|
|
التربية الوجدانية
د. محمد سعيد حسب النبي
يتساءل كثير من الناس عن الوجدان وماهيته، حيث يعجز بعضهم عن وصف تلك الأحاسيس التي يشعرون بها في بعض الحالات؛ كاستماعهم لأبيات شعرية جميلة، أو متابعة لمقطوعة موسيقية ممتعة، أو حتى عندما يمرون بتجربة نفسية مؤلمة، وهم لا يعلمون أن هذه الخبرات التي يمرون بها تؤثر على وجدانهم. وإني لأدعو القارئ أن يقف معي في إلماحة مهمة على هذا الشيء المحير المسمى الوجدان.
الوجدان في أبسط تعريف له هو ذلك الشعور الانفعالي بالخبرة المعاشة، سواء أكانت سارة أم غير سارة، لاذة أم غير لاذة وأعني بها الخبرات المؤلمة، وبتعبير آخر: خبرة مبدأ اللذة أو الألم في علاقتها بالواقع. وهذه الخبرة بتراكمها تؤثر إيجاباً أو سلباً على الفرد، حيث إن تراكم الخبرات الإيجابية تؤثر بشكل مباشر على وجدانه؛ والعجيب في الأمر أن تلك التأثيرات الإيجابية تؤثر بدورها على سلوك الفرد، بحيث تجعل سلوكه إيجابياً أيضاً متوافقاً مع ذاته والآخرين، وعكس ذلك صحيح؛ فلو أصابت الوجدان شائبة ما، سوف تخرج المرء عن طور الاعتدال والاتزان، ويدخل في طريق الاضطرابات السلوكية والنفسية.
ومن الحالات النفسية التي تنعكس بلا شك على سلوك الفرد؛ حالة الشعور بفقدان الوجدان مع نهم لبلوغه، وهو ما يطلق عليه جوع وجداني، وقد يمر المرء باضطراب وجداني، وهو ذلك الشكل الذي يعجز فيه الفرد عن معايشة الواقع العاطفي؛ فلا يستطيع أن يحيا طاقة الحب، سواء أكان ذلك لعجز عن العطاء، أم لعدم القدرة على تقبل هذه الطاقة، والإحساس بمشاعرها، وتخيلوا معي سلوك هذا الشخص المضطرب وجدانياً في تفاعله مع الآخرين، والذي يوصف في كثير من الأحيان بجفاف المشاعر.
تربية الطفل وجدانياً:
في ضوء ما قيل سابقاً، وفي ضوء العلاقة القوية بين الوجدان والسلوك؛ أظن أن تربية الطفل وجدانياً أمر مهم، حيث تعد حاجة أساسية للنمو الصحيح، واكتساب القدرة على التكيف، ولاشك أن حرمان الطفل هذه الحاجة في طفولته قد يؤدي به إلى العجز عن إعطاء الحب، أو قبوله طوال حياته. والتربية الوجدانية أوالانفعالية هي التربية التي تغرس الاتجاهات، والقيم، والمشاعـر، والتـي تعلـم الأطفال فهم الآخرين والتفاعل معهم بنجاح، والتي ترتكز على تهيئة المناخ للطفل ليمر بخبرات التعليم والتعلم التي تركز اهتمامها على تنمية جوانب حسية ووجدانية في سلوك التلاميذ.
الأدب والوجدان:
أظن أن القارئ لن يختلف معي في أن الأدب والوجدان لا يفترقان؛ فالحديث عن الوجدان يستدعي الحديث عن الأدب مؤثراً ومثيراً، والحديث عن الأدب يستدعي الحديث عن الوجدان متأثراً ومثاراً؛ فالأدب هو وقـع الوجـود على الوجـدان، معبراً عنه بكلمات تُصاغ في قالب قصيدة، أوقصة، أو رواية، أومسرحية. وهذا ما يعطي استبصاراً قوياً بارتباط الأدب وفنونه بالوجدان، فلا شك أن الأدب يثير الإنسان وعواطفه ومشاعره الوجدانية، ويجذب الصور النائمة في اللاوعي.
وهنا يبرز دور التربية في أن تجعل من أساسيات أهدافها تنمية الجانب الوجداني في الفرد، حيث إنه المجال الذي يتضمن الاتجاهات والقيم والمشاعر وغيرها. ولن يحدث ذلك إلا بتغير المفاهيم التعليمية المتعلقة بهذه التربية عن طريق الأدب والفن والجمال، إنها تربية الإبداع، والتربية الإبداعية تربية من أجل مستقبل أفضل.
ويمكن أن تبدأ التربية الوجدانية منذ اللحظات الأولى من حياة الطفل، ثم تمنهج بشكل منتظم في سن السادسة أوالسابعة، بإسماع الطفل الجميل من الكلم العربي، وإني لأذكر في هذا السياق نصيحة عتبة بن أبي سفيان لمربي ولده حيث قال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك؛ فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيلموه، ولا تتركهم فيهجروه، وروهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، وروهم سير الحكماء"، إنها التربية الوجدانية وقد صيغت بلسان عربي فصيح، ولا يمكن أن تتم هذه التربية إلا من خلال سياق اليوم الدراسي للطفل مع تخفيف عمليات التعلم الزائد التي تحشو عقل الطفل بمعلومات رقمية، ولغوية، وعلمية قد لا يكون عقله محتاجاً إليها أوقادراً على استيعابها في هذه المرحلة العمرية أوتلك، ومن ثم تعمل على تجفيف منابع خياله، أوتجميدها بدرجة كبيرة.
وأدعو القارئ الآن لأن يمتع وجدانه بكلمات معبرة للعبقري المبدع جبران خليل جبران:
الأطفال
إن أطفالكم ما هم بأطفالكم؛
فلقد وَلَدهم شوقُ الحياة إلى ذاتها
بِكُمْ يَخرجون إلى الحياة، ولكن ليس مِنكُم
وإنْ عاشوا في كنَفِكُم فما هُم مِلْكَكُم
قد تمنَحونَهُم حُبَّكُم ولكن دونَ أفكارِكم
فلَهُمْ أفكارُهم
ولقد تؤون أجسادَهم لا أرواحهم؛
فأرواحُهُم تَسْكُنُ في دار الغد، وهيهات أن تلموا به، ولو في خَطَرات أحلامكم
وفي وسْعِكُم السَّعي لتكونوا مِثلهم، ولكن لا تُحاولوا أن تَجْعَلوهُم مِثْلكم
فالحياة لا تعود القهقرى، ولا تَتَمَهَّل عِنْد الأمس
أنتم الأقواس، منها ينطلق أبناؤكم سِهاماً حَيَّة
العطاء
وهل الخوف من الحاجة إلا الحاجة ذاتها؟
أليست خِشْيَةُ الظَمأ، وبئرك ملأى، هو العطش لا تُروى له غلَّة؟
ـجميلٌ أنْ تُعطيَ من يسألك، وأجملُ منه أنْ تُعطي من لا يَسألك وقد أدركْتَ عَوَزَه؛
ما أكثر ما تَقُول: لَتَصْبُوَنَّ نَفسي إلى العطاء، ولكن لا أُعطي إلا من يستحق
ليس ذلك قول الأشجار في بُستانك، ولا القُطعان في مرعاك
إنها تُعطي لتحيا؛ لأن الاِمتناع عن العطاء سبيل الفَناء
فالحق أنَّ الحياة هي التي تُعطي الحياة، ولستَ أنت يا مَنْ تَظُنُّ أنك مُعْطٍ، سوى شاهدٍ
المأكل والمشرب
وحين تَنْحَرُ ذبيحَتَكَ ناجِها في سرك قائلاً:
إنَّ القُدرَةَ التي تَذبَحُكِ هي نفسها تَذبَحُني؛ وأنا مِثلكِ مَصيري الفناء
فإن الناموسَ الذي أسْلَمَكِ إلى يَدي سوفَ يُسَلِّمُني إلى يدٍ أشَدُّ بأساً
وما دمي ودمُكِ إلا العصير يَغْدو شجرة الخُلْد.
وحين تَقْضُمُ التُّفاحة بين أسنانك، ناجِها قائلاً:
لَسَوفَ تَحيا بُذورُكِ في جسدي،
وتُزهِر براعِمُ غَدك في قلبي،
ويُصْبِحُ عبيركِ أنفاسي،
ومعاً نبتهجُ على مَرِّ الفُصول.
|
|
|
|
|