|
|
المعلّم عرّاب اللغة العربية الأخير
د. سناء الشعلان
اللغة العربية في محنة حقيقية تقرع طبول الخطر،وتوقد نيران التحذير،وما نتشدّق به آملين من آمال عملاقة تتجسّد في أنّ العربية لغة لا تموت ما هي إلاّ أقاويل الأولين،وأحلام الآخرين،وسذاجة المحدثين،اللغة العربية في خطر حضاري عملاق،لعلّه يكون مأزقها الأكبر،وامتحانها الأصعب،وسؤالها الكبير،وغني عن الذّكر القول إنّ هذه الأزمة لا تنبع من خصوصية اللغة العربية،أو من ذاتها،أو من خصائصها،فالغة العربية تتوافر على خصائص توليدية واشتقاقية وتركيبية قادرة على أن تتعهدها بالنّماء الأبدي،والتكاثر الطبيعي الحضاري،والتوالد الحرّ الإيجابي ،وهي خصائص يندر أن تتوفّر في غيرها من اللغات من جهة،وتفسّر من جهة أخرى سرّ عبقريتها ونمائها وطول عمرها،ومراهنتنا على قدرتها على الحياة الأبدية إذا ما توفّرت لها الأسباب لذلك،وفضلاً عن أنّها تصوّغ كيف أنّها استطاعتْ أن تكون الناقل الحضاري الوحيد التاريخي والاستراتيجي في أهم حلقات التواصل الإنساني،إبّان نقل العرب والمسلمون حضارة الأمم السابقة إلى العالم بأجمعه عبر مجهوده العملاق في في ترجمة علوم الإنسانية من شتى اللغات إلى العربية لتكون لغةَ الحضارة الجديدة ليس في نقلها وحسب،بل وفي إنتاجها في شتى حقول المعرفة الإنسانية بامتياز وإبداع.
إذن نحن أمام سؤال عملاق عارٍ،نلمح ملامحه الشوهاء بكلّ وضوح،إن لم نغضّ الطّرف عنها عامدين قاصدين،نحن في مواجهة سؤال:لماذا تختنق العربية في هذا الوقت دون غيره؟ ولماذا تتراجع إلى الصّفوف الخلفية في مدارج الحضارة الإنسانيّة،في حين تعلوها لغات أخرى لتحمل صفات العالمية والتواصلية والحوارية والمعلوماتية؟في حين تتراجع اعتبارية اللغة العربية لتصبح لغة أدبية كلاسيكية موروثة ،لاتصلح إلاّ لشعر الحبّ،ولقصص أيام العرب البائدة،بعيداً عن الجديد والمبتكر والحضارة،وفي حين تصبح غيرها من اللغات هي لغات الحضارة،ووثائق الدّخول الدائمة والأكيدة إلى عوالم التواصل والمعرفة والإنتاج في كلّ المعمورة؟ وإخال أنّ جميعكم يعرفون أنّ الإجابة تتموضع خارج اللغة ذاتها،ولكنّها تتجلّى فيها،وتكمن في خارج خصائص اللغة،ولكنّها تتكشّف فيها،وتتمحور في معطيات بعيدة عن ذاتية معطيات اللغة،ولكنّها تنعكس عليها. الإجابة بكلّ وضوح وصراحة وصدق عن هذه الأحجية الملغزةّ تتلخّص في أنّ اللغة العربية أهل لغة قد قعدت لما قعدنا،وقد انثت لمّا انثنيا،وقد تأخّرت لما تأخّرنا،وقد انحزت للصمت؛لأنّ اللغة التي تُنتج الحضارة بها يحق لها أن تتكلم،أمّا اللغة المتطفل أهلها على حضارة غيرهم ،فعليها أن تلزم الصّمت ماشاء أهلها الكسل والتراجع.
ومادمنا نعترف بأنّ تأخرّ حضارتنا قد قعد بلغتنا محزونة منكودة شبه مهجورة،وأطلق لغيرها العنان لتركض في مضمار الحضارة رشيقة تسابق الرّيح والزّمن،فمن واجبنا تجاه هذه اللغة أن نّفكر بحلٍّ أخير لها،وأخال أنّه بعيد عن الآمال العريضة،والأفكار الوردية الدافئة الناعمة ،وهذا الحلّ يكمن فيكم أنتم معلمو اللغة العربية،فأنتم العرّاب الأخير لهذه اللغة.
لايمكن أنّ نفكّر بامتداد للغة العربية في أيّ إحداثية رأسيّة أو أفقيّة دون أن نعوّل الكثير على المعلم والمعلّمة؛فمن غيرهما قادر على أن يكون حلقة الوصل الممكنة والفاعلة والمؤثّرة التي تستطيع أن تضمن حياة هذه اللغة،وهوية أهلها عبر ديمومة تواصلية تبادلية تفاعلية.
والحق أقول إنّ الحلّ في هذا الشأن ليس وصفة سحرية مضمونة العواقب،ولا هو تمارين سويدية مكرورة معلومة،ولكنّه منظومة من الافتراضات والأوليات والخبرات المتبادلة،والأنساق المجرّبة وغير المجرّبة وصولاً إلى أفضل تمثيل مفترض لفكرة ناجحة، وهي تعليم العربية لأبنائها على صورة سويّة تحقق لهم الكفاية اللغوية،وتحفظ عليهم هويتهم الحضارية،وتؤمّن لهم عروة وثقى مع تاريخهم وحضارتهم وموروثهم.
إذن نحن جميعاً لا أنا وحدي في صدد رصد منظومة من الاستراتيجيات التعليمية الكبرى التي تحتمل عدداً غير نهائي من التفريعات من أجل وضع خارطة عملاقة لما يمكن أن يتضافر بعضه مع بعض ليكون حلولاً ممكنة.
أولاً: العربية هي بوابة اللغات الأخرى للعربي.
يعتقد الكثيرون أنّ العربية يمكن تحصيلها طيعة سهلة في صورة لغة ثانية لأبنائها من منطلق الحتميات الحضارية،والقسريات اليومية،لاسيما في حال استقرار العربي في مجتمعات غير عربية،ولا تتحدّث العربية،فيعقد المعتقد الساذج أنّ أفضل طريقة لدمج الجيل الجديد في المجتمع الطارئ عليه تتمثّل في أن يتقن لغة أهلها،وسرعان ماينساق الأهل والمربون وراء هذه الفرضية المغلوطة.فماذا تكون النتيجة؟ لن أقول لكم إنّ العرب النشء سيحكم عليهم بأن يضّعوا لغتهم الأم،فهذا أمر مفروغ منه،ولكن الطّامة الكبرى،وغير الملاحظة عند الكثير،هي أنّ أولئك النشء في الغالب المحزن لا يحققون الاندماج المنشود في المجتمع الجديد في صورته الحضارية،ولا يتقنون اللغة الأخرى كما يجب،ويبقى عندهم قصور في استخدامها مهما توّهموا الإجادة فيها،وفي كثير من الأحيان يعانون في المراحل المدرسية العليا والجامعية إن حالفهم الحظّ للوصول إليها من تأخّر دراسي،ومشاكل تواصلية معرفية مع ما يدرسون،والسبب في ذلك أنّهم لا يحظون بمعجم أسري يقدر على أن يقدّم لهم كلمات رديفة لما يدرسون ويتعلمون في اللغة الأخرى؛لأنّ معاجمهم الأسرية-أعني الأب والأم والأقارب- هي خليط من العربية وغيرها،وهم بذلك لا يصلون بأيّ شكل من الأشكال إلى ضخامة معاجم أهلين المتحدثين الأصلاء باللغة المتعلّمة،فيفقدون بذلك الوسيط اللغوي القادر على ربط اللغتين معاً،ويكبرون وعندهم خلل في معاجمهم اللغوية يؤثر سلباً على تفوقهم وتقدّمهم وفهمهم وتواصلهم.
وفي هذا الشأن أكدّت الدراسات العالمية لاسيما السويدية منها على أنّ الطفل عليه أن يتمتع بمعجمه اللغوي الأصيل في البيت بلغته والديه الأم،وعليه أن يتقنها أولاً كي يتقن غيرها،وبخلاف ذلك،لايمكن أن يستقيم الأمر.
إذن نستطيع القول بكلّ ثقة إن الطفل العربي كي يتعلّم أيّ لغة بشكل صحيح،وكي ينال حظوظه وافرة منها،عليه ابتداء أن يتقن لغته العربية الأم،وأيّ صوت ينادي بخلاف ذلك،يفقده حقّه المأمول في التواصل الإنساني والمعرفي.
ومن هنا أقول إنّ واجب المعلم لاسيما في المراحل الدراسية الدنيا والابتدائية أن يعلّم الطفل العربية بالعربية،ولا أن يلجأ إلى أن يعلّمه اللغة العربية بغيرها،أو العكس،فهذا بكلّ تأكيد سوف يشوّش ذهن المتعلّم،ويربكه .
ثانياً:على المعلم أن يدرّس اللغة العربية عبر مستواها التواصلي اليومي.
يلجأ الكثير من المعلمين من باب حسن النيّة،والرّغبة في الاستزادة في أكمل صورها الممكنة والموروثة إلى أن يسقطوا على طلبتهم تجاربهم أو تجارب آبائهم وأجدادهم في التعلّم الأكاديمي للغة،وبذلك يلجؤون إلى تعليم العربية عبر نصوص مكرورة وقديمة وخارجة عن عصر الطلبة،وهي نصوص في الغالب قد سقطت بفعل التقادم الزمني من حيث قدرتها على التوصيل والتواصل،وغدت وثائق أدبية وتاريخية تصلح لمراحل متقدمة من تعليم اللغة لا لمراحل أولى منه.
أعتقد أنّ الطالب في حاجة إلى أن يتعلّم اللغة العربية عبر نصوص وأدبيات وأمثلة ترصد واقع حياته من ظروف ومعطيات ومتغيرات ومستجدات،هو معني بالتواصل الإلكتروني" الشات" أكثر من قصائد سقط الزّند،وهو مولع بالشبكة العنكبويتة بكلّ اختصاراتها أكثر من قصص أيام العرب،وهو حريّ بالقراءة عن علاقة الرجل والمرأة في هذا العالم المنفتح أكثر من القراءة عن مصحات المجانين وتاريخ الحروب في العصور الوسطى،وهو بكلّ تأكيد حريص على اقتناء نصوص عن الفكاهة وعجائب عالم الحيوان ومستجدات التكنولوجيا وآخر صرعات الموضة أكثر من كتاب عن تاريخ ثورة الزّنج في بغداد أو صناعة الدّواء في العصور الوسطى مثلاً.
نحن مطالبون بأن نكون على درجة من الحصافة تجعلنا نختار نصوصاً جميلة رشيقة عصرية تحمل معجماً عصرياً يستفيد منه الطالب في حياته،ويجعله يؤمن بجدوى هذه اللغة في حياته،بدل أن يجزم بأنّه أمام لغة ملغزة معقدة،لاتزال عالقة في الصحراء قبل قرون بائدة.
وعلينا أن ننحاز منذ هذه اللحظة إلى الألفاظ العصرية في قائمتين تضمّ إحداهما الكلمات التالية: العيس،المفازة،الهروط،السجنجل،البعير،السقيم،المتيّم،الحجنرش ،الصهصلق،القتام،المدام،العسّال،ثكلتك أمك،لله درّك"،في حين تضمّ القائمة الثانية كلمات عصرية ومستهلكة ومفهومة،وهي:" المرآة، الذئب، الحمار،المريض،المرأة عالية الصوت،الغبار،الخمر،الصحراء،ما أروعك،أتمنى أن تموت".
أليس من الأفضل والأكثر جدوى أن ننحاز بأبنائنا إلى لغتنا عبر اختيار المناسب منها،بدل أنّ ننفرهم منها بانكبابهم على نصوص قد أكل عليها الدهر وشرب،لاسيما أن فلسفة عظمة أيّ لغة تتمثّل في تواصليتها المرنة لا في أحفوراتها المتخفيّة.
ثالثاً: يجب أن تكون اللغة وعاء الحياة الاجتماعية والفكرية والعمرية والمعاشية.
المعلم الحصيف وصاحب الدراية بطبيعة النّفس الإنسانية يكون حريصاً على أن يعلّم اللغة العربية منذ المرحلة الأولى عبر مفاهيم ونصوص يومية،وبذلك يربط اللغة بهدفها الرئيس ،وهو التواصل،وغير خاف على أحد أنّ هذا الربط يؤكد قيمة المعنى،ويربطه بسياقات أخرى محتملة ومتشابهة،وينمّي معجم الطالب،ويزيد ثقته بهذه اللغة التي تلبّي حاجاته اليومية بدل أن يبحث عن هذه التلبية المشروعة في لغة أخرى.فضلاً عن أن هذه النّصوص تقدّم له متعة تشدّه إلى تعلّمها دون قسر أو ضجر أو ملل.
وفي ضوء ذلك نستطيع أن ندرك قيمة جدوى نص عربي رصين يتكلم عن الأزياء،أو الرياضة،أو رحلات الصيف،أو علاقات الآباء بأبنائهن،أو الحميات الغذائية وجنون النحافة،أو عوامل الشخصية الجذّابة،أو عادات الزّواج عند الأمم،أو غيرها من المواضيع الحيوية ،في إزاء مواضيع جامدة مكرورة ومملة،تقتل كلّ رغبة تواصل في النّفس.
رابعاً: الأمثلة الواضحة البعيدة عن التكلّف والتكرار والتلقين هي أفضل طرق التعليم.
يبالغ معلمو اللغة العربية أحياناً حين يقدّمون اللغة العربية محبوسة في أمثلة مكرورة بالية حتى نكاد نموت قرفاً من عمرو الذي يضربه زيد دون توقّف في الأمثلة النحوية،ونكره التّفاح لكثرة ما أكل الولد التّفاح،ونتقزّز من الحليب؛لكثرة ماشرب الطالب إيّاه في جمل النّحو،ونملّ من الولد الذي زار صديقه في كلّ الأمثلة،ونشفق على اللّص الذي ضربه الشّرطي،وهي كلّها أمثلة تكرّس السّلبية والخوف والملل،والبعد عن الذّائقية الراقية والخلاقة القادرة على التسرّب إلى حياتنا في كلّ مناحي حياتنا،لتشكّل لنا كفاية لغوية حقيقية،إلى جانب التصوّر الفكري لها،فتكون أمثلتنا من صميم حياتنا وأفكارنا وسياقاتنا.
ومن جهة أخرى يهرب بعض المعلمين من هذا المأزق إلى مأزق أشدّ عندما يغرقون في سياقات تهويمية لايعرف إلاّ الرّاسخون في العلم ماذا تعني،وقد لايعرفون.فما معنى أن يكتب المعلم على الصّبّورة:الأفكار الخضراء تعيش حياة مرنة رطبة في الأنفس الحارة الأستوائية؟ ومامعنى أن يقول: الجندرية مغامرة متناهية متلازمة لتقعير الأفكار القرمزية؟
بالله عليكم هل هناك من يستطيع أن يقول لي مامعنى هذا الكلام الكبير الصغير؟ّ المهم الساذج في آن؟! هذا الكلام بلا شكّ هدر لكلّ الفرص الذّهبية للتعلّم الجاد المتواصل،فنحن مطالبون بهجر هذه السياقات المتشدّقة العمياء.
خامساً: تعليم اللغة العربية وفق قرائن ومجموعات لا كلمات فرادى.
لعلّنا مررنا جميعاً بتجربة ليّ التعلّم،وكسره عندما تعلّمنا لغة ثانية في صغرنا،كالانجليزية أو الفرنسية،حيث تعلّمناها بطريقة القوائم الصّماء؛فكان المعلم أو المعلّمة يحبسنا طوال العام مع دفتر عملاق مرقوم بمئات الكلمات الجديدة،ويجعلنا نسمّيه"دفتر المعاني" ثم نخرّقه حفظاً ونسخاً وإعادة وجهلاً،ونتفاجأ في الامتحان بأنّنا لا نتذكّر من هذه القوائم العتيدة من الكلمات إلاّ النّزر القليل المشوّش،عندئذٍ نلوم أنفسنا أو نلعن النسيان،وسيان الأمران،إذ كنا نخرج في نهاية المطاف خالي الوفاض من الكلمات.
وما كنا لنعرف حينها أنّنا معذورون في خسارتنا؛فما هكذا يكون التعليم،فالتعليم المعجمي يكون عبر الإلحاح على استخدام الكلمات في سياقات كثيرة ومتنوعة ومكرورة،حتى يتأتّى لعقل الطالب أن يحفظ هذه الكلمة في عقله عبر الطريقة العلمية للتذكّر والحفظ في الدّماغ،وهي الحفظ عن طريق المجموعات والقرائن.
فالعقل البشري كما تذكر الأبحاث العلمية المستفيضة لا يدّخر المعلومات آحاداً وفرادى،بل زمراً ومجموعات يختزلها في قرائن ظاهرة أو خفيّة.
فمثلاً عندما ترى ربطة عنق خضراء في السّوق،تتذكّر والدك ؛لأنّك أهديته ربطة عنق مشابهة في عيد ميلاده الماضي،كما تتذّكر عيد ميلاد رئيسك في العمل الذي كان البارحة،كذلك تتذكر أحمد زميلك في العمل الذي أحضر هدية للرئيس بمناسبة عيد ميلاده. والسبب في هذا التذكّر المتداعي أنّ عقلك قد خزّن في مجموعة واحدة المعلومات عن عيد ميلاد والدك،وربطة عنقه الخضراء،وعيد ميلاد رئيسك في العمل،وعن هدية أحمد،وربطها سويّاً بقرائن وفق شروطه الداخلية،ومجرّد استدعاء أيّ كلمة من هذه الكلمات عند الحاجة إليها،تُستدعى باقي الكلمات الأخرى بما يصاحبها من مشاعر وانفعالات وحالات نفسية مرافقة لها.
ولذلك علينا أن نستثمر المفردات في سياقات تكاملية استدعائية قادرة على تأمين تذكّر أكبر عدد من الكلمات ضمن دوائر سياقية واحدة مفترضة مثل: الوطن،الجمال،السعادة،التضحية،الدفاع،التعاون المحبة،الجنود،امواطنون،السلطة.وهي كلمات يجب أن تكون في منظومة واحدة.
كذلك يجوز أن نضع في منظومة واحدة كلمة: أمي،أبي، الأولاد، البيت،الأمن،الاستقرار، المعيشة،اللقاء،الاجتماع.وهكذا دواليك.
سادساً: حسن الاختيار والانتخاب من الحقول الدلالية الواحدة.
يُشاع أنّ اللغة العربية كثيرة المترادفات للدلالة على ذوات واحدة،وهذا القول خطأ شائع حتى في أوساط المعلمين لا المتعلّمين فقط،فالعربية لغة دقيقة إلى درجة متناهية،وغنية في آن بالكلمات،وإنّما مايسمّى بالمترادفات هو حقيقة كلمات تنتمي إلى حقول دلالية واحدة.فمثلاً: الأسد،وأسامة،وقسورة،وحيدرة،والليث،والشّبل،والهزبر،ليست جميعاً أسماء للأسد ذاته،أو رديفة واحدة للكلمة عينها،بل هي كلمات تدلّ على نوع الأسد،ووفقاً لذلك فالأسد مختلف في بعض صفاته الخَلقيّة عن قسورة ،أو عن حيدرة،أو عن الليث.ولذلك علينا أن نميّز بينها،أو نترك ذلك إلى حين قد يطول وقد يقصر،وننتخب حتى ذلك الوقت أسهل الكلمات الدالة وأشهرها،وهي كلمة الأسد بدل التورّط في عشرات التسميات له،وبذلك نتتخب كلمة حبّ من مجموعة كلمات حقل الحبّ العملاقة،ونختار كلمة سيف من مجموعة حقل دلالة سيف بما يضمّ من كلمات كقاطع وبتّار وحسام وباتر وغيرها.
وبذلك يتوسّع معجم الطالب أفقياً،وهو الأجدى،بدل أن يتوسّع رأسياً،وهو الأقل جدوى في عملية التعليم،وله أن يكمل بعد ذلك التوسّع بشكل رأسي ومأمون إذا ما أمسك بأوّل زمام اللغة،وهجر ركن القطيعة مع لغته الأم.
وفي هذا الشأن على المعلّم أن يقبل بالكلمات الفصيحة الدّنيا،لأنّها امتداد حقيقي للفصحى،وعليه كذلك أن لا يعاملها على أنّها عامية؛لأنّها ليست أبداً كذلك،مثل كلمة شاف بمعنى رأى،وبس بمعنى فقط أو يكفي،وحكى وسلف وهرج بمعنى قال،بل إنّ من واجب المعلّم أن يبيّن للطالب أنّها كلمات فصيحة لا عامية،وأن يعرّفه أن استخدامه لها هو فصاحة لا انحراف نحو العامية على حساب الفصحى.
سابعاً: تنقية اللغة العربية من المستوردات اللغوية من غيرها من اللغات.
في ظاهرة تعريب غريبة تشهدها اللغة العربية في القوت الحاضر نجد المتحدثين بالعربية يصنعون قوالب لغوية جديدة هي مزيج من العربية وغيرها من اللغات،مهشمين بذلك الكلمة العربية،وفاتحين إيّاها على مبانٍ لغوية مغلوطة،وهي ظاهرة خطيرة تهدّد الأمن اللغوي للعربية برمّته إذا ما استمرّت بالتوسّع والتفشّي على شاكلة ماهو عليه الآن.
ومعلم اللغة العربية مطالب بالدّرجة الأولى بعدم التوّرط في هذه الظاهرة في غرفة التعليم،ومن ثم تسليط الضوء عليها،والإصرار على الالتزام بالبدائل العربية الفصيحة بدل تلك الكائنات اللغوية الهجينة.
فعليه مثلاً أن يصرّ على قول ألغيت بدل كنسلت،وأعدت تنظيم بدل فرمتت،وضاعفته بدل دوبلته،ومخطط له بدل مبرمج،وتجمّلت بدل تمكيجت،وصغته بدل فبركته،وحالفني الحظّ بدل شنّصت معي،وفُصلت بدل فنّشوني،وألغيتُ بدل أكّست،وغلّف بدل بكّت،وحفظ بدل سيّف.
والقائمة تطول،وتكاد لا تنتهي في هذا الشأن،والمعلم يدركها بسهولة،ولكن التحدّي يكمن في قدرته على فرض الصيغة العربية على نظيرتها الهجيبنة.
ثامناً: تقديم اللغة العربية في سياقات وظيفية لا في سياقات تنظيرية.
تتوافر اللغة على مقدار تنظيري عملاق استغرق إنجازات الكثير من منظرين اللغة العربية عبر عصورها المديدة،وهو بُعد عقلي صِرْف هدفه عقلنة اللغة،وتقعيدها وفق أسس مقننة لا اعتباطية،ولذلك علينا أن نحترم هذا التوّجه في العربية وأن نصوّغه،ولكن عندما ندخله في مناهجنا فإنّنا نحوّل اللغة العربية إلى قواعد جامدة ومعقّدة،يصعب حفظها أو استحضارها،ولذلك من المهم أن يقدّم المعلم اللغة العربية في سياقات وظيفية يتقنها الطالب عبر قوالب مكرورة بدل أن ينفق وقته في حفظ رموزها ومعادلاتها وسبر علاقاتها.
فالأجدى أن يتعلّم الطالب أن يصوغ كلمة راكب من ركب،وعاشق من عشق،وسابح من سبح على أن يعرف أنّها اسم فاعل،ولا يجيد اشتقاقها.ومن الأجدى كذلك أن يتقن وصفاً حالة قدومه بمسرع أو سعيد أو مبتهجٍ،بدل أن يعرف أنّه حالاً،ولايجيد صياغته.
وكلما أتقن المعلم تركيب الحالة السياقية في ذهن الطالب زادت كفايته اللغوية،وانحاز تلقائياً إلى استخدامها وتوظيفها والتّواصل بها.
كذلك علينا أن لا نتناقض عند توصيفنا للغة إن اضطررنا إلى ذلك،فعندما نقول إنّ الفاعل في العربية هو من قام بالفعل كقولنا: جاء الوفد المشارك في المهرجان،فالوفد هو من قام بفعل المجيء.ولكن كيف نستطيع أن نعلّل قيام الفاعل بدور المفعول به في جملة مات الرجل أو نبت الزّرع،أو كبر الصغير؟ فالرجل لم يمت من تلقاء نفسه،والزّرع كذلك لم ينبت من تلقاء نفسه،بل هناك قوى معلومة للجميع قامت بذلك،وهي قوة الله عزّ وجل.
في حالة مثل هذه علينا أن نقول للطالب إنّ للنحو العربي منطقه النسقي الخاص الذي تنتظم الجمل به،ولكنّه غير ملزم بالانصياع للمنطق الخارج عن ذاته،ولذلك يجوز أن نجد في العربية في بعض الأحوال أنّ الفاعل حقيقة هو المفعول به،وأنّ المفعول به هو حقيقة الفاعل،وأنّ اسم الفاعل هو اسم المفعول به.
تاسعاً: دور المعلم في تغيير الصّورة السلبية للعربية.
إن كان هناك قوة فاعلة ومؤثرة قادرة على تكوين جيل يعتزّ بلغته وهويته ومكانته،ويطمح إلى غدٍ مشرق مسعود،فهذه القوة بلا شكّ هي قوة التعليم.
إذن لاغرو أن نعوّل على المعلم في أن يقدّم صورة إيجابية للغة العربية ابتداء عبر نفسه،مروراً بخصوصية اللغة عبر منظومته في الاختيار والانتقاء،انتهاء عبر الثيمات الكبرى والملحّة التي يطرحها،ويلحّ على وجودها فيما يدرّس،بل إنّه قادر على استيلادها وتشكيلها في كلّ مايدرّس في حالة كانت معدومة في النّص الهدف.
وفي الشأن نفسه على المعلم أن يخرق الصورة النمطية السلبيةالشائعة لمعلم العربية،وهي صورة تقليدية توارثتها كتب التراجم اعتباطاً عندما ألحّت على أن يكون معلم العربية سيء الهندام،صعب المراس،قليل الفكاهة،كثير التعنّت،شديد التزّمت والنّزق،يتشدّق باللغة في غير مكانها،ويتقعّر في الكلام حتى يغلق على ذهن السامع.
ويأتي الكثير من المعلمين ليأكدوا هذه الصورة السلبية عبر أذواقهم وعصبيتهم ومحافظتهم المفرطة.ويبقى السؤال ألسنا في حاجة حقيقية إلى معلمي لغة عربية يكونون مثالاً حضارياً إيجابياً لسدنة اللغة ومعلميها وحاميها.فيمثّلون قيم الجمال والحياة والظّرف وحسن التخلّص،وإجادة تقييم المواقف،كما يملكون حسّاً عالياً باختيار المواضيع الحيوية التي لا تنفذ فقط إلى اللغة بل إلى ماقبلها من تواصل وإلى مابعدها من تفاعل.
|
|
|
|
|