|
|
الصحافة والأدب
د. ثمامة فيصل بن أبي المكارم
قد يسأل سائل : ما هي العلاقة بين الصحافة والأدب؟ فالجواب أن العلاقة بينهما قوية ، وثمة قواسم مشتركة تربط أحدهما بالآخر ، والصحافة لها يد بيضاء في تطور الأدب وازدهاره. فإنْ كان الأدبُ عبارةً عن الكلام الإنشائي البليغ الذي يُقصد به إلى التأثير في عواطف القراء والسامعين ، سواء أكان شعراً أم نثراً ، فإنَّ الصحافة هي إحدى الوسائل المهمة التي تُعِينُ الكاتبَ والأديبَ على توصيل إنتاجه الإنشائي البليغ إلى جمهور من القراء ؛ فعن طريق الصحافة ينال مرامه ، وبواسطتها يتحقق مقصوده ، وبفضلها يصل إنتاجه إلى القراء على بساط الريح ، وينتفع به كل قاص ودان ، ويطَّلع عليه كل حاف ومنتعل.
كان الأدب ، قبل ظهور الطباعة والصحافة ، مقصوراً في مجالس الأمراء والخلفاء والسلاطين ، محصوراً بين العلماء والأدباء والوجهاء والأعيان المحيطين ببلاط الحكام والولاة ، ولم تكن كتب الأدب في متناول كل من يريد الاستفادة منها ، وكان جلُّ اهتمام الأديب منصرفا إلى استرضاء الطبقة الحاكمة أو الشريحة العليا من مجتمعه ، وكسب ثقتها ؛ لكي يظفر بما يطمع فيه من الجوائز والأموال ، ويكتسب ما يتطلع إليه من الصيت والسمعة ، فلم يكن نطاقُ الأدب يشمل جميعَ أوساط المجتمع وكافة طبقاته ، ولم يتناول أحوالها وظروفها ، ولم يعالج قضاياها ومسائلها ، ولم تكن تصل فائدته إلى عامة الناس كما ينبغي ، وما زال الأدب بشتى فنونه وألوانه بعيد المنال للسواد الأعظم من أفراد المجتمع.
وظل حال الأدب على هذا المنوال ، وبقي مصطبغا بصبغة (الانطواء) و(الأرستقراطية) ، منكمشا على نفسه ، منطويا على ذاته ، متقلصاً في نطاقه المحدود ، لا يكاد يتعدى هذه الحدود ، ولا يكاد يتخطى هذه الحواجز ؛ حتى اخترع العلماء المطبعةَ ، وحدثت الثورة الكبرى في مجال النشر ، فحلت الطباعة محل النسخ باليد ، وبدأت طباعة الكتب القديمة منها والحديثة بكمية هائلة وعدد جم ، وتوافرت في كل حدب وصوب ، واستطاع عامة الناس اقتناءها بيسر وسهولة في مشارق الأرض ومغاربها.
وتزامن ظهورُ الطباعة ورواجُها نشأةَ الصحافة وتطورَها في مختلف أنحاء العالم. ولم يلبث أن أقبل عليها الأدباء والكتاب في كل بقعة من بقاع الأرض ؛ كأنهم وجدوا فيها ضالتهم المنشودة.
ومع تطور الطباعة تطورت الصحافة وقامت بدور بارز في تحرير الأدب مما كان قد تَكَبَّلَ به من أغلال الانطواء والانكماش في شرذمة قليلة من الناس. وتَسَارَعَ الأدباءُ إلى استخدام هذه الوسيلة الإعلامية المهمة المتمثلة في الصحف والمجلات ، وأخذوا ينشرون بها إنتاجاتهم الأدبية وكتاباتهم الفنية. ولا نكاد نلتقي كاتبا أو شاعرا ، منذ ظهور الصحافة في العالم بشكل عام وفي العالم العربي بشكل خاص ، إلا ونراه يستخدم الصحافة كوسيلة أساسية لنشر إنتاجه الأدبي ، فالصحافة منصة الإطلاق لطموحاته وتطلعاته الأدبية والفنية.
وعندما نلقي نظرة على تاريخ الصحافة في مصر ، نرى أن أدباءها احتلوا ، منذ فجر الصحافة العربية في الديار المصرية ، مكانة ملموسة على صفحات معظم الصحف والمجلات. فجريدة (الوقائع المصرية) التي تعد أول صحيفة عربية في الديار المصرية - مع خلاف في ذلك بين المؤرخين - كانت تضم ، بجانب احتوائها على الأنباء الرسمية ، روائع أدبية لكتاب عصرها. ولما أصدرت نظارة المعارف المصرية في زمن علي مبارك (ت 1892م) مجلة (روضة المدارس) ، تحت إشراف رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873م) ، وَجَّهَهَا نحو غايتين : إحياء الآداب العربية ، ونشر المعارف والأفكار الغربية الحديثة. وعاونه في ذلك نخبة من الأدباء والكتاب في عصره ، فكانت المجلة تنشر مباحث طريفة في الأدب والعلم بفروعهما المختلفة.
وقد أشار الدكتور شوقي ضيف في كتابه (الأدب العربي المعاصر في مصر) إلى هذه الصلة القوية بين الصحافة والأدب ؛ حيث قال : (إنَّ تخولا واسعا أصاب أدبنا عن طريق هذه الصحافة ، فإنها أخذت تعالج موضوعات سياسية واجتماعية واقتصادية لا عهد لأدبنا القديم المسجوع بها ، فقد كان أدباً لفظياً ، ولم يكن محشواً بمعان لا قومية ولا إنسانية ، بل كان فارغاً ، فملأت الصحافة فيه هذا الفراغ ، ووصلته بالآداب الغربية وما فيها من دراسات في شؤون الحياة وحقائق العلوم والمذاهب والفلسفة.
وأثرت الصحافة في أدبنا أثراً آخر لا يقل عن هذا الأثر أهمية ، إلا أنه يتناول في هذه المرة الظاهر والثياب الخارجية ، فقد كنا نستخدم أسلوبا مسجعا معقدا بعقد البديع ، وهو أسلوب كان يمكن أن يقبل في العصور السابقة حين كان الأدب يخاطب بيئة خاصة هي البيئة الأرستقراطية ، أما اليوم فإن الصحف لا تخاطب بيئة بعينها ولا طبقات بعينها ، وإنما تخاطب جماهير الشعب التي لا تعرف التعقيد ، بل التي تَكْلَفُ بالبساطة والسهولة).
|
|
|
|
|