأعلى.
بين يدي السورة:
وعلى هذا سنقف في هذه السورة الكريمة، التي هي مواساة للنبي الأكرم - صلَّى الله عليه وسلَّم- قال تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.
وقد روى الإمام أحمد في "مسنده"[1]، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن المختار بن فُلْفُل، عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إغفاءة، فرفع رأسه متبسمًا، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة))، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، قال: ((هل تدرون ما الكوثر؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هو نهر أعطانيه ربي - عز وجل - في الجنة، عليه خيرٌ كثيرٌ، ترِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُخْتَلَج العبد منهم، فأقول: يا ربّ، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
الكوثر بين اللغة والقرآن الكريم:
نبحر مع هذه الكلمة في قواميس اللغة العربية لنعرف المدلولات اللغوية لهذه الكلمة؛ لندرك في النهاية أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، فـ(الكَثْرَةُ) في اللغة نقيض (القلَّة)، وقد كَثُرَ الشيءُ فهو كَثيرٌ، وقومٌ كَثيرٌ، وهم كَثيرونَ، وأكْثَرَ الرجلُ؛ أي: كَثُرَ مالهُ، ويقال: كاثَرْناهُمْ فَكَثَرْناهُمْ؛ أي: غلبناهم بالكَثْرَةِ، واسْتَكْثَرْتُ من الشيء؛ أي: أكْثَرتُ منه، والكُثْرُ - بالضمِّ - من المال: الكَثيرُ، ويقال: ماله قُلٌّ ولا كُثْرٌ، وأنشد أبو عمرو لرجل من ربيعة:
فَإِنَّ الْكُثْرَ أَعْيَانِي قَدِيمًا وَلَمْ أُقْتِرْ لَدُنْ أَنِّي غُلامُ
يقال: الحمدُ لله على القُلِّ والكُثْرِ، والقِلِّ والكِثْرِ.
والتكاثُرُ: المُكاثَرةُ، وعددٌ كاثِرٌ؛ أي: كَثيرٌ، قال الأعشى:
وَلَسْتَ بِالأَكْثَرِ مَنْهُمْ حَصًى وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
وفلان يَتَكَثَّرُ بمال غيره، ابن السكيت: فلان مَكْثورٌ عليه، إذا نَفِد ما عنده وكَثُرَتْ عليه الحقوق، والكَوثر من الرجال: السيد الكَثيرُ الخير، قال الكميت:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ وَكَانَ أَبُوكَ ابنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرا
وقد جاء في "القاموس المحيط" للفيروزآبادي أن (الكَوْثَر) تعني: الكثيرَ من كلِّ شيء، والكثيرَ المُلْتَفَّ من الغُبارِ، والإِسلام، والنُّبُوَّة، والأتباع، وجاء في "مقاييس اللغة" أن (الكاف والثاء والراء) أصلٌ صحيح يدلُّ على خِلاف القِلّة، من ذلك الشَّيء الكثير، وقد كَثُر، ثم يُزَاد فيه للزِّيادة في النّعت فيقال: الكوثر: الرّجلُ المِعطاء، وقد تَكَوْثَر الغُبار إِذا كثر؛ قال حسان بن نُشبة:
أَبَوْا أَنْ يُبِِيحُوا جَارَهُمْ لِعَدُوِّهِمْ وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ الْمَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرا
وقد تَكَوْثَرَ، ورجل كَوْثَرٌ: كثير العطاء والخير، والكَوْثَرُ، السيد الكثير الخير؛ قال الكميت:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ وَكَانَ أَبُوكَ ابنُ الْعَقَائِلِ كَوْثَرا
وقال لبيد:
......................... وعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرِ
والكَوْثَرُ: النهر؛ عن كراع.
والكوثر: نهر في الجنة يتشعَّب منه جميع أَنهارها، وهو للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاصة.
وفي حديث مجاهد: ((أُعطِيتُ الكَوْثَر، وهو نهر في الجنة))، وهو فَوْعَل من الكثرة و(الواو) زائدة، ومعناه الخير الكثير، وجاء في التفسير: أَن الكوثر القرآن والنبوَّة، وفي التنزيل العزيز: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}؛ قيل: الكوثر ههنا الخير الكثير الذي يعطيه الله أُمته يومَ القيامة، وكلُّه راجع إِلى معنى الكثرة.
وفي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أَن الكوثر نهر في الجنة أَشدُّ بياضًا من اللبن وأَحلى من العسل، في حافتَيه قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، وجاء أَيضًا في التفسير: أَن الكوثر الإِسلام والنبوَّة، وجميع ما جاء في تفسير الكوثر قد أُعطيه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُعطي النبوَّة، وإِظهار الدين الذي بعث به على كلِّ دين، والنصر على أَعدائه، والشفاعة لأُمته، وما لا يحصى من الخير، وقد أُعطي من الجنة على قدر فضله على أَهل الجنة، صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال أَبو عبيدة: قال عبد الكريم أَبو أُمية: قَدِمَ فلانٌ بكَوْثَرٍ كَثير، وهو فوعل من الكثرة، وقال أَبو تراب: الكَيْثَرُ بمعنى الكَثِير؛ وأَنشد:
هَلِ الْعِزُّ إِلا اللُّهَى وَالثَّرَا ءُ وَالْعَدَدُ الْكَيْثَرُ الأَعْظَمُ
فالكَيْثَرُ والكَوْثَرُ واحد.
القانون القرآني في حفظ النعم:
فهذه السورة تضع أمامنا منهجًا واضحَ المسالك، بيِّن المعالم في حفظ النعم والتقرُّب بها إلى الله - تعالى - لأن هذا اللفظ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة، والخلف في كلام الله - تعالى - محال، فوجب في حكمة الله - تعالى - إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه، ولا يقهرونه، ولا يصل إليه مكرهم، بل يصير أمره كلَّ يوم في الازدياد والقوة، أنه - عليه السلام - لما كفروا، وزيف أديانهم، ودعاهم إلى الإيمان، اجتمعوا عنده، وقالوا: إن كنت تفعل هذا طلبًا للمال، فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس، وإن كان مطلوبك الزوجة، نزوجك أكرم نسائنا، وإن كان مطلوبك الرياسة، فنحن نجعلك رئيسًا على أنفسنا، فقال الله تعالى: {إِنَّا أعطيناك الكوثر}؛ أي: لما أعطاك خالق السموات والأرض خيرات الدنيا والآخرة، فلا تغترَّ لما لهم ومراعاتهم.
إعطاء الكوثر الذي هو الحوض أو نهر في الجنة - كما جاء في الأحاديث الكثيرة - نعمة من الله - تعالى - توجب الشكر، وأفضل شكر هو أداء الفرائض؛ كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إن الله - تعالى - قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه))؛ رواه البخاري.
ومن هنا نفهم قوله - تعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، الذي جاء عقب التذكير بالنعمة، فإذا كان العبد شاكرًا لربِّه، مقرًّا بنعم الله عليه، عن طريق الفعل والقول معًا، فإن النتيجة الحتمية حماية الله للعبد؛ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، وهذا المعنى يؤيِّد قول الباري - سبحانه -: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، هذا والله - تعالى - أعلم.
ـــــــــــــــ
[1] مسند أحمد، (3/102).
|
|
|
|
|