|
|
الإبداع والحضارة
د. سناء الشعلان
الإبداع هو توصيف جامع لكلّ سلوك بشري أو معرفي أو أداء فكري أو عملي يقدّم جديداً إيجابياً في حقله وزمنه وجماعته ممّا يؤدّي إلى الرّقي بحال الأفراد والجماعات،ويزيد من كفاءتها في التعامل مع واقعها،والسّير بها نحو المزيد من التصالح مع الواقع،والدّفع بها إلى المزيد من تحقيق قيم الجمال والترفيه والسعادة.
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نوسّع دائرة مصطلح الإبداع لتتقاطع مع كلّ مفهوم ريادي جديد يقدّم المزيد من فرص الإسعاد والتواصل والسّلام والرفاهية والحضارة للبشرية.وبذلك يغدو الإبداع مظلّة تضمّ إليها كلّ مبادرة جديدة في كلّ حقول المعرفة والسلوك والتفكير الإنساني في كلّ مكان وزمان وحضارة،ليتجاوز المفهوم أطره التقليدية الضّيقة التي قد تحصره في حقول بعينها لاسيما في حقول الأداء الفني والكتابي والإعلامي والرياضي،ليتبوأ مكانه الطبيعي في خارطة السيرورة الإنسانيّة الطبيعية التي يضطلع أفراد مميزون في حقولهم وشخصياتهم وخبراتهم واستعداداتهم النفسية والمهاراتية الطبيعية والتعليمية والتواصلية في تشكيل مفاهيم جديدة للوجود،وإضفاء أشكال جديدة من الرقي والتواصل والنّماء عليها،وبذلك يصبح البشر جميعاً أصحاب طاقات طبيعية وفطرية في الإبداع تتفاوت وفق قدراتهم العقلية والنفسية واستعداداتهم لاستثمارها وفق خطط مدروسة تكرّس نجاحهم في إظهار مواهبهم وملكاتهم،أو تبرّر على الأقل سبب إخفاقهم في استثمارها.
ومن هذا المنطلق نستطيع القول إنّ المعلم الجاد مبدع،والأم المربية الصالحة مبدعة،والتلميذ المجدّ مبدع،والطاهي المتقن مبدع،والطبيب المخلص مبدع،والإعلامي الصادق مبدع،وشرطي المرور الذي يحرق نهاراته ولياليه في خدمة الوطن هو مبدع،وكلّ فرد يؤديّ واجبه على خير وجه هو مبدع بكلّ تأكيد في قدرته على استولاد طاقاته الكامنة من أجل فهم كنه وجوده،وفلسفة وظيفته،واستثمارها في إكمال المشهد الإنساني على خير وجه من خلال مشاركته الصادقة والجادة في أن يكون لبنة صالحة وقوية في هذا المشهد.
وبذلك يغدو الإنسان مبدعاً حقيقياً في دراسة واقع ذاته ونفسه وحاجاته عندما يخضع كلّ هذه المعطيات لمجهر قدراته وملكاته الخاصة؛لينتخب الحقل والأداة اللذين ينسجمان مع معطياته وآماله من أجل أن يصنع السعادة له ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء في الوقت ذاته،وينحاز بصراحة إلى قيم الجمال والعطاء والحياة بدل أن يستسلم إلى محبطات الواقع التي تحاصر الإنسان في كلّ نواحي الحياة،وتكسوه باليأس إذا ما استسلم لها في إزاء مشاهد حياتية مأزومة تسعى جاهدة إلى إخفات صوت الحياة،وإعلاء نفس الاستسلام والموت.
والحديث عن الإبداع يقودنا مباشرة إلى الحديث عن الأفكار السّلبية المغلوطة التي تدور حوله،وتشارك بشكل أو بآخر في هدم بنيانه،أو على الأقل في إعاقة نمائه الطبيعي،وتحول دون مشاركته في دوره الحضاري المأمول. ومن أبرز هذه الأفكار المغلوطة الشائعة عن الإبداع أنّ الإبداع صورة مكرورة محدّدة لا يستطيع أن يتجاوزها المرء،وأنّ الإبداع يجب أن يكون في الحقول التقليدية التي أنجز فيها غيرنا،وأنّنا لا نكون مبدعين إلاّ أن كنا صورة عن أناس مبدعين آخرين،وأنّ الإبداع مقصور على بشر دون آخرين،وأنّ الإبداع يحتاج إلى بيئات حاضنة وأزمات عملاقة ومكابدات نفسية حتى ينضج،وأنّ الإبداع هو مركب ثورة دائم ضدّ قيم المجتمع وعاداته ومفاهيمه،وأنّ المبدع حالة قلقة غير قادرة على الانسجام مع الذات والتّصالح مع المجتمع،والتواصل مع تطلعاته وحاجاته،وغيرها الكثير من الأفكار السلبية المغلوطة التي تبتعد عن حقيقة مادة الإبداع وغاياته،وتشوهه لصالح الفشل والكسل والتواكل.
|
|
|
|
|