|
|
الكِتَابة الإِبداعيّة
د. نوال بنت سيف البلوشية
إنّ إتقان لغة ما يقتضي التّمكن من استخدامها على الصّعيدين الشّفويّ والكتابيّ؛ ذلك يعني إتقان مهارات اللّغة الأربع – الاستماع، التّحدث، الكتابة، القراءة - ، وعلى أثرها يتم التّنسيق بينها في تحقيق مهارة الاستماع والتّحدث كمهارات مركبة. وبذلك يتبيّن أنّ المهارات كلها تحقق معًا في ما يُعرف بالكفاءة اللّغويّة الّتي عرّفها ناعوم تُوشومسكي بأنّها: المعرفة الضّمنيّة الّتي يمتلكها كلّ متحدثٍ أو مستمعٍ عن لغته؛ باعتبارها نظام مستبطن من القواعد الّتي تُتيح للدّماغ أنْ ينتج وأنْ يفهم عددًا لا حصر له من الجمل؛ بذلك نجد الكفاء اللّغويّة من المنظور الشّومسكيّ تتمثل الإبداعيّة؛ أي قدرة الإنسان اللّامحدودة في إنتاج الجمل.
لذا يعدّ التّمكن في مهارة الكتابة ضرورة عالية في تحقيق إتقان لغة ما، وهي تتطلب نضوجًا عضويًا: حسًيا حركيًا، وعقليًا متأخرًا نسبيًا. وتعلّمها لا يتم إلا في إطار مدرسيّ منظم ومبرمج، على خلاف مهارتي الاستماع والتّحدث اللّتين يتعلمها الفرد قبل سن المدرسة، في إطار الأسرة والبيئة المحيطة.
وإذا ما صنفنا مهارة الكتابة من حيث وظائفها؛ وجدنها لا تكمن في شكلٍ واحد وإنّما في أشكالٍ عدّة منها الكتابة الوظيفيّة، ومنها الكتابة الإبداعيّة، وتحت الإبداعيّة البعض يصنف شكل ثالث يُعرف بالكتابة الابتكاريّة. والكتابة بنوعيها الوظيفيّة، والإبداعيّة مهمة للفرد في المجتمع المعاصر؛ لقضاء احتياجاته الحياتيّة اليوميّة العمليّة والعلميّة من خلال النّوع الأوّل، وللتعبّير عن ذاته وخلجات نفسه من خلال النّوع الثّاني.
والكتابة الوظيفيّة تتمثل في الكتابات الّتي تهتم بإيصال الفِكر في الموضوع المطروح في ثوبٍ موضوعيّ بعيد عن الخيال والآراء الشّخصيّة، بينما الكتابة الإبداعيّة تهتم بإيصال الفِكر في ثوب يتوشحه العاطفة والخيال الّذي يعتمد على البلاغة والبيان في تحقيق إيصاله.
سيقتصر المقال الّذي بين يدينا على الكتابة الإبداعيّة، والكتابة الإبداعيّة عمليّة عقليّة تتطلّب جهد كبير؛ لينقل الفرد رسالته للأخرين؛ ولكي يكون العمل الإبداعي أصيلًا في ثوبه، لابد أن تكون الأفكار المنقولة في النّصّ المعروض بعيدًا عن المألوف بطريقة مبتكرة توشحها الزّخارف اللّغويّة المستوحاة من البلاغة العربيّة؛ كالتّشبيه والكناية والاستعارة وغيرها من المحسنات البديعيّة. والكتابة بطبيعتها عملية عقليّة عالية التّعقيد تتضمن عمليات متنوعة كتوليد الفكر، وصياغتها على هيئة مسودة، والمراجعة، والتّنقيح، والنّشر وهذه العمليات لا تتم في خُطى؛ وإنّما في تتابعٍ حلقي بالدّماغ.
لذّا كانت هناك علاقة قوية بين التّفكير الإبداعيّ و الكتابة الإبداعيّة على اعتبار أنّهما يشتركان في مكونات الإبداع سواءٌ أكانت في الجوانب المعرفيّة – الطّلاقة، المرونة، الأصالة – في الكتابة، أم كانت في الجوانب الوجدانيّة لدى الكاتب المتمثلة في الخيال؛ لأنّ قوام الكتابة الإبداعيّة التّفكير الإبداعيّ، وقوام التّفكير الإبداعيّ المعرفة والخيال؛ لولا المعرفة لتعذر نشوء الخيال حتى في أدنى مستوياته لدى الفرد؛ والّذي يدلل على ذلك ما بيّنه فرديناند دوسوسير في توضيح الدّال والمدلول حيث بينها بالعلامة اللّسانيّة؛ والعلامة اللّسانيّة عند دوسوسير مركبة من "المفهوم" و "الصّورة السّمعيّة"، بعدها صرّح دوسوسير بالإبقاء على مصطلح العلامة للدّلالة على الكلّ وتعويض "المفهوم" و "الصّورة السّمعيّة"، بلفظيّ الدّال والمدلول.
ولو تأملنا في أليّة الكتابة الإبداعيّة لوجنا قاعدة دوسوسير في توضيح الدّال والمدلول حاضرة مستبدلين فيها الصّورة الكتابيّة بالصّورة السّمعيّة كأداة للإيصال، يترجم فيها الكاتب الصّورة الإبداعيّة المتواجدة في عقله على هيئة جمل وتراكيب مكتوبة؛ لذلك كان إتقان أيّة لغة من اللّغات تتطلّب جودة اللّسان نطقًا والبيان كتابةً.
|
|
|
|
|