|
|
الذّاتية مدخلٌ للتواصل
د. سناء الشعلان
لايختلف اثنان على أنّّنا نعيش في عالم معقدّ سريع الخطى،مضطرب التوجهات والميول والنتائج والمصوّغات،وفي عالم كهذا يغدو من الأهمية بمكان أن يجد المرء بل المجتمعات وشائجَ للتواصل.والحديثُ في هذا الصّدد يتمدّد ويطول ويتشّعب،بما يعزّ المتسعُ للحديث عنه في هذا اللقاء،ولكن لا مفرّ من القول في هذا الصدد بأنّ سياسةَ مواد المهارات التي يدرّسها مركز اللغات منذ سنين تكرّس أبجديات التواصل الإنساني في وظائفها اللغوية العليا القصدية عبر طائفةٍ من المهاراتِ المعتمدةِ الإجبارية لاستيفاء مفردات المادة.
ويأتي التحدّثُ عن تلك المهارات التي تتربّع على عرش التواصلية المعرفية والإنسانية والأكاديمية في هذه المادة الإجبارية على كلّ طلاّب المادة توخّياً لإدراك أكبر حيّز من تسليح الطالب بالقدرة على التعبير عن نفسه وجماعته وحاجاته وأفكاره ولو في حدّها الأدنى،فضلاً عن القصد إلى تحقيقها في حدودها العليا.
وهذه المهارات تفتح جدلاً كبيراً مفاده التثاقف والتبادل والتعلّم المستمرّ،وتوظيف الكفاءات البدهية والفطرية والمكتسبة وصولاً إلى عمل مشترك يعزّز فكرةَ الإيصال والتوصيل والتأثر والتأثير والتعلّم والتعليم.وفي هذا الشأن يترك كلّ أستاذ جامعي بصمته الخاصة لترسيخ هذه المهارة،وفق مقتضيات المؤتلف والمختلف في بنية تسعى إلى تحقيق هدف واحد عزيز ممكن،وهو الارتقاءُ بقدرة الطالب على التواصل عبر مهارة التحدّث.
لن أطيل الحديث النّظري في هذا الأمر،ولن أعرّف بهذه المهارة،ولن أتطرّق إلى الحديث عن مفرداتها،وأدواتها،ومحدّداتها،وفلسفتها،فتلك أمور تكاد تكون بدهية عند كلّ زملائي الذين يعرفونها عين المعرفة.لكنّني سأتحدّث في هذه الورقة عن تجربتي الشّخصية في هذه المهارة،وهي تجربةٌ لم تعلّم طلبتي فقط،وبل وعلّمتني الكثير،وصقلت ملكاتي ومواهبي،وشحذت رؤيتي الأكاديمية فضلاً عن الإنسانية لمفهوم الحديث التواصلي،أو التواصل عبر الحديث،لكم أن تسموّه ما شئتم،فالتسميةُ ليست هي القضية.
بدأت تجربتي مع التحدّث في المهارات بالشكل التقليدي المكرور الذي يمكن اختصاره في أمر: تحدّث عمّا تريد من ص من المواضيع في بحر س من الزّمن،في واقع ع من المحدّدات.وتتالت المواضيعُ التقليدية المعروفة عندكم،مثل:التدخين،السمنة،الهجرة،العولمة،الانترنت،الزواج العرفي،المجتمع الجامعي،وغيرها من العناوين التي بليت لكثرة ماطرحت بالطريقةِ الميكانيكيةِ الجافةِ ذاتها.
ولم يطل بي الزمن حتى اكتشفت بل أيقنت أنّ فكرة الجمعية في الطّرح تقودنا في الغالب إلى اختزال هذه المهارة في مادة هزيلة يحفظها الطالب على عجل،ويقدّمها على جناحي نعامة بقلق وتوتّر ليخلص من هذا الهمّ العتيد الإجباري الذي يدفع به في الغالب إلى الزاوية بعيداً عمّا اعتاده من صمت خجول أو ثرثرة مجانيّة غير مدروسة،وآمنت بأنّ الطريقَ نحو التواصل الفعّال المثمر والمؤثر لا يكون إلاّ انطلاقاً من الذاتية والخصوصية بكلّ ما تحمل من تفاصيلٍ يومية،وخصائصَ شخصيةٍ،وتجاربَ فرديةٍ،وخضت المغامرة بحزم،وسط احتجاج طلبتي الدائم،وتذمّرهم الموصول،وحجاجهم المكرور،وتلخيص ذواتهم في جملة: من أنا لأتحدّث عن نفسي؟! أنا لم أفعل شيئاً له قيمة حتى الآن.
وفي كلّ مرة كنت أربح المعركة في البداية بسلطتي الأكاديمية ،وبسلطتي الإنسانية وبتفاعلهم وقناعاتهم الجديدة الرّاسخة بجدوى ما أفعل في النّهاية ،وأصبح موضوع تحدث طلبتي الدّائم في كلّ الفصول وفي كلّ الشعب هو:من أنت؟
قد تتساءلون بفضول محمود مستدعى وفق الحال،ومن كانوا؟ فأقول لكم:قبل أن تعرفوا من كانوا عليكم أن تعرّجوا معي على نتائجَ مذهلةٍ لهذا الموضوع الذي انطلق من الذّاتية المحض ليؤسّس لتواصل راق بين الجميع،الطلبة جميعاً بلا استثناء تكلّموا بلغة قشيبة فصيحة وأحياناً أدبية رفيعة تدهشهم قبل أن تدهشني،إذ كانوا يكتشفونها في أنفسهم إبّان تحضيرهم للحديث عن أنفسهم،وأخال أنّهم في هذا الشأن أخلصوا لأنفسهم،فأخلصت لهم الفكرة واللغة،كذلك تحدّثوا عن جوانب مغمورة في ذواتهم الإنسانية،وتبادلوا خبراتهم الشتّى،وخبروا الحديث المباشر والصادق والنّافع عن أنفسهم،وجرّبوا تقنية العلاج الجمعي عبر الاعتراف والتطّهر دون كذب أو تجمّل،ثم أنّهم رسموا حدوداً خبراتية للفشل والنّجاح والحبّ والطموح والتعاون والتسامح وللكثير من المفاهيم الراقية المحمودة،وتداولوها بين بعض،في النّهاية أقول لكم إننا لا إنّني وحدي قد أنتجنا جميعاً من هذه المهارة عبر عنوانها العريض من أنت؟ شبكة إنسانية من التواصل والتراحم والمعرفة والتبادل،وأفخر بأن أقول في هذا الصّدد بأنّ طلبتي في المهارات يخرجون في أكثر الأحوال أصدقاءً يتبادلون وسائل التواصل المختلفة مثل رقم الجوّال والمنزل والبريد الإلكتروني،ويعرف أحدهم عن الآخر مايجب أن يعرف في حدوده الإنسانية،ويصطفيه إنسانياً مادام قد ذاق فيه ومعه معنى المشاركة التواصلية الصادقة ولو لمدة لا تتجاوز الربع ساعة،طلبتي يخرجون من المادة وقد أصبحوا أجمل إنسانياً ومعرفياً،والأهم من ذلك أدركوا بالدليل القاطع أنّ ذواتهم أثمن ما يملكون،وهي تستحق الوقوف عندها،والتعريف بها.
يحق لكم الآن أن تسألوني من جديد همساً أو جهراً،ومن هم طلبتك وفق تقديمهم لأنفسهم،فأقول لكم :هم كثر كثر،وجمالهم أكبر،ومن ذاكرتي المشحونة بهم أعرّفكم ببعضهم ؛إذ يضيق المقام عن التعريف بهم جميعاً.
طلبتي فرسان الحقيقة،هم ليسوا أبطالاً ورقيين،ولا جنوداً صلصاليين،ولا مقاتلين بواسل لا يشق لهم غابر،ولا أصحاب مقامات مخميلية أو حريرية،ولكنّهم أصحاب مواقف تملي على كلّ من يتوقّف عندها أن يعترف لهم بحق الحياة،إذ هم أولادها المخلصون لها،لقد تعلّمت منهم معنى الجمال الذي مهره أن ينقل إلى كلّ مكان.أفتح لكم الأبواب على طلبتي عبر ما قدّموه في عروض تحدّثهم.
أتعرفون خلود؟ هي طالبة أم،وأم عملاقة،التحقت بالتعليم الجامعي،وهي في سنّ الأربعين،لم تلتحق به رغبة بالمعرفة الصرف وحسب،بل التحقت به كي تؤمّن ترقية في السلم الوظيفي في عملها المؤقّت الذي تعتاش منه وأربعةٌ من أولادها الذين تعيش معهم منبوذة مطرودة من الأهل والزّوج؛لجريمة نكراء اقترفتها،أتعرفون ماهذه الجريمة،جريمتها طفل منغولي بريء،جاء إلى الدّنيا عبرها،فلعنت به،خيّرها الأهل والزّوج بين كلّ شيء وبين التخلّي عنه،والإلقاء به بعيداً،فاختارت أن تكون في الشارع معه،تنكّر لها كلّ النّاس بعد أن طلّقها زوجها،ولكنّها ضمّت طفلها المنغولي الملائكي وأبناءها الثلاثة إلى صدرها،وعضتّ على الحياة بإصرار إكراماً لهم،ونجحت في أن تجد عملاً متواضعاً وأن تستأجر شقة،وأن تعود إلى تعليمها،وأن تتعلّم معنى الحياة والسعادة والإيمان بالله من طفلها المنغولي الذي يسألها كلّما رأها متعبة بإحساس فطري مرهف: ماما إنت زعلانة مني؟! فتأخذه إلى حضنها،وتقول له:أبداً ياحبيبي.
هذه خلود،فهل تعرفون ربى وعايدة؟ هما صديقتان،سجلتا مادة المهارات معاً في شعبة واحدة من شعبي،ولكنّهما لم تحضرا معاً أيّ محاضرة،بل كانتا تحضران على التناوب،في وقت تحدّثهما المشترك حضرتا لأوّل مرة معاً،وحضرت معهما محمولة إلى الأحضان طفلة رضيعة في غطاء وردي باهت يفضح سرّ غيابهما المستمّر،هذه الطفلة كانت الناجي الحزين من سرطان عاتٍ أكل أم ربى وهي في ريعان شبابها،وانتزعها من طفلتها الرّضيعة دون رحمة،ربى وعايدة كانتا تمارسان دور الأمومة بالتناوب مع طفلتهما الرّضيعة التي كانت ترافقهما كلّ يوم إلى الجامعة،إذ لاحضن يأويها في بيت بعد رحيل الأم،وسفر الأب مجبراً منقاداً لعقد عمل في الخارج عليه أن يرضخ لقيده الزّمني الملزم.
ربى أمّ بالإجبار لطفلة واحدة، أمّا نسرين فهي أم لسبعة أبناء أخوة،ماتت أمّها في حادث سيارة مفجع،قسم شبابها قسماً،فأورثها أسرة متداعية،وجيشاً صغيراً من الأخوة الأيتام الضائعين المضيّعين،ومسؤولية عملاقة،وامتحانات ثانوية عامة على الأبواب،كان يمكن لنسرين أن تضيع مع الضائعين،ولكنّها قرّرت أن تكون منارة نجاة لها وللأخوة الأبناء،درست ونجحت ورعت وحنتّ،فسار القارب نحو شاطئ النّجاة،وروح الأم الراعية ترعاه وتباركه.
أمّا رشا فقد وجدت طوق نجاتها في دجاجاتها الخمسين،بدأت مشروعها بخمس دجاجات بلدية اشترتها من نقود ادّخرتها بصعوبة من مصروفها الهزيل،وأسكنتها في غرفة أرضية مهجورة بلا باب،وسرعان ما تتضاعف عدد الدجاجات ليغدو خمسين دجاجة،هي وبيضها البلدي مصدر رزق العائلة،منه تنفق،ومنه تدّخر،ومنه تدفع أقساط رشا في الجامعة،فهي فخر العائلة،لها مشروعها الخاص المنتج،وتخطّط ليكون لها قرض زراعي من المشاريع التنموية الداعمة للمرأة،لتكبّر حلمها الدّجاجي،وتكون صاحبة مزرعة كبيرة،كذلك هي أوّل فتاة تدخل الجامعة في تاريخ قريتها أوسرة الغارقة في غابات عجلون.
غيداء بقيت محبوسة في جسدها الذي يتجاوز المئة والخمسين كيلو غراماً لسنين طويلة،ثم قرّرت أن تخرج منه،ونجحت بذلك،ليصبح وزنها سبعة وخمسين كيلو غرام لا غير، هي الهاربة منها إليها،هي المتمردة بجسدها على جسدها،ذاكرة جسدها الرّشيق تحمل كلّ تفاصيل العذاب والألم والعجز إبّان كانت أسيرةَ سمنتها،وبعضُ ملابسها المهجورة وصورها القديمة هي آخر معاقل الذّكرى الملعونة الآيلة للنسيان.
أمّا يوسف،فهو يفهم العالم بمنطق خلية النّحل،يسكن الأغوار،ويعمل مع والده في تربية النّحل،وبريع هذا العسل ينفق على أسرة مكونة من أربع ضرائر وعشرات الأخوة وجدّين طاعنين في السّن،يعترف بأنّه قد فاته الكثير من الحياة بسبب انغماسه في عسله الشوكي،ولكنّه على الرّغم من ذلك يتقن حكمة الخلية،وجدوى القيادة،ومعنى الأسرة المتماسكة،ويميّز بين المقلّد والأصيل،وتكفيه هذه المهارات لينعم بطعم حلاوة الرّضا،ودفء الاستقرار الأسري.
ولأوس قصته الخاصة مع اسمه،فاسمه كان قدره،وهو سعيد بهذا القدر،هو وحيد أمّه،وقد أسمته بهذا الاسم تيمّناً بصحابي جليل بار بأمّه،
فتمثّل اسمَهً،ورجاءَ أمِّه فيه،فكان لها الابنُ البارُ، ولا يزال رفيقَ دربها حتى في رحلة مرضها السّرطاني الذي هاجمها منذ سنوات،وما استطاع أن يلتهمها.أوس كان المخلصَ لأمّه في حين خذلتها الأقدار،وغدر بها البدنُ.
ليت الوقت يكفي لأقلّب معكم صفحاتِ محادثةٍ تضجّ بأجمل معاني العمل والإنجاز والبوح،ليت الوقت يكفي لتعرفوا سبب بكاء أسرار كلّ مساء،وسبب إصابة عقيل،وموهبة داليا،ومشكلة أحمد،ليته يمتدّ ببذخ شهرياري لتسمعوا شجو حنين،وموسيقى أوج،وتروا لوحات حنين،وسرّ حجاب صونيا،وجذور تديّن هاشم،وسرّ نجاح نادر،وتفاصيل مرض هداية،وسبب حزن فائقة.ولكن لاوقت يتسع لكلّ الجمال في هذا العالم.
أقول لكم أعزائي الحضور طلبتي فرسان دون ظهور خيل أصيلة أو سيوف بتّارة،هم أبطال بالإرادة والتّصميم،لقد تعلّمت منهم طرائقَ للحياة،وشعائرَ للفرح،وترنيماتٍ للوجود والامتداد،وعرفت بهم ومنهم أنّ الذاتية قد تكون أقرب طريق نحو صميم التواشج الجمعي.
هؤلاء طلبتي،وهذه تجربتي معهم في التحدّث،هي ومضة لها أن تضيء أو تشير أو تومىء.
|
|
|
|
|