|
|
اللغة العربية تنطق بإهمال أبنائها
أميرة عبدالحافظ
"العبارة العربية مثل آلة العود إذا نقرت على أحد أوتارها رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور" هذا ما قاله المستشرق الفرنسي وليم مرسيه عن لغة الضاد، أما الألماني فريتاج فقال عنها إنها أغلى لغات العالم . ورغم ذلك ورغم كل المحاولات والمبادرات التي تعمل على الحفاظ على لغة القرآن إلا أنها مازالت تشتكي إهمال الناطقين بها . في اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية، الذي يحل في 18 ديسمبر/كانون الأول سنوياً وهو اليوم الذي اعتمدت فيه الأمم المتحدة اللغة العربية ضمن لغاتها الرسمية عام 1973 حاولنا معرفة أسباب هذا الإهمال ومظاهره .
أكد د . أحمد عفيفي، أستاذ اللغة العربية بجامعة الإمارات، أنه عندما نتحدث عن ضعف مستوى اللغة العربية على ألسنة الناطقين بها، وعندما نبحث عن الأسباب لابد أن نعود للمراحل التعليمية الأولى وتحديداً الابتدائية التي لا يوجد بها الاهتمام الكافي بهذه اللغة، مروراً ببقية المراحل التعليمية ووصولاً إلى الجامعة، إضافة لعدم اهتمام المجتمع نفسه بها كلغتنا الأم في مقابل التأكيد على الإنجليزية كلغة العصر واعتبارها لغة الصفوة .
وأشار عفيفي إلى مشكلة أخرى تواجه الشباب بعد الانتهاء من الدراسة وهي أن أصحاب الأعمال يشترطون إجادة الإنجليزية للحصول على الوظائف، في الوقت الذي لا نجد فيه إتقان العربية شرطاً للحصول على أية وظيفة . ولفت إلى أن هناك عوامل نفسية كثيرة تتسبب في نفور بعض الشباب من لغتهم وأهمها الاعتقاد بصعوبة تعلمها وإتقانها، وقد تعود هذه الأسباب لمعلم اللغة العربية نفسه الذي يعاني من قصور في إعداده وقدرته على إيصال المعلومة وتقديمها بطريقة مبسطة .
د . هدى سالم آل طه، من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الإمارات، ترى أن العربية تتراجع رغم الجهود التي تبذلها الدولة، لأنه ليس هناك إرادة حقيقية للحفاظ عليها والارتقاء بها .
وعن اهتمام الأسر العربية بتعليم الأبناء لغة الضاد، قالت: الأسرة العربية لا تنفصل عن المحيط السياسي والاجتماعي . حين تغلب على المجتمع لغة السوق، ويخضع العلم لحاجات سوق العمل الذي يخضع بدوره لتطلعات اقتصادية لا حدود لها وأرباحٍ مادية على حساب الإنسان والقيم والمبادئ يصبح الحديث عن الاهتمام بالعربية ترفا وربما تخلفاً . وليس مستغرباً أن تجد بعضهم يتحدث عن تخلف العربية في الوفاء بمتطلبات العصر ومستجداته الثقافية والتكنولوجية .وفي الحقيقة اللغة لا تتخلف، إنما يتخلف أهلها حين يبحثون عن أقصر الطرق لمواكبة الجديد بتعلم اللغات الأخرى، الأسرة العربية الآن متنازعة بين الحفاظ على الموروث الثقافي والفكري والانفتاح على الآخر .
وأكدت الشاعرة والأديبة صالحة غابش أن اللغة العربية رغم تراجعها لن تختفي، فهي محفوظة من الخالق لأنها لغة القرآن الكريم، لكن المشكلة تكمن في طريقة تعامل أبنائها معها . وقالت: تحدثنا كثيراً عن أسباب تدهور العلاقة بين اللغة والناطقين بها من جيل الشباب بشكل أساسي ومنها تراجع دور المدرسة ومناهج الدراسة، إذ نجد أن وسائل الجذب والتحفيز على تعليم هذه اللغة في المدارس غائبة، ودائماً تقدم بشكل جامد وصارم عكس اللغات الأخرى، كما أن الأسرة العربية الآن أصبحت تتباهى بتحدث أطفالها الإنجليزية على حساب العربية، ومهما حاولنا إقناع الأم بأن هذا الأمر خطأ فكلامنا مرفوض .
وأكدت غابش أن وسائل الإعلام من أهم أسباب تراجع الاعتماد على اللغة العربية الفصحى بعد ظهور العديد من البرامج الحوارية التي يكون الاعتماد فيها على اللهجات المحلية للدول صاحبة البرنامج، أما البرامج الإذاعية فكلها تحولت لبرامج جماهيرية خفيفة تعتمد على الغناء والفواصل . وأضافت هنا لا نرفض هذه البرامج، لكن نؤكد ضرورة وجود برامج تتخذ من العربية الفصحى أساساً لها .
تعليقاً على مساهمة وسائل الإعلام في تراجع الاعتماد على اللغة العربية قال د . علي الشعيبي، أستاذ الإعلام بجامعة عجمان: طالما تعرضت لغتنا الجميلة لانتهاكات كثيرة، هدفها ضرب هذا المتراس الثقافي الذي يعتبر علامة بارزة من علامات توحيد هذه الأمة وارتباطها بلغة القرآن . وجرت هذه الانتهاكات تارة باستخدام اللهجات المحلية وأخرى ببعض الألفاظ من الإنجليزية أو الفرنسية، لكن الطامة الكبرى ظهرت في السنوات الأخيرة بعد انتشار العديد من القنوات فيما عرف ب"غابة الفضائيات" .
وأوضح الشعيبي أن هذه الفضائيات اعتمدت على العديد من المذيعين والمذيعات الذين لا ينطقون العربية بشكل سليم، ولهذا استخدموا بعض اللهجات العامية، واعتبر طغيان هذه اللهجات مؤشراً خطراً على انحدار العربية . وقال: تنازل العديد من الإعلاميين عن معايير النطق السليم، تلك المدرسة الخالدة التي رسخت قيمها واحدة من أهم الإذاعات العربية "صوت العرب"التي كان يخضع فيها المذيع لقواعد صارمة فيما يخص النطق السليم وسلامة مخارج الألفاظ والقدرة على الإلقاء المؤثر، لذلك اعتقد أن الحل يكمن في عودة فكرة معاهد التدريب على النطق السليم و القدرة على التجويد ثم الإصرار على أن يكون الإعلامي ملماً بقواعد الصرف والنحو والتحدث بشكل سليم بعيداً عن الأخطاء التي من شأنها التسبب في مزيد من التلوث السمعي .
تستعيد عافيتها
مريم بالعجيد، المحاضرة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الشارقة لها رأي مختلف، عن واقع لغتنا وقالت:لا أؤيد القول إنها في تراجع، وليس من العدالة أن نقارن وضع العربية اليوم بعهدها الذهبي الذي كان فيه أهلها يجيدونها سليقة، كما أنه ليس من الإنصاف أن ندعي أنها تتقهقر خاصة في ظل الجهود المتصاعدة التي يبذلها قادة الفكر ومحبو اللغة ومنصفو قراءة الأوضاع الراهنة . العربية تستعيد صحتها الآن بشكل رائع، ولن ندعي أنها ستعود ذهبية قريباً، لكن يكفينا أن نلحظ ونقرأ أنها تنفض غبار الهزال والضمور عن ألسنة أبنائها وهذا إنجاز تتلاحق دلائله .
وأضافت بالعجيد: إن لمحة خاطفة ومنصفة على واقع اللغة العربية اليوم في ساحة وسائل الإعلام كفيلة بأن تجعلنا ننتشي طربا بحروفها وتراكيبها الجميلة الفصيحة التي بدأ الإعلام يعبأ بها ويزيد من إصراره على تحميل رسائله وبخاصة الموجهة للأطفال والناشئة عبر العربية الرصينة قدر المستطاع، في سعي يقف خلف قرارات رسمية واهتمامات قيادية واعية بقيمة اللغة في صيانة الهوية والكيان على نحو ما تحظى به العربية من اهتمام في الإمارات .
جهود تحاول إصلاح ما أفسدته الألسن
في الوقت الذي نشتكي فيه من تراجع لغتنا العربية هناك أسئلة لابد من طرحها منها ما أهم الروافد والحلول التي يجب أن نعتمد عليها للحفاظ على هذه اللغة التي تمثل هويتنا العربية؟ وهل تكفي بعض المبادرات والوسائل التعليمية والإرشادية التي يرى فيها أصحابها وسيلة لتدعيم استخدام العربية بين الأجانب والعرب أنفسهم؟ حاولنا معرفة الإجابة مع عدد من المختصين .
أشاد راشد الكوس، مدير مشروع "ثقافة بلا حدود" بالعديد من المبادرات والمساهمات التي تقدمها القيادة الرشيدة للحفاظ على اللغة العربية وتعزيز استخدامها بعد حالة التراجع التي تعرضت لها في مقابل علو شأن باقي اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية، ورأى أن من هذه المبادرات التي تعد من أهم روافد تعزيز لغتنا مشروع "ثقافة بلا حدود" الذي يهتم بتوفير مكتبة عربية في كل بيت في إمارة الشارقة، وذلك لدعم الكتاب والقلم العربيين .
وأشار الكوس إلى أن الاهتمام باللغة العربية وتعزيز مكانتها لابد أن ينبع من الأسرة، فبعض الآباء والأمهات الآن أصبحوا يتباهون بتحدث أولادهم بالإنجليزية غير مبالين بمستواهم في لغتنا الأم، كما أن وسائل الإعلام عليها أن تضع في خططها وبرامجها ما يسهم في نشر الثقافة العربية وقواعد النحو والصرف بطرق جاذبة ومبسطة،وعليها أن تزيد من الإشارة لخطورة اللغة المختلطة الممزوجة بالعربية والإنجليزية أو ما يسمى "العربيزية" التي انتشرت الآن بين جيل الشباب وتعد كارثة حقيقة تهدد اللغة والهوية العربيتين .
اتفقت الشاعرة جميلة الرويحي مع هذا الكلام، وأضافت أن الحفاظ على العربية مسؤولية مجتمعية، فالأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام والأندية كلها لابد أن تعي أن العربية لغتنا الأم وأن تعزيزها تعزيز لتراثنا وثقافتنا وحاضرنا ومستقبلنا،ويجب ألا نكتفي فقط بمبادرات القادة أو جمعيات حماية اللغة، لأن تراجع لغة القرآن أمر يحزننا جميعاً .
وقالت عندما نذهب إلى دولة أجنبية علينا أن نجيد لغتها حتى نتمكن من التفاعل مع أهلها، لذلك علينا في الإمارات التي تضم آلاف الجنسيات واللغات أن نجبر كل من يعيش فيها على إجادة لغتنا حتى نتفاعل معه، سواء في الأسواق أو المواصلات العامة أو داخل المصالح الحكومية، وهذا لا يمنع أن نجيد بقية اللغات الأجنبية تماشياً مع روح العصر وأن نعلمها لأولادنا، لكن في المقابل علينا جميعاً أن نتكاتف للحفاظ على لغتنا التي تعبر عن هويتنا، سواء على أرض الوطن أو خارجه .
هناك الكثير من المبادرات والمؤتمرات والجمعيات التي اهتمت بتعزيز لغتنا، حسب د . مريم سالم، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمارات سابقاً، وهذه الحلول هي محاولات ناجحة ومميزة للمحافظة على مستقبل لغتنا في ظل الهجمات الشرسة من بقية اللغات واللهجات الأجنبية . وقالت: بجانب هذه الحلول التي رأى أصحابها فيها حلاً لتراجع اللغة، لابد أن نعمل كأفراد ومؤسسات في المجتمع على المساهمة الفاعلة في الحفاظ عليها من خلال عدة أساليب أهمها، زرع حب اللغة في قلوب الصغار منذ مرحلة الحضانة والحرص على تقديمها لهم بطرق مشوقة وبسيطة بعيداً عن أساليب التعليم الجافة،فنحن جميعا تعلمنا قواعد اللغة الإنجليزية عن طريق الألعاب والموسيقى هذه الطرق محفورة في ذاكرتنا . وأضافت: لابد أن تكون العربية هي اللغة المرجعية الأولى والأهم، مع المحافظة على تعلم بقية اللغات، وإذا كنا نريد فعلاً تدعيم استخدام العربية في عصر التكنولوجيا علينا رفد محركات البحث العالمية بمزيد من المواد والمعلومات البحثية باللغة العربية حتى يتمكن الباحث من الاطلاع على ما يريده من دون اللجوء للبحث بلغات أخرى تتسم بكثرة المعلومات، ولا نستطيع أن نغفل أهمية القراءة ونشر كتب الأطفال والكبار في كل أنحاء الإمارات .
شهدت السنوات العشرون الماضية، اهتماماً عالمياً بلغتنا برأي د . رضوان الدبسي، مدير تحرير مجلة "العربية" والعضو المؤسس بجمعية حماية اللغة العربية، وأشار إلى إنشاء المراكز والمعاهد التي تهتم بتعليم العربية للعرب وغيرهم، وأن لدول مجلس التعاون الخليجي نشاطاً ملحوظاً في هذا المجال، كما في أغلبية الدول العربية مثل مصر وسوريا .
وأضاف الدبسي: عصر العولمة الذي نعيشه يطالبنا بأن نكون أكثر إدراكاً لما يجري حولنا من انتقال سريع للمعلومات، وتبادل واسع للثقافات، بوسائل التقنية الشائعة، ولنجاحنا في التقنية مع لغتنا علينا تحديث وسائل تعليمها وتطوير مناهجها، وتأهيل معلميها بالتعليم التقني، ومساعدة الطلاب بإيجاد الوسائل الفاعلة لتضعهم أمام تحديات عصرهم بالمعرفة والإبداع، وإتقان ثقافة الحاسوب ببرامج عربية تنطلق من المحافظة على أصالتنا في لغتنا التي تعبر عن هويتنا .
مبادرة شبابية
يسرا الهاشمي فتاة إماراتية حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على اللغة العربية، بين الناطقين بها والأجانب من مختلف الجنسيات والأعمار، عن طريق مشروعها "اقرأ" الذي وفرت من خلاله العديد من الدورات التعليمية بمراحل مختلفة طبقاً للمستويات "مبتدئ، ومتوسط، ومتقدم" وتقدمها عن طريق أساتذة متخصصين في العربية وقواعد النحو والصرف والنطق السليم .
وعن هذه الفكرة قالت: لاحظت أن الجيل الجديد لم يعد يتقن لغتنا التي تعبر عن هويتنا العربية، في ظل تعدد الجنسيات وانتشار المدارس الأجنبية، لذلك فكرت في تأسيس هذا المركز الذي يمكن من خلاله أن أسهم في تقديم حلول ولو بسيطة لهذه المشكلة، إضافة إلى أن هناك من يريد تعلم العربية من الأجانب لكنه لا يجد المكان المناسب لتحقيق هدفه، ومن خلال مركز "اقرأ" وفرت هذا المكان مع عدد من أهل الخبرة والعلم القادرين على تقديم اللغة العربية بأسلوب سهل وفي الوقت ذاته متقن، وشهد المركز إقبالاً كبيراً من الجميع، سواء أجانب أو عرب أو طلاب مدارس وجامعات .
الخليج
|
|
|
|
|